الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صمويل بيكيت:رحلة في مدارات خربة

وسيم بنيان

2020 / 11 / 4
الادب والفن


(الحب الأو
اذا كانت الحياة لا تستحق ان تعاش،فالكتب لا تستحق ان تكتب. كولن ولسن



نماذج :

1- (بانتظار غودو)
(لاشيء يحدث،لا أحد يأتي،لا أحد يذهب،هذا شيء رهيب.) ايستراغون

لقد كتب الكثير عن هوية غودو.لكن الرؤية الأكثر عمقا ودلالة،هي تلك التي تؤكد:غودو هو ما نعتقد،وشيئا آخر غير الذي نعتقده.انه الغائب الذي يمكن تأويله على انه الخالق،أو ربما الموت، ومن الممكن أيضا أن يكون المستبد بوزو نفسه.ومع ذلك فلغودو وظيفة أخرى اكثر من كونه يشكل دلالة محددة، فهو الوهم الذي يبقينا مقيدين بهذا الوجود.وهو الشيء الذي لا سبيل إلى معرفته.غودو صورة وهمية أو خيال،لما نريده نحن أن يكون.طالما باستطاعته أن يسوغ حياتنا كحالة من الانتظار.ربما هو الانتظار نفسه ومن الممكن أن يمثل الأمل في زمن لا أمل فيه:
"ليس ثمة شيء يمكن عمله" ايستراغون.
"لقد بدأت اقتنع بهذه الفكرة" فلاديمير.

المسرحية مشيدة من فصلين متماثلين ومكررين،يحدثان في يومين متعاقبين،في شارع ريفي.وبالقرب من شجرة جرداء يجلس متشردان، أحدهما يدعى فلاديمير(ديدي)، والآخر ايستراغون(غوغو)، بانتظار شخص يدعى غودو،لم يلتقيا به من قبل وحتى لو قابلاه فلن يعرفانه.ومع ذلك يعتقدان،انه من رتب هذا اللقاء في مكانهما هذا.في منتصف النهار يصل شخصان سيد وعبده، الأول يدعى بوزو، والآخر لاكي.يخبرهم بوزو بأنه صاحب هذه الأرض التي يقفان عليها الآن،يجر السيد خادمه لاكي بواسطة حبل شد برقبته ويأمره أن يجلب له الطعام،فيمتثل أمره ويجلب له دجاجة يلتهمها فورا ويرمي عظامها إلى لاكي.بعدها يخبرهما انه ذاهب لبيع خادمه لاكي ويغادران.يصل صبي في آخر النهار ويخبرهما أن السيد غودو،لم يستطع الحضور هذا المساء لكنه سيحضر في الغد حتما.في صباح اليوم التالي يعود بوزو ولاكي ثانية.وقد اصبح الأول ضريرا والثاني اخرسا.كما ان بوزو يتحول عبدا،ولاكي سيدا،(تبادل أدوار)،يظهر الصبي مرة أخرى مكررا عليهما جملته السابقة ذاتها، شاجبا انه جاء إلى هنا في الأمس أو كان قد التقى بهما من قبل.في النهاية يقطع المشردان عهدا على نفسيهما،في المغادرة والعودة ثانية لانتظار غودو:
فلاديمير:حسنا، هل ينبغي علينا أن نغادر الآن؟
ايستراغون: نعم،هيا بنا.
(يتسمران مكانهما)!

إن هدف انتظار فلاديمير وايستراغون لغودو،الذي لن يصل مطلقا هو أن يضعا نظاما أو منهجا لحياتهما،لكنهما يخمدان شيئا فشيئا وسط لا جدوى الانتظار،مكررين جملة واحدة.لعل ثيمة المسرحية نموذجا لكيفية تزجية الوقت.

2- (المسرحية)

(لابد من التفكير بأننا لم نكن أبدا معا) م.
3جرار رمادية كبيرة.من النوع الذي يوضع فيه رماد الميت ،الذي أوصى أن يحرق بدل الدفن.داخل كل جرة مواجهة للجمهور،ثلاثة رؤوس لثلاثة أشخاص جالسين داخل الجرار. لندرك بسرعة انهم زوج وزوجته، وعشيقته.الزوج في الوسط،والزوجة إلى اليمين،والعشيقة إلى اليسار.وندرك بسرعة انهم يحملون الأسماء التالية:
م.(الحرف الأول من ذكر أو زوج بالإنكليزية)، و(دبليو1)الحرف الأول من امرأة، و(دبليو2).ومن البداية نلاحظ أن الشخصيات الثلاث تبدو بلا سن محدد.بل من دون ملامح، إذ صار لكل منها لون رمادي.اما الديكور الذي يحوي هذا كله،فهو ارض جرداء تبدو كمقبرة.وفي الخلفية شجرة تعصف بها ريح،تتناسب مع الغيوم والطقس الخريفي المنتشر.ومن أول المسرحية إلى آخرها تتلو الشخصيات نصوصا خاصة بها،ولا يظهر اي نص وكأنه يجيب على النص الآخر.فلسنا أمام حوار مثلث الأطراف بل أمام ثلاث(مونولوغات) متقاطعة.إن دارسي بيكيت سيقولون لاحقا،انه نفسه فيما كان يصوغ هذه المسرحية عمد إلى كتابة كل نص من نصوصها على حدة،ثم قام بعملية تقطيع وقص وتوليف.اما الشخصيات الثلاث فلا تبدو مدركة وجود الشخصيتين الأخريين.وفي الإخراج ما يعزز هذه الفكرة. فحين تتحدث الشخصية يسطع النور عليها،فيما تقبع الأخريان في الظلمة والصمت.والحديث كله يدور بصيغة المتحدث. يطالب بيكيت في ملاحظاته الإخراجية المتقشفة أيضا،بان يكون هناك ضوء مركز واحد يتنقل بين الشخصيات تبعا لحديثها.حركية الضوء الوحيد هذه،وسيلة واضحة لمحو الشخصيتين.في الحقيقة أن ما لدينا هو زمن جامد،وصلب،تلعب اللغة في تكرارها وخوائها دورا في تعزيز جموديته. كل هذا جعل (مسرحية) تعتبر اقرب أعمال بيكيت، إلى المثل الأعلى السوريالي في الكتابة المسرحية.
اشارة:جل المعلومات هنا استقيتها من عدة مقالات نقدية عن بيكت ومسرحه وادبه،اغلبها مترجم وبعضها منقول دون ذكر المصادر غالبا.


آراء نقدية مختلفة:
(اشعر أن في أعماقي إنسان قتيلا ..إنسان قتل قبل ولادته) بيكيت.
الكلمة في بداية المقال، أوردها ولسون* وهو في صدد نقده الحاد لبيكيت في كتاب(المعقول واللا معقول في الأدب الحديث)،حينما سجل بعض النقاط.وكولن من النقاد القلائل،الذين يتميزون بقوة الملاحظة، ودقة التحليل،وروعة العرض.وهو لا يجامل أي أحد على حساب الحقيقة التي يؤمن بها أو تتراءى له من الدراسة والتتبع والتحليل. واختزلت تلك المقالة على ما اعتقد أسلوب وفضاءات بيكيت المفرطة في ظلاميتها ويأسها.حتى أن المستغرق في عوالمه تلك،والمتتبع لانفلاته التشاؤمي الحاد، والخطير،لا يستطيع أن يتلمس أو يلحظ وجود مدارات فيها قبس من نور وضياء مهما كان ضئيلا.ومن الواضح -بالنسبة لي على الأقل- أن الحق إلى جانب ولسون. حيث أن السلبية والتشاؤمية البيكيتية الخانقة لا تفتح أي مجالا للتنفس ولا تعطي أدنى بادرة من الأمل.وفي معرض نقده ذاك، يستعرض ولسون بعض الديكورات البيكيتية من مسرحية(نهاية لعبة) ويسجل النظرة السيئة التي يضمرها بيكيت في وعيه أو لا وعيه لوالديه. حيث أن بيكيت يضعهما في براميل القمامة.وقد علق أنيس زكي حسن مترجم الكتاب بهامش مفاده:يبدو ولسون هنا متحيزا وغير منصف بشان بيكيت،الذي يقصد برمزيته العالية بالمسرحية بؤس الحياة ولا معناها ولا هدفها...
ربما كان فيما أورده المترجم بعض الوجاهة، لكن إساءة بيكيت لوالديه تبدو واضحة وهو يكررها في اكثر من مورد.واتصور ازدرائه بهما نابعا من كونهما السبب المباشر الذي جاء به إلى هذه الحياة.التي لم يستطع أن يلمس فيها أي معنى،و لا يدرك لها مغزى.بل هي بالنسبة أليه صنعت من اجل أن تسخر من الإنسان والوجود بشكل عام.وانه أمام كل الفجائع والأحزان التي جرت ويلات الحربين العالميتين :(ليس ثمة شيء يمكن عمله).وعلى هذا لم يبال بيكيت بوالديه،ولم ير فضلا لهما.بل -وهذا يستشف من فحوى رؤاه العامة-انهما يستحقان العقوبة على جريمة إنجابه الحقيرة.و في قصة (الحب الأول)1،يتحدث بيكيت عن والده قائلا:(اربط،عن صواب أو خطأ،زواجي مع وفاة والدي،في الزمن..) وهو طبعا يتشاءم من الحب والزواج ويحتقر أي علاقة حبية من هذا النوع.ومن هنا نتلمس أن رابطة زواجه بوالده مغزاها احتقاري بمنحى واع أو ليس واعيا.ويقول عن والده في نفس القصة:(سجلت تاريخ وفاته،وفاته وحسب،لأن تاريخ ولادته لم تكن لتعنيني)،إلغاء واضح ومتعمد من اجل تأصيل الاحتقار.فاحتقار تاريخ الميلاد هو احتقار بالتالي لمجمل تاريخ الفرد.ومن هنا إلغاء يوم الميلاد الأبوي هو بدوره إلغاء لكل تاريخ الأب ووجوده ومن هنا يصر بيكيت، على أن يلغيه من حساباته.وقد أجاد في هذا الإلغاء التام بعبارة متقشفة ومختزلة أدت غرضها بشكل كامل. وبتسجيله لتاريخ الوفاة، أي اعترافه العميق واحتفائه به،يتمادى الإلغاء إلى عمق الذاكرة البيكيتية.ويضرب على طبول احتقاره متواصلا في مكان آخر من القصة:(كله مختلط في رأسي،المقابر والأعراس وغيرها من أنواع البراز...) تأكيد واضح بلا أي مواربة نفس البغض والاحتقار ولنفس القضيتين،فالمقابر يقصدها الناس لتذكر أمواتهم وكسرا لأطواق الاشتياق في نفوسهم تجاه فقد أحبتهم،والأعراس تتضمن في طياتها الولادة/الميلاد.لذلك هو يقرن الأعراس التي تستجلب الميلاد والحياة الجديدة عبر الأطفال الجدد،والمقابر التي تعد أرشيفا أصيلا من أرشيف الذاكرة البشرية من اقدم العصور وحتى الآن بالبراز.وعلى أي حال هناك الكثير من النقاد والكتاب من الغرب والشرق يصرون على كون بيكيت كاتب في غاية النبوغ،ويؤولون سوداويته ويأسه الخانق بتأويلات تبرز في غاية التكلف.كما هو الحال مع اكثر الأبحاث والمقالات النقدية التي تورد تفسيرات لا نكاد نلحظ فيها أي قصدية للكاتب، سوى تبريرات نظرية في غاية السطحية.وبعيدا عن كل تأويلات متكلفة، واراء متعسفة.يبدو لنا بأن بيكيت شأنه شأن اكثر الذين مروا بأزمات حادة ومريرة،لم يتسن لهم كبح جماحها أو تغيير قسوتها بعشرات الوسائل،بل ظلوا يحتفظون بكل تلك المآسي بذواتهم حتى غدت جينة في تفكيرهم وثقافتهم،فاندفعوا بكل طاقاتهم ينقشون جحيم تلك المعاناة كلما واتتهم الفرصة.والغريب أن حتى الكتابة،هذه الممارسة الفنية والإنسانية الفذة،لم تنقذهم رغم انها تملك أقوى إكسير لتحويل الحزن والألم إلى طاقة فياضة من الجماليات والقصديات والاعتبار بكل تجربة. لكنهم اكتفوا بتسخير طاقات اللغة الهائلة إلى ماكنة تنتج الألم والعذاب دون هوادة،لكنها لم تتخل عنهم على كل حال،فكما يبدو قد أنقذتهم من جنون محتم.ولا ادري أن كان بيكيت ومن خط خطاه لا يعرف الكتابة أكان مصيره غير الجنون؟
ولا يفوتني هنا من التناص مع الفريق الثاني الذي حاول أن يرد على هذه العوالم المظلمة البشعة،واذا برده وقد جاء هو الآخر مفرطا،حين راح ينظر إلى تفاؤل جارف يبتعد عن الواقع نحو تخوم النرجسية،فانتج،تبعا لذلك، أدبا مخنثا وتافها من نوع (ولا تزال الشمس تشرق )** و(غاتسبي العظيم)،ففي الرواية الأولى لاشيء سوى التفاهة ومصارعة الثيران والتسابق إلى الحانات وكأن الحياة ملهاة عجائبية من الانفلات والتفاهة،ولا يوجد فيها شيء من الألم أو المرارة ولن تعرف الفجائع يوما.اما الرواية الثانية،فلست ادري حقا ما أقول بشأنها.وبعيدا أيضا عن تنطعات البنيوية، التي رأت في رمزية الشراشف في الرواية، رمزية عميقة ربما تقود بنيويا إلى التأرشف، والتشرشفية،وبالتالي اختزال الجنس وكل مفردات السرير والشرشف بكلمات مختصرة مشفرة،تبحث عن الفلاسفة العظام ويشترط أن يكونوا من أصحاب النزعة البنيوية لكي يفهموا فكرة رمزية الشراشف العظيمة.أما أنا،والصعاليك أمثالي، الذين لا يتمتعون بسر كنوز البنيوية سوف لن يفهموا شيئا عن الرمزية العظيمة التي جعلت من الرواية السابقة في مصاف الروايات العظيمة وما أكثرها.ومن الغريب حقا أن تجد كل -أو اغلب- النقاد والكتاب لا يرون الصور القاحلة والمفرطة اليأس، وكلما تحدثوا عن بيكيت، عرضوا فصولهم المكررة من تابع إلى آخر بشكل مضحك.لهذا لا تجد أي جديد بين ناقد واخر بشأن بيكيت.وان كان فضله على اللغة بالغا وكبيرا كما يقول المهتمين به من السادة الغربيين، فان هذا التأثير لا يبدو واضحا ولا نلمس له أي وجود في كتب بيكيت المترجمة.
من جهة أخرى توجد آراء نقدية مختلفة حول بيكت.لعل أغربها مقولة الممثل جاك ماكوران: الآخرون يرون بيكيت كئيبا،اما أنا فأراه كاتبا هزليا من الطراز الأول. وفي الحقيقة أن ماكوران لم يقل ذلك على نحو الدعابة،انما لمقولته ما يبررها.فحسب فهمي ما يقصده الإشارة إلى أحد فقرتين يتلمسهما المستغرق في النصوص البيكيتية أو كليهما،الأولى:ان قارئ بيكيت،سيجد تشاؤمه وآلامه محض سخرية وادعاء أمام عوالم بيكيت المغلقة واليائسة،وهذا أمر يبعث على السخرية بشكل غريب. والثانية، وتبدو لي اعمق واقرب للصواب،:هي أن السأم والمرارة،ومهما كان عمق ظلامهما،يستبطنان بعدا كوميديا وساخرا عند القارئ الواعي.حتى أن لم يشر الكاتب إلى السخرية ولم يلمح لها أيما تلميح. وهذا من الأدلة على أن إصرار بيكيت ومن معه ليس له أي مبرر لإظهار بعد واحد من أبعاد الوجود وبناء كل رؤاهم وتنظيراتهم عليه.

سنام الختام:
لعل البؤرة التي تحتوي ابعاد ادب بيكيت،وكما لاحظ ابرز نقاده،هي تقشفه على مستوى الاشياء واللغة.لكن المهزلة عربيا ان القطيع النقدي العربي الذي انبهر بأدب بيكت،تعاطى مع تجربته وكأنها فلتة من فلتات الزمان،وكوكب نادر من كواكب الوجود.كأن النقاد لم يسمعو بالأدب والشعر والفكر الصوفي،الذي سبق بيكت والغرب عامة بقرون!


*ما نقلته عن كولن ولسن،عن ذاكرتي لامن المصدر المشار آنفا اليه.

**الروايتان وبحسب الترجمة العربية،لا يستحقان الضجة الغريبة في الاوساط العربية،وان كان ثمة الماعات في رواية همنغواي،فأن رواية فتزجيرالد،وعبر الترجمة ايضا،بدت هراء وثرثرة وقبح محض.

1-انقل الفقرات عن بيكت من كتابه (الحب الأول وقصص أخرى) مع دراسة الآن باديو،ترجمها عن الفرنسية حسين عجة،منشورات أدب فن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن