الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خيبة

محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)

2020 / 11 / 5
الادب والفن


كانت تجلس الى أحد مقاعد المقهى ، أمامها فنجان قهوة .. كان على أحد المقاعد المجاورة يتابعها بنظرات الاعجاب وقد أبهرته بجمالها .. تنبض الحياة من عينيها الحجلاوين وشفتيها الممتلئتين ، ومن صدرها النافر المتناسق ،وكأن الله ما امدها بوجه قمحي وأنف خناسي صغير الا ليكمل صورة البهاء في خلقها ...
كان يتابعها بقلق هو نفس ما يعتمل في صدرها ، قلق وجودي وكأنها تخشى لحظتها وماقبلها وما بعدها ، أما قلقه اللحظي فقد تلبسه على من ترك أنثى بفتنتها على جمرات الترقب والانتظار ، تمسح بقلقها أركان المقهى وهي بين تعاطف ونفور من المكان ،تتابع كل داخل وخارج، تزفر قلقها ،يمناها على ساعتها اليدوية تارة و عيناها على ساعة المحطة ، تتعجل عقاربها السوداء الكبيرة
وكأن صهيلا ما يمور في نفسها ...
تلفتت لتجد عينيه لاتغادران وجهها ، رجل على وشك الستين يوحي مظهره بالوقار، شجعته ببسمة تحية وكان لها به سابق معرفة.. قذفت بسمتها في نفسه قوة ، هي نفس القوة التي حاولت أن تطرد بها كل اثر لانزعاجها النفسي ،أو جزع من انتظار طال .. ترك مكانه وتقدم منها ، حياها ثم سألها ان كان المقعد الثاني قبالتها فارغا..
قالت وكانها تهمس ردها :
تفضل ، لا احد
راقها ان تجد مؤنسا قد تبادله كلمات ريثما يصل من تنتظر ، فعلى الأقل تملأ به إحساس الغربة الذي شرع يدب الى نفسها ،وربما ان كان من نفس المدينة يستطيع أن يرشدها الى ما تريد ، الى أن تعود من حيث أتت حيث ينتظرها أخوها الذي تعلقت به ادعاء أنها تريد أن تزور صديقة عزيزة ، اقلقتها عيون الرجل التي التصقت بوجهها ، بصدرها ، وكأنها تريد ان تلتهمه، فهو أكبر سنا ممن تنتظر لكن لا باس ان تحتمله وتقضي وقتا في رفقته ولا تظنه يصل الى درجة العبث بها ..
أدركت أنه يروم قول شيء، او ربما يحاول كسر لحظة اللقاء الأولى، لكنه كان كثمل غيَّبه سكره فشرد ، لا يدري ما يدور حوله .. كان مفتونا بها والفتنة قد غيبت لسانه في حلقه ...أو ربما قارن عمره بعمرها فوجد أنها قد تستصغر شأنه ..
بادرته بسؤال عساه ينفك من وثاق دهشته :
هل السيد من سكان المدينة؟
رد بتلعثم وكأنه استفاق من نومة :
نعم .. اسمي عبد الكريم ، ناديني كريم
قالت وهي تقرأ اسم مؤلف كتاب في يده وقد اشرقت بسمة على وجهها ، فهي تعرف صاحبه ومن أجله أتت:
هل تعرف صاحب الكتاب الذي بين يديك؟
انتبه وكانه قد نسي مافي يده ، مسح الكتاب بنظرة وقال :
الكتاب لي ، مجموعة قصصية أنا صاحبها ..
اكفر وجهها مما تسمع ، هي مفاجأة حقنتها بنوع من القلق ،وقد أحست كمن أوقد نارا في صدرها ...
قالت من خلال اهتزاز صوتها :
ألم يكن السيد كريم يترقب أنثى في المحطة ؟
جفل !! .. كيف عرفت ؟ هل هذا من ذكائها ام مجرد حدس ؟
قال بتلعثم بَيِّن :
نعم ، لا .. لكن يكفي ان أحدث انثى بجمالك فأكون قد حققت هدف وجودي..
بدأت تخرج من جزيئاتها الى كلية زادت عمقها اضطراما
هو لا محالة ، كان ينتحل اسما وشخصية غير شخصيته وعمرا غير عمره الحقيقي ،كيف أغراها بالقدوم اليه وهو يدرك أنها
لن تصمت عن إهانة مثل هذه ؟ هل هو غرور الرجل ؟ أين المبادئ التي كان يروجها في احاديثه وخواطره وقصصه ؟هل صار كل الرجال عن بكرة ابيهم جرثومة واحدة يكذبون ويلفقون للإطاحة بأنثى ذنبها انها لم تستطع التحرر من ثقتها في الرجل رغم الدراسة والثقافة والتحرر المجتمعي والوعي بوجودها ؟
هي اللحظة أمام حقيقة لن تفر منها ويلزم أن تجابهها بما تستحق من سقي يروي غرور الجالس قبالتها وقد افتتن بجسدها قبل شخصيتها
قالت : السيد كريم اسمعني من فضلك :
عيب الرجل العربي انه لا يستقر على قرار ، يستغل دوما الحاضر السهل، يعشق المثل الذي تعلمه في صباه : عصفور في اليد خير من عشرة على شجرة ..أليس كذلك السيد كريم ؟
عبارتها أيقظته من غفلته ، وقد ابهرته بصراحتها وطلاقة لسانها ، لكن استغرب من لكنتها غير المغربية وهي لا تتكلم الا بالفصحى .. هل يعترف بحقيقة لحظته ؟، هل ينكر ؟
وجد نفسه أمام أنثى واعية بخبرة وثراء نفسي
بلع ريقه وقال : كل رجل امام انثى بجمالك لايملك الا ان يضعف..
رمت على وجهه بسمة ذات معنى ..عليها ألا تحسسه بقلقها ، بخيبتها ،بنوع من الاحتقار الذي صارت تحسه نحو الرجل العربي الذي لم يحاول ان يغير من نظرته الى أنثاه وكأنها ذيل تابع تنفذ بإشارة ،وتأتيه طوعا بلمحة .. قالت وكأنها تختبر عزيمته في التخلي عمن ينتظر :
أمد لك يد صداقة أولا فرجل في سنك لا يمكن أن أخشاه ، فهل تترك من تنتظر وتتجول معي في المدينة ؟
قال وقد بدا يتبخر تلعثمه وينطلق لسانه :
ولماذا لا ننتظرها ونصير ثلاثة أصدقاء ؟
ردت وعيناها مركوزتان في عينيه :
وهل انت واثق من قدومها ؟
قال: حتما هي في الطريق الى هنا
قالت بعد تنهيدة عميقة :
انك تربي يقينا وبه تكابر فلربما تأتي مع الشخص الذي انتظر
بسرعة رد : لا أظن فمن انتظرها ليبية وصلت من ساعة الى المغرب ثم ركبت سيارة أجرة الى هنا ..
ركزت في وجهه طويلا ثم بادرت بقول خوفا من ان تنهار قبل ان تعرفه من هي؟:
هل تعرفها السيد كريم ؟
ضحك ثقة وقال : طبعا أعرفها وصورها معي
قالت : ممكن أرى صورتها ؟
وكأنه يمتطي الحقيقة ،وضع يده في جيب سترته الداخلي واخرج صورة أنثى وقدمها لها..
تملكتها حرقة تصعد وتنزل راكضة في صدرها ، وشرعت عيونها تنزف دمعا حارقا فجر صبرها..لم تكن غير صورتها بلا مساحيق ..
اعادت له الصورة وفي حلقها غصة
فاجأه موقفها ، فهو لا يعرف سببا لدموعها ولا لصدرها الذي صار كمنفاخ صاعد نازل ... وقفت بعد ان تركت ورقة ماليه على الطاولة ثمن قهوتها وقالت له وهي بين التحدي والقلق والحنق :
آسفة حبيبي سعد ، أنا من تنتظر ، حبيبتك سناء !! .. من أغريتها بالمجيء اليك وانت لا تعرف حتى نفسك وحقيقتك ، فأحرى أن تعرفها ؛ أولا لم تصور لي نفسك أنك في سن والدي ،ثانيا يبدو انك ضيعت صورتي الأصلية من مخيلتك بل ضيعت حتى الحب الذي كنت به تتغنى ، وكنت مستعدا أن تترك أنثى وقد قطعت اميالا من اجلك ذنبها أنها تزينت بمساحيق غطت حقيقتها أمام عيونك لتعيش لحظة هي فرحة زمنها ، لهذا كانت اعماقك وما تخفيه اقوى من ردائك الذي تتزيى فيه ، أنا سناء الليبية التي عشقتك ياسعد ، وبك كانت مبهورة ،.. خروجي من موطني اليك رغم ما يمور فيه تجربة رخيصة عرفتني بحقيقتك..
أحس بنفسه تصغر ، وان كل ما كان يقمطه من اندهاش وخجل قد تصبب عرقا وساح تحته. .أراد ان يتكلم ، ان يدافع عن نفسه ، أن يشرح لها قصة ما تعرفه عن شخصيته الماضية ..لكنها كانت اسرع منه الى سيارة أجرة ..
من وراء زجاج النافذة رأى دموعها تتسربل على خديها وكأنها تبكي خيبتها في رجل هو من غير حياتها ومن أجله ضحت باسرة وعادات وتقاليد وخلقت مواقف لتصاحب أخاها فتراه ..
كيف ضيع أنثى وحدها ملأت حياته بثقة وصدق من بين كل بنات المنتديات اللواتي كن يبادرن الى الارتماء بين أحضانه مشدودات بما يكتب ،كان عليه ان يفهمها انه كان يمارس مهمة بحث ودراسة عن المنتديات العربية ، وكيف تقمط أكثر من عشر سنوات في شخصية أتقن تشخيصها وحقق بها ما عقد من أجله صفقة مربحة ..
غادر المكان ونفسه صغار هو أكثر بكثير من عمره ارق مؤلم وعذاب لا يتوقف...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية


.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-




.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني