الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مآثر من نضال الشيوعيين في سجونهم

فلاح أمين الرهيمي

2020 / 11 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


لقد كانت حياة السجناء الشيوعيين منظمة، فقد وضع القائد الشيوعي مؤسس الحزب الشيوعي العراقي (فهد) منذ عام/ 1947 قواعد تنظيمية وتقاليد ثورية للسجناء الشيوعيين منبهاً أن في التنظيم قوتهم وصمودهم الذي يجابهون بها قوى عدوهم .. وفي تنظيم حياتهم تقوية معنوياتهم ورفع وعيهم وصهر أنفسهم وتحررها مما قد يعلق من أدران العادات والأخلاق التي يغرزها النظام الطبقي الفاسد في نفوس أبناء الشعب .. وفي تنظيم حياتهم الحفاظ على صحتهم وبلورة قابلياتهم وتطويرها.. وفي تنظيم حياتهم تحررهم من النظام الفاسد الذي يفرضه عليهم أعدائهم ... فكان يوم السجناء السياسيين مقسماً بين الدراسة والعمل المعيشي والرياضة .. وكان لهم صحافتهم التي وضعت هدفاً لها، تصون شعلة العراق الثائر الأصيل وهاجة في قلب كل سجين وأن تكون حافزاً على صقل المواهب والأفكار .. فبرز منهم رسامون بارعون وشعراء مبدعون عكسوا بأشعارهم مشاعر وأماني المناضلين العراقيين في حبهم لوطنهم وشعبهم وطموحهم في بناء المستقبل السعيد لشعبهم، وتغنى السجناء السياسيون بعشرات الأناشيد التي ألفها شعرائهم ولحنها سجناء سياسيون لم يكونوا يوماً يظنون أن لديهم قابلية على التلحين، وتبلورت قابليات فنية متعددة فظهر من بينهم ممثلون ومخرجون بارعون وكانت المناسبات الوطنية والقومية والأممية .. كما تمكن بعض السجناء السياسيين البسطاء الذين دخلوا السجن (بجريمة) توقيع نداء مجلس السلم العالمي أو لاشتراكهم في انتفاضة فلاحية ضد الإقطاع الغاشم أو لمجرد انتمائهم لنقابة عمالية أو للجمعيات الفلاحية أو لاشتراكهم في مظاهرة جماهيرية أو حتى لحضورهم بعض الاحتفالات العائلية أو المواليد النبوية التي كان الحزب الشيوعي ومنظماته الجماهيرية تفيد منها الوعي الوطني والطبقي بين صفوف الشعب، وتمكن قسم كبير من هؤلاء في فترة سجنهم التي قد تصل إلى الخمس سنوات في التعلم لبعض المهن وتعلم القراءة والكتابة.
ولم تتخلف المرأة العراقية الشيوعية في هذا الميدان بعد أن ساهمت في جميع معارك شعبنا وقدمت التضحيات وكانت الرفيقات في سجن النساء يتحدين صنوف التعذيب والحرمان انتقاماً من مساهمتهن في الحركة الوطنية وقيادتهم للحركة النسائية الديمقراطية وحيث الميدان الوحيد الذي ساوى فيه الحكم المباد بين المرأة والرجل ولم يقتصر نشاط السجينات الشيوعيات على رفع وعي ومكافحة الأمية بين السجينات السياسيات بل وبين السجينات العاديات أيضاً في أقسى ظروف المضايقة والكبت .. لم تكن حياة السجناء السياسيين المنظمة تسير بشكل هادئ كما وصفناها بل كثيراً ما كانوا يتعرضون لغارات الحكومة على مكاسبهم التي حققوها بالدماء والإغارة على أمتعتهم ومخزونات غذائهم وأدويتهم وتجردهم من الكتب ووسائل التعليم التي حصلوا عليها نتيجة نضالهم الطويل .. وكانت كثيراً ما تفرقهم وتمنع اللقاء فيما بينهم بسجنهم انفرادياً .. ولتحدي هذه الظروف قصص تفوق الخيال ولأدبائنا وقصصنا فيها مادة كثيرة .. كيف كانت تجري الاتصالات بينهم ؟ وكيف كانت تجري الاتصالات بينهم ؟ وكيف كانوا يتناقلون أخبار نضالات شعبنا وشعوب العالم التي كانت تصلهم سراً من الخارج وكذلك أخبارهم الداخلية ؟ وكيف كانوا يحتفلون بالمناسبات الوطنية والقومية والأممية رغم الجدران والزنزانات الانفرادية وكانت الإضرابات عن الطعام أسلوبهم الأخير الذي يدافعون فيه عن مكتسباتهم ورد الاعتداء عليهم .. تلك الإضرابات الطويلة التي كانت بدورها تهيج الرأي العام وتفضح أساليب الحكومة في معاملة السجناء السياسيين عن طريق عوائلهم التي كانت تتظاهر حاملة المذكرات إلى قادة الأحزاب الوطنية والهيئات الاجتماعية مستصرخين ضمير الشعب لإنقاذ حياة أبنائهم. ولما وجدت الحكومة بأن كل وسائلها بانت مفضوحة وباءت بالفشل .. إذ لم تستطيع الحكومة من قتل معنوياتهم والنيل من عزيمتهم الجبارة على مواصلة النضال خططت لإبادتهم جزء من مخطط عام لإضعاف الحزب الشيوعي العراقي وإرهاب الحركة الوطنية وكسر معنويات الجماهير تمهيداً لربط العراق بالأحلاف العسكرية العدوانية وتوطيد لحكمهم المهزوز .. فكانت مجزرة سجن بغداد في 18/ حزيران/ 1953 التي راح ضحيتها ثمانية سجناء شيوعيين وكانوا يقتلون الجرحى حيث قتلوا (هادي عبد الرضا) بعد إصابته بطلقة واحدة وغيره في الضرب بالهراوات وأخماص البنادق وقتلوا السجين الشيوعي (حسين عبود) من خلال سحق رأسه بأرجلهم أما السجينين (إسماعيل أحمد ومهدي مشكور) فقد أصيبا بجروح بعد تكبيل السجناء بالسلاسل وختم كل سجين رسمي على اليد اليسرى والرقبة ويمر عبر صفين من الشرطة والسجانين ينهالون عليهم بالضرب والهراوات وأخماص البنادق .. واستشهد في المستشفى حيث أهملت معالجتها عمداً .. وأصيب السجين (جودت أحمد ناجي) في رأسه فانكسرت جمجمته .. كما قتل السجين (موسى سليمان) عضو اللجنة التنفيذية لاتحاد الطلبة العام.
لقد سجل السجناء الشيوعيون في هذه المجزرة أروع ملاحم الصمود فضح فيها الحكم المباد جبنه وغدره وما يضمره للشعب من حقد وما يضمره لأخلص أبناءه لإبعاد جماهير الشعب عن السياسة فتقدم عشرون نائباً بالاستيضاحات التالية إلى الوزارة : (هل من المألوف مقابلة السجناء العزل بإطلاق النار وهدر الدماء من جراء عدم الرغبة في انتقالهم إلى سجن آخر (حسب ادعاء الحكومة) أفما كان بالإمكان معالجة الحادث بغير استعمال النار وإرهاق الأرواح بهذا الشكل من الاستهتار بأرواح المواطنين ؟ وماذا اتخذت الحكومة من تدابير لتعيين المسؤولين عن إصدار أمر إطلاق النار والاستهانة بأرواح المواطنين ؟ وهل يرى المسؤولين أن مثل هذه الإجراءات تليق بحكومة تستمر بمسؤولياتها العامة ؟. ولم تستطع السكوت عن هذا الحادث الذي لم يجر إلا في السجون الهتلرية، حتى بعض صحفهم فكتبت جريدة الدفاع البغدادية في 20/ حزيران/ 1953: (نحن نعتقد أن حجة مقابلة بالمثل التي تعكزت عليها سلطات الأمن في رمي السجناء هؤلاء بالنار هي حجة لا تبررها القوانين العامة ولا تسوغها أيضاً الشرائع السماوية، ولا نجيزها كذلك وثائق حقوق الإنسان. إن هؤلاء المساجين هم عزل من السلاح عدا بعض الحجارة والقناني الفارغة وهم في قبضة الحكومة وفي داخل سجنها وتحت سيطرة حراستها ومراقبتها) ... كما هاجمت السلطات سجن النساء وسلبت السجينات السياسيات كل ما حصلت من مكاسب في نضالهن الجريء والعنيد وبعد إضرابات طويلة وبتهمة الاحتجاج على مجزرة سجن بغداد وسيق البعض منهن إلى المجلس العرفي العسكري إلى أحكامهن الطويلة سنوات أخرى .. وحاولت السلطات إقامة مجزرة مشابهة في سجن (نقرة السلمان) الصحراوي، فجردت السجناء الشيوعيين من جميع ما تيسر لذويهم نقله إلى السجن النائي من غذاء وكتب وأدوية ونظمت ضد السجناء حملة إهانات وضرب وهدرت الرشاشات وانهمر الرصاص إمعاناً بالإرهاب.
أما مجزرة سجن الكوت فلم تتميز بتقييد ضحاياها العزل الذي اخترق وشراسة المهاجمين والمديرين للمجزرة وبالسلاح الفتاك الذي اخترق رصاصه صدور المناضلين .. فمجزرة سجن الكوت التي عاش أحداثها (123 سجيناً سياسياً) لم تكن شأن المعارك الأخرى التي تتميز بضراوتها وقصر مدتها. مجزرة سجن بغداد السياسي مثلاً كانت شديدة العنف ولكنها استغرقت ساعات قلائل حصدت أرواح ثمانية مناضلين شيوعيين أشداء.
أما مجزرة سجن الكوت فقد استمرت أكثر من شهر كانت أيامه كلها معارك واستخدمت فيها كل وسائل الإغراء بجانب الرصاص والتهديد جوعاً وعطش .. فقد أصدرت الإرادة الملكية بإطلاق سراح عدد منهم ولكنهم رفضوا الإذعان لهذه الإرادة التي نصت على أن يطلق سراح من يتخلى عن أفكاره واتسعت حملة الإغراء بإصدار العفو عن النابذين والمتبرئين من المبادئ الشيوعية .. ولكن السجناء الشيوعيين الذين ذاقوا مرارة السجون وجربوا أهوالها وعاشوا أيامها الرهيبة بإضراباتهم وعذاباتهم، فضلوا أن يضلوا في السجون يتهددهم الموت على أن يتركوها مقابل التخلي عن عقائدهم ومثلهم وقضية شعبهم.
قطعت الحكومة عن السجناء الشيوعيين الماء والكهرباء وجردتهم من كل مخزونات الطعام والأدوية .. وحفر السجناء الأبطال بئراً في ساحة السجن وكانت مياهها مرّة وغير صالحة للشرب ومع ذلك شربوه وفي تلك الأيام العصيبة تجلت الأخلاق الشيوعية والمبادئ الشيوعية بأروع صورها حيث كان كل واحد منهم أن يسقي رفيقه دماء قلبه .. وكانت أصواتهم رغم الضعف الذي أصاب أجسامهم بسبب الجوع والعطش قوية تجلجل وتهدر بالأناشيد الثورية والهتافات باسم الشعب وأهدافه، وباسم الشيوعية ومستقبلها الوضاء بالإنسانية وغدها المشرق .. ولعلع الرصاص فسقط شهيدان يوم 14/8/1953 هما (حيدر منصور) من عمال المطابع و (صبيح جبر) ... لم يرتوي غليل عملاء الاستعمار ومرة أخرى لجأوا إلى أساليب المناورة والإغراء .. وفي يوم 2/ أيلول/ 1953 هدر الرصاص مرة أخرى وتساقط القتلى والجرحى وأخرجوا السجناء الشيوعيون ليمروا عبر صفين من المساجين والشرطة الذين كانوا ينهالون على أجسام السجناء المنهكة والمصابة بالهراوات والعصي، فتكسرت أضلاع وتهشمت جمجمة الشهيد (يحيى البارح) ففارق الحياة مع عدد من الأبطال وهم (أحمد علوان وجبار الزهيري ورؤوف صادق الدجيلي وعبد النبي حمزة وهادي جواد وحسين مهدي حبيب ومحسن هدار) وكدست أجساد الجرحى وجثث القتلى في غرفة واحدة بهدف تأخير معالجتهم .. ولم تزعج المشرفين على المجزرة الدماء التي كانت خارج هذه الغرفة ولا الأجساد المحطمة المكدسة ولا الأيدي الرخوة التي كانت تعترض سبيل الأحذية العسكرية الثقيلة التي كانت تنتقل فوق الجثث لتحصي حصاد جريمتها ولا هذيان المحمومين ولا صراخ العطشى الملتهب في أحشاء من نزفوا دمائهم .. وإنما أزعجهم وأثار دهشتهم أصوات كانت تتعالى من الغرفة المكدسة بالشهداء والجرحى التي كانت ما تزال تهتف بحياة الشعب والحزب الشيوعي والشيوعية أقوى من الموت والموت للقتلة الجلادين .. لقد فشلت المجزرة .. في قطع تلك الألسن اللاهجة بالحرية والسلم وبالاستقلال وسعادة الشعب وبالطبقة العاملة والشيوعية .. لقد فشلت المجزرة حتى في إذكاء الغرائز الأنانية والآثرة والتشبث بالمصير الشخصي .. لقد كانت بطولة السجناء الشيوعيين وصمودهم وسموا أخلاقهم مثار دهشة عقول مديري ومنفذي المجزرة ومثار خوفهم فأمعنوا في أساليبهم الوحشية وأوغلوا في التعذيب .. لكن الشيوعيين خرجوا منها رافعي الرأس وهم أصلب عوداً وأشد تمسكاً بمبادئهم وأهداف شعبهم .. لقد استفزت هذه المجازر قوى الشعب الوطنية وكانت عوائل السجناء الشيوعيين تتوجه إلى بيوت قادة الأحزاب الوطنية والشخصيات الاجتماعية مستصرخة الضمير الإنساني للدفاع عن أبنائهم البررة وإنقاذهم من حملة الإبادة المتعمدة .. فاستقالت وزارة المدفعي تحت ضغط السخط الجماهيري الصارم مثقلة بأوزارها وجرائمها البشعة ضد أبناء الشعب كافة وضد السجناء الشيوعيين خاصة .. لقد أضافت ملاحم السجناء الشيوعيين صفحة مشرقة إلى تاريخ شعبنا المجيدة في نضاله الدامي ضد الاستعمار والحكم الملكي المرجعي المباد.

المصادر :- سعاد خيري .. من تاريخ الحركة الثورية في العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: ضربة أصابت قاعدة عسكرية قرب أصفهان وسط إيران|#عاجل


.. القناة 12 الإسرائيلية: تقارير تفيد بأن إسرائيل أعلمت واشنطن




.. مشاهد تظهر اللحظات الأولى لقصف الاحتلال مخيم المغازي واستشها


.. ما دلالات الهجوم الذي استهدف أصفها وسط إيران؟




.. دراسة جديدة: اللحوم النباتية خطرة على الصحة