الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العقل المعتقل والاقتصاد المعتقل:بين اليمين واليسار

مظهر محمد صالح

2020 / 11 / 6
الادارة و الاقتصاد


١العقل المعتقل
تتاح لنا احياناً الفرص لاستراق النظر الى ارشيف عقود محطات ثقافتنا قبل نصف قرن على الاقل لنعاود صداقتنا الى رفوف الماضي المبتسم حزناً الذي يجعل من صداقته مطلباً عزيز المنال لنقرأ المستقبل.وانا اتحلى في فراغ مشحون بالصبر يجول في خاطري ان رفوف ذاكرتي هي مازالت اسيرة الى ماكتبه (تشيسواف ميووش)في رائعته بكتابه الموسومة :العقل المعتقل captive mind ١٩٥٣ الذي دمج فيه الفن بالمقدمات الثقافية وجاء بالضد من الاستالينية Anti Stalinism وهو يصف فيه حال بلدان اوروبا الشرقية في الحقبة الاستالينية المذكورة بكونها مثلت تهديدا للمجتمعات بسبب ضعف قدراتها على تلبية المتطلبات المادية للناس في اوروبا الشرقية مقارنة بالتهديد الذي ادعت الاستالينية ان مصدره ملاك الاراضي او الناشطين في السوق السوداء ،اضافة الى اعماله الشعرية الاخرى ليكافأ بجائزة نوبل في الأداب في اول ثمانينات القرن الماضي ،ووصفته الاكاديمية السويدية بانه من اعظم شعراء القرن العشرين عندما صدح صوته ليظهر ظروف العالم الشديد الصراع . اذ ظل( تشيسواف ميووش )يكلمنا عن الحياة بثقة العقل المكبل كانما يخوض غمارها بقفص مغلق مشحون بقوى شديدة الصمت اريد لها ان لا تكون خاسرة ازاء لعبة لامعنى للحياة فيها وهو يتصدى للمعضلة الاستالينية في المادية الجدلية التي جاءت اداة لقمع وبسط النفوذ الشمولي (ولاسيما في بولندا البلد الذي كان يمارس الزراعة بادوات بسيطة تمثل استخدامات ما قبل الصناعة كما يراها الكاتب ) .حيث ابتعدت الاستالينية عن الماركسية في اصولها واساسياتها في تطبيق المادية الجدلية.وقد جسد كتاب العقل المعتقل خبرة الكاتب وهو يرسم تصوراته خارج النظام القانوني السائد وقت ذاك ،سواء معاناته ابان الاحتلال النازي لبولندا اوانتقاله ليكون جزءاً من الطبقة الحاكمة بعد الحرب الثانية،مظهراً بعدها الاغراءات الاستالينية في كسب المثقفين لتمرير معتقداتها .
وعليه فسر الكاتب ميووش في كتابه :العقل المعتقل الصراع الداخلي للمثقف مبيناً القلق الثقافي وكيف يتصرف المثقف وهو يكابد الحياة في اقفاص الاعتقال الذهني.
يقول ميووش في كتابه:العقل المعتقل،بعد ان استقر في المهجر في باريس قبل ان ينتهي في الولايات المتحدة ثم ليدفن بعد موته عام ٢٠٠٤ في بلاده ((انا الان مشرد -عقوبة عادلة،لكن ربما ولدت كي يتمكن العبيد الابديون من الكلام من خلال شفتي.....))
شكل العام ١٩٨٠
ً وهو العام الذي حصل فيه
الكاتب البولندي(تيشسواف ميووش)
على جائزة نوبل في الاداب كما نوهنا، لتنتشر ظاهرة الليبرالية الجديدة Neoliberalism وهي الوثبة الجديدة في اقتصاد السوق والتي اخذت تتخلق في فراغات النظام الراسمالي وصراعته الحقيقية وهي تحمل أسى غير قليل في قلب موازين القوة والصراع في العالم والتهيئة لهدم جدار برلين وقلب الطاولة الاديولوجية في اوروبا الشرقية. وعدت الليبرالية الجديدة في موجاتها الاديولوجية مرآة آخرى من الاستالينية بالثوب الراسمالي وهي تمتلك صفات اشبه ما (بالذئب الذي يتلبس بجلد الحمل).فالليبرالية الجديدة التي جاء استخدامها في الادب الاقتصادي بشكل واسع في العام ١٩٨٠ قد تزامنت مع قيام دكتاتور شيلي( اوغيستو بينوشت Augusto Pinochet )بتبني اصلاحاته الاقتصادية وعلى وفق الليبرالية الجديدة في اقتصاد السوق،ما ولّد مساحات سالبة من الفهم في نقد اصلاحات السوق عموماً والراسمالية الحرة خصوصاً سواء بافكار فردريك هايك او ملتن فريدمان وجيمس بوكنان من جهة وبين التعهدات والتطبيقات التي ابتدأها الرئيس الامريكي رونالد ريغن و رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تتاشر وآزرهم رئيس البنك الاحتياطي الفيديرالي الامريكي الاسبق غرين سبان في التهيئة للانتقال الى النظام الليبرالي الجديد واشاعة فكر العولمة .اذ تعني الليبرالية بشكلها الجديدة neoliberalism حالة الاستخدام المعاصر لسياسات الاصلاح القائمة على توجهات السوق ،مثل ازالة السيطرة الحكومية على الاسعار وتحريرها والتخلي عن القيود الرقابية المفروضة على النشاط الاقتصادي ،فضلاً عن تحرير القيود ورفعها عن اسواق راس المال سواء من خلال الخصخصة او التقشف في الموازنات العامة وتحت متبنى او افتراض الدولة الصغيرة واشتراطاتها في التدخل الاقتصادي،كتعبير عن حالة الديمقراطيات الغربية ومبادئها الاقتصادية.
فطالما واجهت الليبرالية الجديدة الآراء من اعدائها لتطول اليوم حتى مناصيرها. فبعد عقود قليلة على تبنيها في النظم الاقتصادية واجهت الليبرالية الجديدة موجات من الاضطراب الاقتصادي والفساد وعجزت في مواجهة ازماتها بالسياسات المتحررة نفسها ولاسيما بين الاعوام ١٩٩٨٢٠٢٠ سواء في مواجهة الضعف في النمو الاقتصادي اوتباطؤ النشاط الاقتصادي نفسه وتعاظم مستويات اللامساواة في الدخل


٢الاقتصاد المعتقل:

ظل الامريكان ومازالوا مصابين بظاهرتين اقتصاديتين مرضيتين هما: التباطؤ في النمو الاقتصادي والارتفاع في حالة اللامساوة في الدخل والثروة ، هذا ما اثاره كل من الكاتبين الامريكيين Brink Lindsey and Steven M.Teles في اصدار كتابهما الذي حمل عنوان :-الاقتصاد المعتقل و الذي صدر عن دار جامعة اوكسفورد في العام ٢٠١٧ The Captured Economy: How the powerful enrich themselves, slow down growth, and increase inequality
اذ شخص الكاتبان العوامل المشتركة حول هاتين المسالتين وعدهما محور الاقتصاد المعتقل وبشكل خاص:الانهيار الذي تعرضت اليه (الحوكمة الديمقراطية) التي سمحت لجماعة المصالح من الاثرياء (بالامساك) بعمليات ومفاصل صنع السياسات من اجل تحقيق منافعهم الشخصية.فقد اظهر الكاتبان الكيفية التي يغني فيها الاغنياء انفسهم ازاء انخفاض النمو السنوي في الناتج المحلي الاجمالي وارتفاع حالة اللامساوة في الدخل والثروة
.اذ لاحظا ان اللوائح الرقابية القاصرة قد سمحت بمرور الوقت الى توزيع الثروة والدخل بما يفوق المقاييس الاقتصادية وادت في الوقت نفسه الى قمع الابتكار و الريادة.
وهكذا اثار الكاتبان في اعلاه Lindsey and Teles بكتابهما الاقتصاد المعتقل انفاً كيف ان النظام السياسي في الولايات المتحدة قد ساعد في تمكين النخبة elite
على الثراء من خلال اشاعة ظاهرة تسمى السعي وراء تحصيل الريع او السعي وراء الريع rent -seeking بغية خنق المنافسة من خلال الانتفاع من ثغرات الدعم الحكومي واللوائح الرقابية الناظمة.فالريع هو الربح الذي يفوق كلفة المورد نفسه.وهو الامر الذي ميز ١٪؜ من الامريكان للفوز بالشريحة الاعلى من الثروة في الولايات المتحدة.ما جعل الكاتب السياسي الامريكي (عزرا كلاين ) من جامعة جون هوبكنز (وهي يحاول تقييم قدرة التصدي لظاهرة السعي وراء الريع )باطلاق مصطلحه في العام ٢٠١٣ الذي سماه Kludgeocracy -كلودجوقراطية ذلك في مقال نشر له في صحيفة الواشنطن بوست وجاء تحت عنوان:هل امريكا كلودجوقراطية ؟ اذ تعني (الكلودجوقراطية )قيام الحكومة بمعالجة المعظلات المعقدة بشيء من السطحية العاجلة!

٣ اليمين واليسار في الاقتصاد المعتقل.

هنالك نزعة وخلط لدى اليمين السياسي الراسمالي في الدفاع عن الوضع الراهن لليبرالية الجديدة ذلك على الرغم من اخفاقاتها في مواجهة الاقتصاد المعتقل وتعاظم مظاهر السعي وراء الريع.في حين يميل اليسار السياسي الراسمالي الى اظهار قلقه حول ارتفاع حصة الدخل والثروة وتركزهما لدى الشريحة العليا التي تشكل ١٪؜ من السكان في بلاد كالولايات المتحدة.فالمساوة في الفرص وليس المساواة في النتائج ستبقى تمثل الاستجابة الممكنة لمواجهة الاقتصاد المعتقل.لذا يلحظ ان مشكلة توزيع الثروة هي ليست ناجمة وبشكل تنفرد فيها عمليات السوق لوحدها ، ولكن اللوائح الرقابية الضعيفة والمخترقة ستظل احد اهم عوامل قمع المنافسة والبناء الاقتصادي وهي من اسهمت حقاً في انحراف توزيع الثروة للفئة العليا من المجتمع.
واخيراً ،يتامل الكاتبان Lindsey and Teles انه من اجل الحركة الليبرالية ومواجهة تحديات الاقتصاد المعتقل صار من الضروري ان يتوحد مؤيدو السوق الحر مع الديمقراطيين الاجتماعيين .وعلى الرغم من ذلك،فالوقائع السياسية الراهنة تؤشر
ثمة مصاعب في توحيد المؤمنين باقتصاد السوق الحر مع الديمقراطيين الاجتماعيين من الليبرالين انفسهم .ففي العالم الراسمالي نفسه، الذي بات اشد انقساماً بين اجنحته اليمينية واليسارية،نجد بريطانيا التي اكتسحها على سبيل المثال تيار يساري من داخل حزب العمال البريطاني قاده زعيم الحزب Jeremy Bernard Corbyn ذلك خلال المدة ٢٠١٥٢٠٢٠ معلناً تشدده القومي في برنامجه في الاقتصاد السياسي يطلق عليه الكوربنزم -Corbynism . فالكوربنزم امست تشكل نقطة المواجهة مع مظاهر الاقتصاد المعتقل الذي هو نتاج تحلل الليبرالية وباتت منهجاً في معاداة الراسمالية بحلتها الليبرالية الجديدة .اذ تنطلق (الكوربنزم )من ركائز عديدة منها:الايمان بالتدخل الاقتصادي الحكومي (كتأميم المصالح العامة واعادة توزيع الثروات والدخل).كذلك، الايمان بعدم التدخل الخارجي (والمقصود هنا الانسحاب من الشراكة الاوروبية ومعارضة المشاركة العسكرية خارج البلاد).فضلاً عن التحول في المنهج الليبرالي الجديد باتجاه الليبرالية الاجتماعية. ثم العمل على تشجيع التحالف مع التيارات اليسارية المختلفة. ان التطورات المنهجية الاجتماعية لحزب العمال قد اوقعت حزب المحافظين البريطاني ومنهجه الاقتصادي في حراجة لاعادة التفكير بمشكلات الاقتصاد الحقيقية،ولاسيما في قضايا تركز الدخل والثروة لدى الشرائح والفئات الساعية للريع rent seekers دون التصدي لها بكونها القوى الناشطة في ولادة الاقتصاد المعتقل.
ختاماً، اذا كانت (الاستالينية )قد ادخلت اوروبا الشرقية في عزلة الانغلاق الفكري ومصادرة الحريات حتى بلغت (العقل المعتقل) خلال القرن العشرين ،نجد ان (الليبرالية الجديدة ) في وضعها الراهن قد اخترقتها القوى الراسمالية الريعية ليولد بين ظهرانينا (اقتصاد معتقل) يتمدد على حالتي :ضعف النمو الاقتصادي واللامساواة في الدخل والثروة ليجسد صراعاً داخل معسكر راسمال نفسه بين اليمين واليسار في القرن الحادي والعشرين.
انتهى

منشور على شبكة الأقتصاديين العراقيين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بركان ثائر في القطب الجنوبي ينفث 80 غراما من الذهب يوميا


.. كل يوم - د. مدحت العدل: مصر مصنع لاينتهي إنتاجه من المواهب و




.. موجز أخبار السابعة مساءً- اقتصادية قناة السويس تشهد مراسم اف


.. موازنة 2024/25.. تمهد لانطلاقة قوية للاقتصاد المصرى




.. أسعار الذهب اليوم تعاود الانخفاض وعيار 21 يسجل 3110