الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن عشر/ 3

دلور ميقري

2020 / 11 / 6
الادب والفن


قرابة عقد من السنين مر على طلاق أمّو، وكانت آنذاك ما تزال في مستهل الثلاثينات. حرمانها الجسديّ والعاطفيّ، المترتب على ذلك، كان على الأرجح من واردات شعورها بالضغينة إزاء الحياة الزوجية لشقيقها. الغريب، أن سلوكها كان مغايراً تماماً فيما يتعلق بشقيقتها، وكانت تقضي وقتها لديها كي تعينها على مشاغل البيت عقبَ إنجابها صبياً آخر. الأوقات تلك، كانت متنفّساً لرودا، تنأى فيها عن المشاحنات والمشادات. مثلما علمنا، أنها ورثت عن الأم ميلها للطرب والموسيقى؛ وهذا حال شقيقها الوحيد. فيّو، كان قد دبّرَ لها في أحد أيام خطبتهما عوداً جميلاً؛ لم تشك أبداً بأنه سرقه من مكان ما. أشهر الحمل، منعتها من العزف على العود، ومن ثم جاءت فترة الحِداد على موت الأب.
ذات صباح، وضعت رودا صبيّها الرضيع في رعاية الابنة البكر، ثم تناولت العود لتستهل في العزف مع الغناء بصوتها الرخيم. كان الجو ما فتأ معتدلاً في ذلك اليوم من أواخر الصيف، شجّعها على الجلوس أمام البحرة الصغيرة، التي سبقَ أن أنشأها شقيقُ زوجها، ديبو؛ صاحب المزاج الرائق. كذلك كانت يومئذٍ مطمئنة لجهة الزوج، كونه مستغرقاً في النوم، وفوق ذلك أصم. شقيقته، المعتادة على حشر أنفها في كل شيء، لم تعُد بعدُ من منزل فوزو. لكنها سرعان ما ظهرت، كما لو أنّ الدهليز المظلم قد لفظ إحدى نساء الجن.
" الله، الله.. تقومين بهذه الخلاعة على مرأى من رجل غريب، لا تبعد حجرتُهُ عن صحن الدار بضعَ خطواتٍ؟ "، بدأت قرينة الجنّ تقول بينما تنزع ملاءتها السوداء. توقفت رودا عن العزف والغناء، لتجيب عدوتها، المتربصة بكل حركة من حركاتها: " إنه في عمله، يا امرأة الفتن، كما أن شقيقك موجودٌ بالبيت ". استمرت أمّو بالسير في اتجاه حجرة النوم، الخاصّة بالزوجين، مدمدمة في حنق واستياء: " تغنّي وتعزفُ ولم يمضِ أشهر قليلة على وفاة والدها، وعلاوة على ذلك لسانها بطول الحيّة! ".

***
احتياطاً من ثورة مَن تصفه ب " قليل العقل والحظ "، هُرعت رودا لوضع العود في مخبئه المعتاد. ثم صرخت بصوتٍ عال، لكي تسمعها الأخرى: " أنا ذاهبةٌ مع الأولاد إلى منزل عمّك جمّو، وعندك المطبخ لو أردتِ تحضيرَ الغداء ". خرجت أمّو حالاً من الحجرة، لتطلب منها إبقاء الابنة الكبيرة كي تساعدها. لكن الابنة همست، ممتقعة السحنة خوفاً وفرقاً: " خذيني معك، أماه، لأنها ستصبّ عليّ غضبها كمألوف العادة ". وهكذا كان؛ حملت الابنةُ الكبيرة الطفلَ الرضيع، بينما الأم أمسكت بيديّ الطفلين الآخرين، ثم غادروا المنزل.
بيان، أنجبت ابنها الثاني في نهاية شهر آب/ أغسطس؛ أي بعد أختها رودا بنحو شهرين. وهيَ ذي الأختُ تطل من مدخل أرض الديار، برفقة أولادها الأربعة. عقبَ تبادل القبلات، شرعت إحداهما ضاحكةً بقص ما جرى قبل قليل على خلفية العزف والغناء. شاركتها بيان شعورَ المرح، ثم دعتها إلى منظرة الحديقة: " سأعدُّ القهوة ثم ألحق بكِ ". الإيوان، وكان ملاذ الأسرة في الأيام الحارة، جعله جمّو حجرةَ نومٍ ثانية، وذلك غبَّ ازدياد عدد الأولاد. نصف ساعة مرّت، وكانت المرأتان تتبادلان الحديث، عندما صدرَ صوتُ طرقٍ عنيف على باب الدار الخارجيّ.
قالت رودا بنبرة مريرة: " إنه فيّو، ولا شك، قد تعبّأ بكلام شقيقته الشريرة ". وضعت بيان يدها برفق على يد أختها، وما أسرع أن نهضت لتلبي نداءَ ذلك الطارق الأخرق. فورَ فتحها الباب على سحنة فيّو، قالت له دونَ تمهيد وبمزيدٍ من إشارات يدها: " رودا والأولاد، سيبقون لدينا إلى ما بعد الغداء. مفهوم؟ ". هزّ رأسه بحركة متتالية، ثم تمتم هذه الجملة غير المترابطة: " حسنٌ، حسنٌ.. ولو شاءت أن تبقى لديكم دائماً، سأكونُ مرتاحاً! ". شأن شقيقته، كان يكنّ الاحترامَ والود لامرأة عمه؛ ويهابها أيضاً.

***
وهذا نداءٌ جديد، يصدر من مكان آخر، لكن أقل صخباً. عرفت بيان صوتَ جارتها، حفصة، التي تطل عادةً من الكوّة، المطلة على بيتها. هُرعت على الفور، لتدعو الجارة إلى منظرة الحديقة. نزلت هذه الدرجَ بخطواتٍ حذرة، كما لو أنها تحاذر إقلاق الجنيّ، المقيم في ظلمة الحجرة الصغيرة، الكائنة بإزائه. الجارة، دأبت على التحليق بمثل هذه التخلّقات والخيالات؛ هيَ من تؤكّد لمن حولها بأن دارها مسكونةٌ منذ عهد الجدّ الأول. سارو، زوجة شقيقها، اعتادت أن تغمز بعينها لبيان لو كانت شاهدة على إحدى مرويات الجنّ تلك.
" أتيتُ لكِ بالحجاب، المطلوب "، قالت حفصة لمضيفتها حالما أخذت مكانها على الأريكة. تناولت بيان الحجابَ، وكان مخيّطاً بقماش دقيق زاهي، أزرق اللون، على شكل مثلّث، فقبّلته ثم شكرت الضيفة. سألت الضيفةُ عن المولود، فأخبرتها بيان أنه نائمٌ في حضن والدتها. عادت حفصة للقول، متضاحكة: " أما زالت السيّدة ريما تخفي الطفل عن أنظار الآخرين، خوفاً من العين؟ ". هزّت بيان رأسها وعلى فمها ابتسامة حزينة، وردت قائلةً: " إنها تعتقدُ، جازمةً، أنها العينُ الشريرة مَن أودت بحياة ابنتي شيرين وكانت صحتها بأفضل حال وقتئذٍ ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا