الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجذور الاجتماعية والفكرية لعلماء المؤسسة الدينية الشيعة في العراق

سعد سوسه

2020 / 11 / 9
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


اثبتت تجارب التاريخ أن دراسة الجذور الاجتماعية للشخصيات السياسية لها علاقة جدلية مع أفكار الإنسان ، بتعبير ادق ، أن أفكار الإنسان هي انعكاس واضح لما عاشه من أوضاع اجتماعية واقتصادية في بيئته . من هذا المنطلق ، رأينا من الضروري تتبع الجذور الاجتماعية والفكرية للمؤسسة الدينية في العراق .
ينتمي الشيخ محمد مهدي بن محمد الحسين بن عبد العزيز بن محمد الحسين بن علي بن إسماعيل ( 1) ، إلى اسرة (ال الخالصي) ، وهي من الأسر العربية الاصيلة المعروفة بشهرتها العلمية ولها جذور عريقة في النسب ، تعود إلى قبيلة بني اسد عشيرة آل مغامس ، ومنها ينتهي نسبهم إلى الصحابي الجليل علي ابن مظاهر أخي حبيب مظاهر الاسدي شهيدي واقعة الطف مع سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (ع ) (2) .
استقر جد الشيخ مهدي الخالصي عبدالله بن مغامس في بغداد خلال حقبة القرن الثامن عشر الميلادي ، وهو من رؤوساء بني أسد ، وكان والد عبدالله متزوجاً من ابنة أمير ربيعة الذي كان في عصره . وقد سكن البعض من أولاد عبدالله وأحفاده في قضاء دلتاوه (الخالص) شمال بغداد ( 3) . إذ كانت لديهم أراض زراعية وعقارات وبساتين موروثة منذ عهد جدهم الأكبر ، ثم انتقلوا إلى الكاظمية منذ سبعة أجيال تقريباً وسكنوا خلف الصحن الكاظمي (4 ) . وكانت لديهم مقبرة يطلق عليها مقبرة الشيخ عزيز وهو جدهم الاكبر .
ولد الشيخ مهدي الخالصي في مدينة الكاظمية عام 1861 ، ونشأ نشأة دينية، فوالده هو الشيخ محمد الحسين أحد علماء الدين في الكاظمية ورؤساءها ، وجده الشيخ عبد العزيز من علماء الدين في العراق ورؤسائه ، اما والدته اسمها مياسة بنت الشيخ حسين الكبير وهي من عائلة ذات شأن في الحياة العلمية في الكاظمية ، وهو الثالث بحسب التسلسل بين إخوته الشيخ صادق والشيخ راضي ، وكانوا جميعهم علماء دين في الكاظمية .
درس مهدي الخالصي على يد والده . فضلاً عن مشاهير عصره في الكاظمية والنجف وسامراء منهم ، الشيخ مهدي ال جرموكة والشيخ عباس الجصاني والشيخ محمد حسين الكاظمي مؤلف كتاب "هداية الانام في شرح شرائع الاسلام" ، والميرزا حبيب الله الرشتي والميرزا محمد حسن الشيرازي ، ودرس مدة عـــلى يــد الــــشيـــخ الاخـونـــد الخــراسانـي ، ولنبوغه المبكر ، فقد حاز على مرتبة الاجتهاد (5 ) ، إذ أجيز بالاجتهاد في الفقه الإسلامي والمنطق وعلوم الحديث ، واجيز بالإفتاء والرواية ( 6) .
تزوج الشيخ مهدي الخالصي من السيدة نائلة الاعرجي ، وهي حفيدة محسن الأعرجي البغدادي الكبير ، المعروف بالمحقق البغدادي صاحب كتاب "المحصول في علم الأصول" ، وكانت ثمرة ذلك الزواج أن أعقب الشيخ مهدي الخالصي أربعة من الأولاد هم محمد مهدي ، وعلي ، وحسن ، وعبد الحسين ، وبنتان (7 ) .
من صفاته ، كان لا بالطويل الشاهق ولا بالقصير اللاحق ، إلى الطول اميل ، أبيض اللون مشرباً بحمرة ، أزج الحاجبين ، واسع الصدر ، متوسط الهامة ، واسع الجبين ، بشوش الوجه ، نظره إلى أمامه أكثر من نظره إلى سائر جهاته ، يحرك أجفانه كثيراً في مشيه ليغض النظر عن كثيرٍ مما يواجه متوسط اللحية يغلب عليها البياض ، قوي الهيكل ، قليل الكلام ، كثير الذكر والفكر ، لا يتكلم إلا إذا كلم ، خافت الصوت ، مهيباً في نفسه .
أما منطلقاته الفكرية ، فهي دينية اجتماعية وطنية ، فقد كان للميرزا محمد حسن الشيرازي دور بارز في تهيئة المنطلقات الفكرية للشيخ مهدي الخالصي من مواجهة الغرب في قضية التنباك ، وقد تبلورت قناعته على شكل محاور أهمها، أنه لا إصلاح إلا من الداخل ، فقد عد دعوات الإصلاح الخارجية "مدمرة للامة" ، وهو يميل إلى بلورة انطلاقة من وحدة الأمة ، دون تعصب عرقي او تفرقة طائفية ، وكان يـــرى الدفاع عن الدولة العثمانية ضرورة.
أسس الشيخ مهدي الخالصي عام 1911 مدرسة أطلق عليها اسم ((المدرسة الزهراء)) كان يهدف من تأسيسها اجراء تغيير جذري في التعليم السائد آنذاك ( 8) . وقد تخرج في مدرسته ساسة مشاهير أمثال محمد مهدي كبة النائب والوزير في العهد الملكي ، والسيد سلمان الصفواني الصحفي القومي المعروف وصاحب جريدة اليقظة البغدادية.
عرف الخالصي بزهده وتقاه ، فقد احتقر الحياة لنفسه واستهون الدنيا وزهد فيها ، حتى أن المال الذي يرد اليه ، فيأذن لصاحبه بصرفه بحسب ما تقتضيه فتواه أو يكلف به غيره ممن يعتمده فينفقه سراً ، كل ذلك مخافة أن تغلبه نفسه والمال في يده وأن يصرف منه شيئاً على نفسه ، أو تظهر له منةً على أحد بإعطائه ، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك " في أيامه الأخيرة في الكاظمية أودع إليه رجل ميسور الحال مقداراً من المال يصرفه على تزويج اثنين من فقراء المسلمين ، وكان قد صمم من قبل على تزويج ابنه الثالث غير أن المال اللازم لإنهاء هذا الأمر ، كان مفقوداً لديه فلما وصله ذلك المبلغ صرفه على تزويج فقيرين من دون أن يصرف منه قيراطاً لولده" .
وبعد احتلال بريطانيا للعراق ، دعا إلى الاستقلال ووحدة الأمة . وافتى بوجوب الجهاد ضدهم ، وعرف بصلابة الموقف واتخاذ القرار ، حتى أنه أفتى بجواز بيع الوقف وصرف مبالغه في دعم الثوار الوطنيين ومساعدة المجاهدين وعوائلهم أيام الازمات الاقتصادية والمالية، وصرف المبالغ على من يستحق منهم ، الأمر الذي أقلق البريطانيين كثيراً ، حيث نفوه إلى خارج العراق ، حينما أوعز المندوب السامي البريطاني في بغداد إلى الحكومة العراقية برئاسة عبد المحسن السعدون باعتقال الشيخ مهدي ونجليه حسن وعلي في حزيران عام 1923 وإبعادهم إلى خارج العراق . إذ نفي الشيخ إلى الهند ، ونقل على باخرة بريطانية إلى الهند ، ولكنهم لم يتمكنوا من إنزاله في الهند، فبقي في السفينة في عرض البحر أمام مدينة بومباي ، وذلك لحدوث اضطرابات داخلية بسبب اعتقال الشيخ فنقل إلى باخرة أخرى باتجاه عدن لكونها كانت مستعمرة بريطانية وليكون تحت سيطرتها ، فوصلت الباخرة إلى هناك قبل موسم الحج لذلك العام، ولان الشيخ مهدي الخالصي لم يكن قد ذهب إلى الحج حتى ذلك العام ، فاقترح الذهاب إلى مكة لأداء الحج ، وكان له ذلك في آخر باخرة تحمل الحجاج من جنوب شرق اسيا إلى مكة المكرمة ، وهناك دعاه أشخاص للذهاب معهم إلى إيران ، فأخذته باخرة حجاج إلى مدينة بوشهر الإيرانية ، حيث جرى استقبال رسمي كبير شارك فيه كبار اركان الدولة الايرانية ، وضباط الجيش ، والعديد من العلماء والوجهاء والأهالي ، وفي بوشهر جرى حادث غريب ، إذ أقدم موظف بريطاني كان يعمل في شركة النفط على إطلاق النار من مسدسه على الشيخ مهدي الخالصي ، وكان في سيارته ، ولكن الرصاصات لم تصبه وجرى اعتقال الجاني ، وكان مخموراً وهذه كانت الحجة التي جرى تحتها تقديم اعتذار رسمي عن الحادث قدمه كبار الموظفين والضباط البريطانيون، وفي مراسم أداء التحية وتقديم الرجاء بقبول الاعتذار أعرض الشيخ عن الحادث ، بعد ذلك تبين ان مدير شركة النفط التي كان الجاني من موظفيها ، لم يكن إلا الضابط البريطاني الكولونيل (ولسن) المحال إلى الخدمة المدنية ( 9) .
على أية حال ، ذهب الخالصي إلى مدينة مشهد ثم سافر إلى مدينة قم وكانت بالنسبة له المحطة الخطرة . فقد جاء مبعوث من الملك فيصل الأول ليعرضوا على علماء الدين المبعدين ، عدا الخالصي ، العودة إلى العراق ، على أن يقدموا تعهدا خطياً إلى الحكومة العراقية بعدم التدخل في الأمور السياسية فعاد العلماء المبعدين . ظل الشيخ مهدي الخالصي يواصل عمله السياسي في إيران ، إذ قام بتأسيس ((جمعية تحرير الحرمين وبلاد بين النهرين)) ، دعا الشيخ مهدي الخالصي من خلالها علماء الأمة وأبنائها ، ومن كل البلدان الإسلامية ، إلى تحمل مسؤولياتهم الشرعية لمواجهة أخطار الغزو الاستعماري ، وإلى العمل الجاد والموحد لإنقاذ العالم الإسلامي ، وهذه الدعوة تعني بحد ذاتها ، ضرب المصالح البريطانية في الصميم ، مما دفعت الأخيرة إلى التخلص من الخالصي عاجلاً لا آجلاً ، فوضعت السم للشيخ في طعام إفطاره، وعلى إثر ذلك توفي الشيخ مهدي الخالصي في ليلة الثالث عشر من رمضان 1343هـ الموافق 1925 ، ليترك لنا أرثاً فكرياً رصيناً في الفقه والشريعة ، نذكر منها على سبيل المثال ، كتاب "الشريعة السمحاء" ، وكتاب "العناوين في الأصول" ، وكتاب "المنحة الالهية في رد مختصر ترجمة التحفة الاثنى عشرية" ، وكتاب "القواعد الفقهية" ، وحاشية على كتاب "الكفاية" للمحقق الخراساني وغيرها من الرسائل الدينية والكتب الفقهية ....
أما الميرزا محمد حسين النائيني المولود في مدينة نائين تقع نائين في محافظة اصفهان في إيران عام 1857 (10 ) ، فهو ينحدر من أسرة فارسية عريقة امتازت بالعلم والتقوى والشرف ولها شأن مرموق في المدينة ( 11) . إذ كان والده الشيخ عبد الرحيم الملقب بـ(شيخ الإسلام)( وهو لقب يعادل المفتي في البلاد العربية ، ويمثل منصباً دينياً) ، من كبار العلماء في نائين الذين عينهم القاجارين(هذه الأسرة من إحدى قبائل القزلباش البدوية من التركمان. استولوا على منطقة أستر آباد (شمال شرق إيران) عام 1750 . استطاع قائد القبيلة آغا محمد خان (1779-1797) أن يستولي على الحكم في بلاد فارس بعد قيامه عام 1794 بتصفية الخانات الزند في كرمان بطريقة دموية ، ثم قضى بالطريقة نفسها على الأفشاريين في مشهد عام 1796 . وحد البلاد واتخذ لقب الشاه عام 1796) ( 12) ، فكانت أسرته ذات مكانة خاصة تميزت عن باقي الأسر الموجودة في نائين ، فأخذ ابناؤه يتوارثون هذا اللقب ، الذي كان الميرزا النائيني الأول بين إخوته وأشقائه البالغ عددهم عشرة ما بين ثمانية ذكور واثنين من الإناث . وحازوا هؤلاء الأخوة مكانة سامية بين علماء نائين حتى أصبحوا من علمائها وكبار تجارها ممن اشتهروا في بيع العباءات النائينية وقتذاك .
نشأ الميرزا النائيني في بيئة مفعمة بالمثل الإسلامية ( 13) ، اذ رباه والداه على الأخلاق والصبر والتحمل ، وهذا ما نما عنده حب العلم والأدب . اذ بدأ يدرس المقدمات والمبادئ الأولية ، عند العديد من الأساتذة أمثال الشيخ محمد باقر نجل الشيخ محمد صاحب حاشية المعالم ، والميرزا محمد ابراهيم الكلباسي الــــــمعروف بـ"ابي المعالي" والشيخ محمد حسن بن محمد المعروف بـ(الهزار جربيي) في الفقه والأصول ، والشيخ جهانكسيرخان القشفتاني ، وبعد أن أكمل الميرزا النائيني دراسته في المقدمات في أصفهان ، قرر السفر إلى العراق لمواصلة مسيرته العلمية، إذ وصل إلى سامراء عام 1885 ، ليبدأ مشوار الكفاح الصعب، فهي تعد المرحلة الأصعب من حياته والأكثر تأثيراً في شخصيته وترسيم معالم تفكيره (14 ) ، فالتحق بـ(مدرسة السيد محمد حسن الشيرازي) وسكن في إحدى غرفها ، فحضر دروس السيد الشيرازي في الفقه والأصول . واستطاع الميرزا النائيني أن يلفت نظر السيد محمد حسن الشيرازي عندما كانت تثار مسائل علمية ودقيقة ، مما جعله يكون من أصحابه المقربين وكاتباً ومحرراً خاصاً له ، لأنه حذق آداب اللغة العربية والفارسية حتى امتاز بأسلوبه ونشأته .يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هنية يزور تركيا لإجراء محادثات مع الرئيس التركي رجب طيب أردو


.. توقعات بموجة جديدة من ارتفاع أسعار المنتجات الغدائية بروسيا




.. سكاي نيوز عربية تزور أحد مخيمات النزوح في رفح جنوبي قطاع غزة


.. حزب -تقدّم- مهدد بالتفكك بعد انسحاب مرشحه لمنصب رئاسة مجلس ا




.. آثار الدمار نتيجة قصف استهدف قاعدة كالسو شمالي بابل في العرا