الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع عشر/ 5

دلور ميقري

2020 / 11 / 12
الادب والفن


في طريقهم إلى الجبل، الفاصل بين البلدين، لم يحملوا أيّ زاد عدا مطرة عسكرية مملوءة بالماء. كونهم أبناء السفح، المستلقي بحضن قاسيون، لن يجدوا مشقة في تسلق الصخور إلى الأعالي ومن ثم النزول إلى الوادي؛ أين تكمن الحرية. ولعل جمّو تذكّر ما كان يذكُره للرفاق في الحلقة الحزبية، التي كان يقودها، بأن النظام اللبناني فاسدٌ ومرتبط بالامبريالية ومرعى للرجعية العربية. غير أنه بكّرَ في إكتشاف سوءة النظام الشموليّ عندما أفاق، مع غيره من السوريين، ليجدَ أكشاك الصحف خالية إلا من جريدة الأهرام وجريدة محلية تنطق باسم إدارة الاقليم الشمالي لدولة الوحدة. ومنذ شهر شباط/ فبراير المنصرم، بقيَ حزبه هوَ الوحيد على الساحة، الرافض حل نفسه، ليعتبر من لدُن السلطة خارجاً على القانون.
ساروا إلى الأعالي، ممتنعين عن الكلام إلا بالهمس في حالات الضرورة القصوى. ذلك أنّ السلطات انتبهت إلى هروب المطلوبين عبرَ الحدود، مستخدمين الشعاب الجبلية، فعززت التواجد الأمنيّ في نقاط معينة. بعد ساعة من المشي، اطمأنوا نوعاً ما لخلو دربهم من المخاطر، ولم يكن يزعجهم سوى البرد والريح المحمّل بنديف الثلج. لكن عائقاً ظهرَ على حين فجأة، عندما لم يعُد العقيد يتحمّل أوجاع ظهره وبات عاجزاً عن مواصلة السير. عند ذلك، بادر جمّو لحمل الرجل دونَ أن يستمع لاعتذاره. كلاهما، العقيد وحسينو، كانا يصغران رفيقهما بخمس سنين على الأقل؛ وهذا كان من أسباب موضع الاحترام، الذي حظيَ به من قبلهما. هكذا تناوب القريبان على حمل صديقهما، لحين أن لاحَ عن بُعد كوخٌ صغير يبدو أنه يخصّ أحد الرعاة بأسفل الوادي. استدلوا على ذلك من صوت نباح الكلب، المرافق عادةً لقطيع الماشية. تنفسوا عندئذٍ الصعداء، كونهم باتوا على الأراضي اللبنانية، كما أن العقيد صار بمقدوره التنقل على قدميه خِلَل المنحدر الوعر.
مفاجأة أخرى، جدَّت بعد فترةٍ من المشي على أرض مرتفعة قليلاً، وكانت أضواء القرى اللبنانية متماهية مع نور الفجر. إذ دوى صوتُ صافرة من مكان ما خلف الصخور، وما لبثت أشباحٌ أن تراءت من تلك الناحية مع أوامر بالوقوف. كانت دورية للأمن اللبنانيّ، وربما انتبهت للمتسللين عبرَ الحدود من خلال نباح كلب ذلك الراعي. ما عتم الرفاق الثلاثة أن وقعوا بقبضة رجال الأمن أولئك، ليمضوا بقية الرحلة في سيارة جيب سارت بهم إلى مكان مجهول. وكانوا قد صادروا بطاقات الموقوفين، الذين طلبوا اللجوءَ السياسيّ.

***
من كلام الشرطيَيْن المرافقين، الجالسين معهم في الصندوق الخلفيّ للسيارة، علم الرفاق أنهم في الطريق إلى بلدة شتورة، القريبة من الحدود السورية. عقبَ الوصول إلى البلدة، تم حجزهم في حجرة بقسم الأمن العام، كان فيها عددٌ من الموقوفين. سرعان ما تبيّنَ أن هؤلاء الأخيرين أيضاً من رفاق الحزب، قبضَ عليهم في وقتٍ سابق بنفس الملابسات عند اجتياز الحدود. غبَّ تناول الموقوفين لطعام الفطور بحوالي ساعتين، قدِمَ ضابطٌ شاب ليسأل عن العقيد محمد زلفو وليقوده إلى خارج الحجرة. بعد سبعة أعوام، عندما عاد العقيد من منفاه، أخبرَ صديقَهُ جمّو ببقية القصة: تم سوقه من شتورة إلى بيروت، وهناك لما تأكدوا من أوراقه الرسمية أطلقوا سراحه بضمان الحق في اللجوء السياسيّ. عن طريق الرفاق اللبنانيين، تم لاحقاً تأمينُ فيزا له من سفارة تشيكوسلوفاكيا ومن ثم ركبَ الطائرة إلى براغ.
اكفهرَّ حظُ بقية الموقوفين، وكان بينهم جمّو وقريبه حسينو. إذ عمدت السلطات اللبنانية إلى تسليمهم للأمن السوريّ عند نقطة الحدود المشتركة. من هناك سيقوا مباشرةً إلى سجن المزة، الغاص بالمعتقلين السياسيين وجلّهم من الرفاق. ثمة تم تمرير الموقوفين الجدد من خلال صفين من رجال الشرطة، انهالوا عليهم بالعصي. هذه الطريقة، ستُعرف منذئذٍ ب " حفل الاستقبال "؛ وهيَ من وسائل إذلال المعتقلين، التي ابتدعها نظامُ ناصر عندما واجه تنظيم الأخوان المسلمين قبل أربعة أعوام. أساليب التعذيب كذلك، المستخدم فيها الكهرباء، كانت من ابداعات تلك الحقبة وشيئاً جديداً على السوريين. كان العديد من أبناء الحارة بين الرفاق المعتقلين، وقد أخبروا جمّو بما جرى مع ابن شقيقه موسي، زيدان؛ كيفَ ضربَ المحقق عندما طلبَ هذا منه شتمَ زعيم حزبه، ما نتج عنه نقله إلى سجن تدمر الصحراويّ.
لم يمكث جمّو في المعتقل سوى نحو خمسين يوماً، بحيث أنه أعتقد في البدء أنهم سينقلونه أيضاً إلى ذلك السجن الصحراويّ. فكم دهشَ عندما أنزلته سيارة الأمن في قلب العاصمة، وقال له الضابط المرافق: " في وسعك الذهاب إلى بيتك، فأنت حرٌّ الآنَ ". في وقت تال، علم من شقيقه فَدو بملابسات إطلاق سراحه: لقد اتجه فَدو إلى منزل الوزير علي بوظو ( صديق جمّو القديم )، ليرجو منه التدخل لإخلاء سبيل شقيقه كونه يعول عائلة كبيرة. قبل ذلك، باع فَدو مسدساً كان الحزب قد منحه لشقيقه عندما كان يحرس منزل الزعيم. فعل ذلك للانفاق على عائلة شقيقه، لأنه لم يكن متأكّداً كم ستطول فترة اعتقاله. الحدثان كلاهما، إخلاء السبيل وبيع المسدس، أوجدا هوّة بين جمّو والحزب ما لبثت أن اتسعت عقبَ عودة الزعيم من منفاه وانفتاحه على النظام الانقلابيّ، البعثيّ، الذي انتزع السلطة في شباط/ فبراير من عام 1966.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب


.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل




.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال