الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصمت ليس حقا لمن لديه ما يقول

راتب شعبو

2020 / 11 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


"كل من له إحساس بالوطنية إما أنه مات أو أنه يريد الموت. أنا لم أمت .. لذلك أريد الموت". هكذا يقول يوسف زعين للكاتب المصري إلهامي المليجي الذي سأل زعين لماذا لم تنشر مذكراتك، فلم يرد، وحين كرر السؤال أجاب "لست متحمساً، إذا أردت أن تلخص شيئاً افعل، ولكن لا تنشرها قبل وفاتي".
يوسف زعين هو أحد أعضاء "القيادة السابقة" التي اعتقلها حافظ الأسد في انقلابه في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، وأفرج عنه في 1981 بسبب إصابته بورم في الدماغ، وسمح له بالخروج للعلاج في أوروبا. شفي الرجل وقضى حياته هناك حتى توفي في مطلع 2016 ولم يعد إلى سورية.
في ذاكرته، التي نقل منها المليجي، ما يضيء على كثير من تفاصيل الحياة السياسية التي عاصرها وكان في قلبها، بوصفه وزيراً للزراعة مرتين ورئيساً للوزارة مرتين وعضوا في القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم. يبقى السؤال لماذا "يبخل" زعين بما لديه على أبناء بلده، ولاسيما أنه عاش المرحلة التي تأسست فيها دعامات "الحكم الأبدي"؟ ماذا حل بالطبيب الذي تطوع في وحدة هواري بو مدين، ليعالج الجرحى في حرب التحرير الجزائرية التي اندلعت في 1954، وعاد إلى سورية ليكون وزيراً للزراعة متحمساً للإصلاح الزراعي عقب انقلاب آذار 1963؟ لماذا لا يجد لديه الحماس للقول؟ لماذا يريد الموت قبل أن يقول ما لديه؟ ولماذا إذا قال لا يريد نشر شهاداته قبل وفاته؟ لماذا يدفع "الإحساس بالوطنية" إلى الرغبة بالموت، كما يقول، بدلاً من الرغبة في العمل أو على الأقل في "القول"؟
يتوسع السؤال ليشمل بقية القيادة السابقة التي أحالها حافظ الأسد إلى السجن وأحالت نفسها إلى الصمت. لا يمكن لسوري يريد دراسة تاريخ بلده، ولاسيما في مرحلة الستينات المعقدة، أن لا يتساءل أين مذكرات صلاح جديد أو ابراهيم ماخوس أو أحمد سويداني أو محمد رباح الطويل ..الخ. إذا افترضنا أن الرقابة في السجن حالت دون كتابة المسجونين مذكراتهم، وهذا كلام ضعيف القدرة على الإقناع، لماذا لم يكتب من لم يطالهم السجن (ماخوس مثلاً)، ومن خرج من السجن وعاش سنوات طويلة في بلاد تتيح حرية التعبير (زعين)؟
هل هي الهزيمة والإحباط؟ لكن إذا امتنع المهزومون عن كتابة تاريخهم سوف يساهمون في هزيمة قضيتهم أيضاً، مهما تكن هذه القضية، لأن التاريخ هو ما يُدون. هذا فضلاً عن أن في الصمت استهانة بحق أجيال قادمة في معرفة أغنى وأدق لتاريخ بلدهم الذي تطوى منه صفحات، أو تبقى منه صفحات مشوشة، حين يضن الأشخاص الفاعلون بمحتويات ذاكرتهم وبنظرتهم للأمور وروايتها بعيون رأت وعاشت التفاصيل التي حددت مصير بلادهم. ألا تسيل الذاكرة إلا لروي الانتصارات والأمجاد؟ ولكن كان لهؤلاء انتصاراتهم وأمجادهم لماذا لم يكتبوها؟ لماذا يجد زعين مثلاً نفسه "مشتتاً" فلا يقبل فكرة التعاون مع كاتب بمستوى جورج طرابيشي عرض عليه التعاون لكتابة مذكراته؟ إذا كان الحال (الهزيمة) لا ينفع، فلينفع النطق، كما يقول الشاعر. ليس النطق من أجل الهجاء أو قول روايات انتقامية، بل من أجل النقد وتوفير عناصر الفهم ونقد روايات "المنتصرين".
في مشهد الاعتقال الذي يرويه يوسف زعين للمليجي، بعد إلحاح وصبر من هذا الأخير، كما يشرح، ما يفيد أن "القيادة السابقة" لم تكن قد خسرت مرتكزات القوة العسكرية التي جمعها في يده وزير الدفاع حينها، بل خسرت أيضاً، وهذا هو الأهم، مرتكزات القوة السياسية. لم يعد لها سيطرة على الجيش أو الأمن، ولكن لم يكن لها رؤية سياسية مفتوحة الأفق أيضاً. المشهد يقول إن حافظ الأسد جاء مساء يوم الانقلاب إلى مقر مخابرات القوى الجوية، حيث كانت القيادة محتجزة بوجود ناجي جميل. "كنا منهكين، لم يعاملونا بقسوة فقد كانوا مأمورين. المهم جاء حافظ الأسد وقال إنه يريد أن يتحدث معنا لنصل إلى صيغة محددة. كنا نعرف نواياه مسبقاً. صلاح جديد لم يقل كلمة .. غادرنا بعدها حافظ الأسد، أما ناجي جميل فكان قريبا أو نسيبا (صهرا) لمحمد الشامل وأحضر لنا بعض الطعام، أكلنا أنا وشامل ولم يأكل صلاح جديد رحمه الله".
تشي زيارة الأسد تلك إلى ثقته بامتلاك ليس فقط القوة في المستوى العسكري والأمني بل وفي المستوى السياسي أيضاً. وهي الثقة التي تجلت في الاكتفاء بسجن القيادة السابقة على خلاف الانقلابيين الذين يميلون غالباً إلى التخلص من رموز القيادة السابقة لكي لا يشكلوا مراكز استقطاب أو "أملاً" لحركات شعبية معارضة للحكم الجديد. ويشي صمت صلاح جديد حينها أنه يدرك الإفلاس السياسي، قبل العسكري، الذي كانوا فيه، وهم يحملون عار هزيمة كبرى تركوها مرمية في الشارع، لم يتجرؤوا أن يعترفوا بها وأن يتحملوا مسؤوليتها، لأنه لم يكن لهم الرصيد السياسي الذي كان لجمال عبد الناصر وجعله يتجرأ على تحمل المسؤولية علناً وعلى الاستعداد للاستقالة.
إذا كانت لحظة الاعتقال الحرجة تلك تعقد اللسان، فلا شيء يبرر الصمت التالي. يدرك السوريون اليوم، أكثر من غيرهم، قيمة الرواية الموضوعية والمسؤولة من موقع مضاد للسلطة، بعد أن شهدوا كيف تسعى روايات المتسلطين، إلى التهام ثورتهم وحرقها في التاريخ بعد أن جرى حرقها على الأرض. لا يكتفي وحوش السلطة بامتلاك الواقع بل يسعون إلى امتلاك الرواية أيضاً، وعبر امتلاك الرواية يحاولون امتلاك الحق وحتى المشاعر، والتحول من وحوش إلى أبطال، فيما يتحول خصومهم، في الحركة نفسها، إلى عملاء أو إلى مُضللين وساذجين في أفضل حال.
في كل مكان، وفي بلادنا المحطمة بوجه خاص، الصمت ليس حقاً لمن يمتلك ما يقول. في كل زمان، وفي زمان حطام مسعانا بوجه خاص، التدوين الموضوعي المسؤول واجب على كل من لديه ما يقول. قد يكون الصمت سبيلاً للنجاة في لحظة سياسية محددة، فمن الطبيعي أن لا يتجرأ كثير من الناس على قول الحق في وجه سلطان جائر، غير أن الصمت عن رواية تاريخ شارك فيه الشخص وعاش تضاعيفه، هو تخل عن مسؤولية واستهتار بحق أجيال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انطلاق معرض بكين الدولي للسيارات وسط حرب أسعار في قطاع السيا


.. الجيش الإسرائيلي يعلن شن غارات على بنى تحتية لحزب الله جنوبي




.. حماس تنفي طلبها الانتقال إلى سوريا أو إلى أي بلد آخر


.. بايدن يقول إن المساعدات العسكرية حماية للأمن القومي الأمريكي




.. حماس: مستعدون لإلقاء السلاح والتحول إلى حزب سياسي إذا تم إقا