الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تخوم الضياع العربي

هيثم بن محمد شطورو

2020 / 11 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لئن بدا لنا من المستساغ عدم التـفكير بالديالكتيك، فإن ذلك هو مبعث كل نظر جزئي ورغبوي في العالم وفق ما نتوجه نحن بأنظارنا نحو العالم، وهذه النحن هي الأنا في مربعها ومنطلـقها وعالمها، ولكنها تسبغ كل تلك التصورات على العالم برمته فيغدو العالم هو عالمها في وعيها القصير المدى، وليس العالم فيما هو في ذاته. ويـبرز الإشكال في هذه البنية من التـفكير بخصوص بلوغ مرحلة عدم القدرة على تـفهم العالم، وبالتالي عدم القدرة على رؤيته، وبالتالي عدم القدرة على الفعل فيه وتغييره. على نفس مقاسات المسافات فالاتجاه نحو العالم هو بدوره في نفس الوقت الاتجاه نحو الذات، وانعدام القدرة على رؤية العالم هي انعدام القدرة على التعرف على حقيقة الذات وبالتالي انعدام القدرة على تحريك الإرادة فيما هو مصلحة للذات وقدرة على العيش في العالم وانعدام قدرة على الظفر بالحياة، سواء كانت الحياة إرادة قوة أو إرادة سعادة أو إرادة حياة..فالتأمل الفلسفي مهما ابتعد في تجريداته عن الواقع العملي المباشر إلا أنه ذو غاية وفاعلية في تغيير الواقع الإنساني، باعتبار الواقع في نهاية الأمر وفي مبتـدئه هو حركة الفكر..
وان دور الاشتغال النظري هو بناء الأساس التـفكري للإحاطة بالواقع بمجمله الذي لا يمكننا الإحاطة به في جميع أحداثه ووقائعه وتداعياته وأفكاره المتـشعبة ومساراته، وبالتالي يكون الاشتغال النظري محاولة للإحاطة بأم المسائل وبجوهر القضية، وانه ليـبدو بشكل واضح أن جوهر الضياع العربي اليوم هو عدم امتلاك الأساس الديالكتيكي في التـفكير، وبالتالي عدم بناء رؤية نقدية للذات والعالم انبناء عليه. وإذا أردنا تحديد المقصد بوضوح، فإن الأخذ بالديالكتيك الماركسي في القرن العشرين، وإن خلق فاعلية في تـثوير الواقع والنظر إليه، إلا أنه كان قاصرا بحكم قصور الديالكتيك الماركسي ذاته، وقصوره المعيب بالنسبة للمناخ النفسي والفكري العربي في صيرورته التاريخية. فهذا الديالكتيك وإن كان اشتغال لجزء من هيغل في مجتمع الثورة الصناعية وعهد الصناعات الكبرى ذات المداخن القائمة على جيوش من العمال، وهو ما تجاوزه الواقع الرأسمالي في ذاته، فعالم اليوم هو عالم التكنولوجية والعدد الضئيل من العمال وحتى العمال فهم العمال المتعلمون، وليس عمال البنية الجسدية المتينة بمثل ما دأبت الدعاية السوفياتية على جعل تلك الصورة أيقونة، وخلقت منها أيقونة وفي نفس الوقت خلقت ثباتا في نمط الصناعة جعلها تصبح متخلفة أمام تطور نمط الإنتاج في اليابان والغرب..والديالكتيك الماركسي مثل صفعة للذهنية العربية من حيث نفيه لعالم الروح وللملكوت الالاهي، فإن كانت أوربا لها نموذج اليونان والإغريق في التاريخ والثقافة، وبالتالي تمكنت من تجاوز الدين الذي كان غريبا عنها أي المسيحية التي أتـتها من الشرق والتي مثلت مرضا أصاب الروح الأوربية بمثل ما قال "نيتشه"، والعودة إلى الجوهر الإغريقي هو عودة إلى التواصل مع الذات الأوربية، أي امتلاك الذات في الوعي ومن ثم الانطلاق وفق جوهرها الروحي في النظر إلى العالم والذات، فإن الذات العربية هي ذات دينية، وجوهرها تمثل بالأساس في اللحظة القرآنية، لحظة أن كلمهم الله مباشرة عن طريق الرسول محمد. وبالتالي فالثـقافة المنبنية على الابتعاد عن جوهر الذاتية العربية لم تـقم إلا بتعميق لحظة الضياع للذات، وهي مرحلة ضرورية في الصيرورة التاريخية للوعي الكلي، لكنها لا تحقق الذات وإنما هي لحظة سابقة لإرادة التوائم مع الذات، ولكن ليس بالذات القديمة وإنما بالذات التي تمثلت ضياعها وتمثلت الآخر، وتتجه إلى جوهرها وإزالة جميع عوامل تغييب هذا الجوهر، وفق رؤية معاصرة تـنـفـتح على الحرية بما هو انـفـتـاح على الإبداع بما هو انـفـتـاح على المستـقبل الجديد..
فاللحظة العربية الحالية هي لحظة التوجه نحو الذاتية الجوهرية لمعانـقـتها، ولكن هذه اللحظة لا تعني الرجوع إلى التمثلات الشكلية والمادية لهذه الذات، بل هي لا تعني التمثلات الوعووية المختلفة لهذه الذات عبر التاريخ، بل هي أصلا عملية انـتـفاض ضد تلك الأشكال من التاريخ الواقعي فكريا وواقعيا. إن المسألة تعني الإلتـقاء بالجوهر وإرادة بعثه من جديد وفق البنى التـفكرية الجديدة من ناحية، وهي في نفس الوقت تمثل لإرادة بناء مستقبل جديد يكون إبداعا جديدا، أي في جوهرها عملية تحرر وفكرتها وباعثها الأصلي هو الحرية..
إنه الإلتـقاء النقدي إذن. في هذه اللحظة بالذات تنصرم كل التمثلات الجامدة لتعقد الذات المفكرة رابطة جديدة مع الذات والعالم. وكمثال تطبيقي توضيحي، فمن المعلوم أن شخصية حمزة ابن عبد المطلب تمثلت في الوعي العربي الإسلامي المعاصر أساسا كشخصية جوهرية في الإسلام، وذلك بفضل فيلم الرسالة للمخرج السوري "مصطفى العقاد". أخذ حمزة صورة لذوية للوعي الإسلامي برغم انه لم يكن كذلك في المتون الإسلامية القديمة. أي أن قيمة هذه الشخصية بلورها فيلم الرسالة ذو التأثير الكبير، وأخذت مساحة شاسعة في مكانية هذا الوعي، وهذه المكانة لم تكن تملكها في المتون الإسلامية القديمة. وهذا يعطينا فكرة بالغة الأهمية حول قدرة الوعي الثقافي المعاصر على القيام بعملية إنتاج جديدة للقيم والمرموزات الإسلامية في إطار توظيفها وفق التحديات المعاصرة ووفق نمط التفكير المعاصر. فشخصية حمزة بما أنها كانت ثانوية في التراث الفكري الإسلامي فإنها كانت متخففة من محمولات تلك الثقافة. قام العقاد باستنهاضها بمثل ما استنهض شخصية بلال الحبشي التي كانت ثانوية في الثقافة الإسلامية كذلك. هذا الاستـنهاض الجديد تضمن في نفس الوقت إسلاما واقعيا. شخصية حمزة كصائد للأسود وعاشق للخمر { مثلما ورد في الفيلم على لسان هند} وفارس شجاع ذا مهابة كبرى، بحيث يخافه أبو الحكم أو أبو جهل وفق ما أطلق عليه النبي محمد، وقريش بحيث لم يبارزه أحد ولم يقترب منه أحد حين صفع أبا جهل في محيط الكعبة، وثم بروزه كقائـد لمعركة بدر ذات القداسة إسلاميا، وقيامه بتـنظيم الهجوم بين الرماة والمشاة، وشراسته في القتل وقطعه لرأس عتبة أب هند زوجة أبي سفيان.. كذلك شخصية بلال الحبشي وهو عبد تحرر بفضل الإسلام ومناضل تعرض للتعذيب الشديد ومثل الإسلام المناضل واقعيا والمصارع واقعيا بمؤمنين أشداء في إيمانهم، وبالتالي انتصار الإسلام واقعيا بأشخاص واقعيين، وحتى هند كانت تبكي عمها وأخيها وأبيها وجل أسياد قريش خلافا لزوجها أبو سفيان لأنه لم يشارك في بدر، والتأشير الواضح لخطة مسبقة في قتل هؤلاء الأسياد الشيوخ الممثلين للعالم القديم والثابتين عليه ومن المستحيل أن يتـقبلوا الأفكار الثورية الجديدة بما أنها تـتـناقض جوهريا مع مصالحهم ووعيهم الديني بمثل ما ورثوه من آبائهم، فالشيخ عالم قد اكتمل والأفكار الجديدة يؤمن بها الشباب ويعارضها الشيوخ.. والحقيقة أن فيلم الرسالة بما مثله من مساهمة فاعلة في بناء وعي إسلامي واقعي جديد تستحق بحثا يشترك فيه أكبر نقاد السينما مع فلاسفة وصحفيين مرموقين لتبين مختلف أبعاده ولإبراز جدته الكبرى ومحاولته الذكية جدا والجريئة في ابتـناء رؤية واقعية للحدث الإسلامي.. إن عملا كهذا يندرج ضمن الإلتقاء النقدي مع الذات والخروج من لحظة الضياع..
في هذا الفيلم تم استغلال تحريم تصوير النبي وعمر ابن الخطاب وابو بكر وعلي ابن أبي طالب، وهم الشخصيات الرئيسية في الثقافة الإسلامية التقليدية، ليتم تصوير حمزة وبلال الحبشي ورفعهم إلى مستوى البطولة في الفيلم ولكن كذلك البطولة في التاريخية الإسلامية التأسيسية الجوهرية كذلك، لتتمرر من خلالهما بطولة فكرية واقعية أرادها المخرج، وبذلك يمرر تـفكيرا واقعيا في اللحظة التاريخية ويفتح أفق التـفكير الإسلامي الواقعي. ففي معركة بدر لم نرى الملائكة تحارب وإنما شخصيات واقعية لها دوافع قوية جدا في الانتـقام تمثـلت أساسا في قتل بلال الحبشي لسيده القديم أمية الذي نكل به وأذاقه أشد مذاقات التعذيب جحيمية بما لا يطيقه جسد إنسان، وبالتالي تسليط الضوء بل إبراز عامل شديد الفاعلية في جميع الحروب والقتل والقتال وهو الرغبة الحارقة في الانتقام وهو ما كان حاضرا بقوة في تصوير معركة بدر. أما بطولة حمزة فهي فكرة القوة وإرادة القوة كحافز قوي وقد صورتها شخصية "عبد الله غيث" باقـتـدار كبير اعترف به الممثل العالمي "انطوني كوين" الذي مثل نـفس الشخصية في النسخة الانكليزية من فيلم الرسالة، بحيث اعترف بتـفوق عبد غيث عليه في تجسيد شخصية حمزة وذاك راجع إلى التمثل الثـقافي إضافة إلى المقدرة الكبيرة للممثل. وبالتالي بعملية إقصاء ذكية للشخصيات الممثلة تقليديا للإسلام تم إبراز المعاني الواقعية والعلمية للانتصار، بمثل ما أبرز الهزيمة في معركة أحد بكونها دليلا على الصيرورة الواقعية للأحداث خارج المنطق الاسطورري، وأبرز فيها بشكل واضح شراسة خالد ابن الوليد وفروسيته التي ألحقت الهزيمة النكراء بالمسلمين، كما أن هذه الهزيمة تجعلك تفكر في انتصار بدر بكونه نابعا بالأساس من احتـقار قريش للمسلمين وقد عبر أمية ليلة المعركة التي كانوا يحتسون فيها الخمر ويقيمون حفلا راقصا بكون هذه المعركة ستكون حفلا، وبالتالي لو كانت قريش جدية ومقدرة لحجم النقمة عند المسلمين سواء من التعـذيب ولانـتهاك لإنسانيتهم واحتـقارهم، إضافة إلى عامل أساسي صوره الفيلم بكل وضوح وهو تـدمير ممتلكات المهاجرين في مكة والسطو على ممتلكاتهم وزوجاتهم وأبنائهم، مما يؤشر بوضوح إلى العوامل الواقعية للاندفاع الكبير للانتـقام عند المسلمين والذي قابله احتـقار كبير من قريش لهؤلاء المتهورين. وبالفعل فقريش قبيلة عربية كبيرة وهم فرسان وأهل حرب، ووجدوا أنفسهم في معركة مع العبيد والضعفاء وقليل من بني هاشم وهم أسياد وفرسان كذلك ولكنهم قلة. أما جماعة الأنصار من الأوس والخزرج فقليل منهم من شارك منهم في المعركة، فجميع قوات المسلمين كانت في حدود الثلاثمائة مقاتل..إذن، ومن خلال شخصيات الظل في الثقافة الإسلامية القديمة التي لم تتضخم بالثـقافة الأسطورية وبالأكاذيب والمتخيلات والاستعمالات الثـقافية والسياسية القديمة، قام العقاد بطرح رؤية جديدة واقعية للإسلام. هذه الرؤية التي برزت في أوائل السبعينات قدمت بالفعل هذه النظرة، ولكن انقطاعها إضافة إلى الثورة الإيرانية وظهور الخميني كفاتح أمل للخلافة الإسلامية، وثم في عصر الفضائيات حين انـتـشرت قنوات الإسلام الوهابي السعودي، وثم ظاهرة عمرو خالد، غطت على الرسالة العقادية التنويرية وتموقعها التاريخي في الالتـقاء النقدي مع الذات في جوهريتها..
فلولا الصراع ولولا ابو جهل ولولا التعذيب، أي بغياب الطرف الرئيسي في المعادلة وهم قريش المحاربة للإسلام والذين تم تسميتهم بالكفار في الإسلام، لما كان للإسلام أن يولد ليكون قويا ومندفعا تلك الاندفاعة. هذا هو جوهر الإدراك الديالكتيكي. من ثم، فإننا نتساءل عن الله في القرآن وماهيته، وهل هناك مستويات مختلفة من المعنى، وبالفعل هناك مستويات مختلفة، فهناك الكلام الالاهي المشارك في الصراع المباشر وهناك المتعالي الذي يضم الجميع، أي إلاه الناس جميعا، وهي المراوحة الديالكتيكية بين الصراع المباشر وبين الأبدية والكلية وهي النقطة الجوهرية في الوحي والقرآن والتجربة الإسلامية. الله في ذاته لا نعلمه ولا ندركه، والواسطة بيننا هي القرآن بالنسبة للمسلم الذي يعتـقد في القرآن كلاما إلاهيا. هذا الكلام يبدو واقعيا جدا ومرتبطا بشخص الرسول وتموقعه من جهة ويبدو من جهة أخرى كونيا. يبدو باختلاف المستويين البارزين يؤسس لمدنية جديدة وفي نفس الوقت مضاد لظاهرة السلطة..إذن هو بين التجسيد الصارم والانفلات الحر..
تحدثـنا عن فيلم الرسالة باعتباره عملا فنيا مرموقا والفن هو الأقدر على تغيير الشعوب. ولكن الفن يستـند إلى عمل المفكرين والمنظرين والفلاسفة، ومشكلة الإنتاج الفني العربي اليوم في عمومه انه فصل نفسه عن الفكري الجدي وارتمى في التـقـليد، وبالتالي فهو خلافا لكونه ممثلا للانحطاط فانه يحكم على نفسه بالزوال، وهو ما يتـناقض جوهريا مع روحية الفنان الحقيقي كروحية تعانق الخلود. وروحية الخلود لا علاقة لها بروحية التجارة والتسويق..
وعلى مدى القرن العشرين شهدنا عديد المفكرين المتجهين نحو الإلتـقاء النقدي مع الذات، ولكنهم لم يمثلوا تيارا ولم يمثلوا مدرسة و تم عزلهم ليس من قبل السلطة في البرامج التعليمية والثقافية وإعلامها فقط بل من التيارات السياسية اليسارية التي بقيت في عمومها تلوك نفسها بإيديولوجية محنطة ودوران في نفس البنية الفقيرة فكريا والخارجة عن الديالكتيك الهيغلي الحي، وحتى إن كان "ميشال عفلق" مثلا قد فكر ديالكتيكيا هيغليا في محاولة فهم وتمثل الذاتية العربية، إلا أن البعث كممارسة سياسية تأقنم في إيديولوجية ثبوتية وزعاماتية شبه تأليهية وإقصاء للجانب الفكري الحر المرح، وهو ما كان سببا من أسباب قصور وانسداد آفاق التجربة سياسيا وفكريا واجتماعيا..
فالمطروح اليوم، هو العود إلى الذات ولكنه العود إلى الجوهر الروحي وليس إلى تمثلات الذات السابقة. وهذا ما أراه عنوان المرحلة بعد التخلص من أشكال الاغتراب الفكري الثبوتي الغير واقعي والذي عبر عن ضياع الذات سواء في التفكير الإسلامي أو الماركسي أو الليبرالي، وفي نفس الوقت ما نجد محاولاته الجريئة والذكية عند عديد المفكرين العرب دون تحديد أسماء البعض كي لا نحيد عن محاولات الآخرين، ولكن الأفكار دون خلق جو متجمع حولها أي دون تحولها إلى تيار فكري ومدرسة أو مدارس فكرية وأعمال فنية، فإنها لا تفعل في الواقع بالسرعة المطلوبة في عصر السرعة. فالفارق الحضاري اليوم هو بالأساس فارق في معدلات السرعة. فالعالم اليوم هو بين العالم السريع والعالم البطيء..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلتنا: مقتل شخص في غارة استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأسود ج


.. مشاهد جديدة من مكان الغارة التي استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأ




.. صحفي إسرائيلي يدعو إلى مذبحة في غزة بسبب استمتاع سكانها على


.. هجوم واسع لحزب الله على قاعدة عين زيتيم بالجليل وصفارات الإن




.. شمس الكويتية تسب سياسيي العراق بسبب إشاعة زواجها من أحدهم