الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيام الكورونا لا تُنسى

سميح مسعود

2020 / 11 / 14
الادب والفن


أيام الحجر الإلزامي في عمان تمر ببطء شديد،تُشعرني أنني لست كما كنت بالأمس،إنها تعزلني بحزم وسط أمواج ضباب تلفعني،أحاول أن أخلق أثراً لها على أوراقي، ها أنا أكتب عنها بكلمات متشابكة،تغمر بعضها بعضا في سطور متمايلة، قلمي لا يستطيع تشكيلها لما أعانيه من رجفة في يدي ، في ظل أجواء مفعمة بالتوجس من الجائحة الشريرة التي تنشر الموت بفراسة في العالم أجمع.
أحاول جمع أفكاري التي تنطلق هنا وهناك انطلاق الطيور التي أصابها الحريق، وأشعر في أعماق نفسي أنني أصبحت أسيرا بين جدران بيتي، أحاول أن أتخطى مكاني الضيق خيالياً إلى بعد مكاني أوسع، أجوب أمكنة كثيرة دون توقف،وفي لحظة أتوقف عند أبواب سجون غائرة في الأرض المحتلة، تفتح ذاكرتي المثقلة بصور وحكايات كثيرة للأسرى من أبناء بلدي،أغمض عينيّ وأتخيل زنازينهم التي تفوح منها رائحة الموت،أشعربهم في أيام الكورونا أكثر من ذي قبل، أسمع أصواتهم بتكوينات عالية الإيقاع، أحس بها،لا تنفصل عني وتقربني منهم، وتؤكد لي في رؤية كاشفة أن حجري في بيتي لا يعني شيئاً بالنسبة لمعاناتهم التي تمتد إلى ما لا نهاية في براثن الزمن.
أدرك جيداً أن ظروفي لا تقارن بظروف أسير حكم عليه من قبل جلاده عشرات السنين أوأسرى حكم عليهم بعدة مؤبدات وهم في ريعان الشباب، لم تعرف محاكم العالم مثل أحكامهم في تاريخها الطويل، أشعر أن عتمة دهاليز سجونهم تسلب بصري وأنا أحدق بهم عن بعد، وفي لحظة أضغط بإحدى يديّ على الأخرى، وأغوص في خيالي للقرب من أحدهم، مطرق الرأس في سكون المكان أخطو عدة خطوات تدفعني إلى التقدم،وأجد كل شئ حولي أصم، أسير وأحاول إيقاف الزمن بحركته السريعة، يستجيب لي وأصل إلى الأسير في زنزانته،أعانقه بأهداب جفوني، أقف أمامه واسمع صوته الدافيء يقول لي:إن جريان الزمن في السجن يتم بدون متنفس لتنوع الأحداث ، يخفق على وتيرة واحدة لا يُسمع فيها سوى أصوات حراس تأتي من كل الجهات ممزوجة بكلمات كره لا تعرفها مفردات الحضارة الإنسانية.
أتجول في زنزانته أجد على جدرانها عشرات الصور ثلات صور منها أثارتني واحدة للزعيم الإفريقي نلسون منديلا والثانية للمناضل الأممي تشي جيفارا والثالثة للشاعر الأممي لوركا، لاحظت أنه يقتفي خطوطها بعينيه الواسعتين بعاطفة كبيرة،أعلمني أنها تسليه في أحاديثها معه، وفي أحيان تحمله فوق نوارس خارج الزمان والمكان، تتجول به في أمكنة بعيدة بعيدة ثم تعود به إلى زنزانته من جديد.تلون حديثه عن السجن بألوان كثيرة أثقلها بحمولات مفردات كثيرة قالها بصوت خفيض سمعتها رغم عدم قدرتي على السمع بشكل طبيعي.
لاحظت من حديثه أنه دخل السجن عندما كان في الثامنة عشرة من عمره وأنه يدخل الآن سن الخمسين، سجنه حث عزيمته على الدراسة، تدرج فيها حتى حصل على أعلى شهادة جامعية، أطلت النظر على شهادته المعلقة فوق رأسه، وتأكد لي في تلك اللحظة أن قيمة الإنسان بما يفعله، كررت هذه الكلمات في أعماقي في وقت كان به رجاج زنزانته الحديدي الثقيل يُحكم عليه، عندها تمنيت لو أنني أسير زنزانته لأبقى محله فيها إلى الأبد، كي أحرره من لفح سموم عدونا المقيتة.
لقائي به حثني على القراءة في زمن الكورونا،فتشت في مكتبتي عن السير الذاتية التي أعشق قراءتها وأول ما فعلته استبعدت قراءة سير أهل السياسة ولمت نفسي لاقتنائها لأن أحبارها ممزوجة بأنسجة من الكذب لا حد له،وتبوح فقط بعظمة أصحابها، مع أنه ليس لهم علاقة بالعظمة وتسترخي ظلال أعمالهم الفاسدة على دقائق أيامهم وترافقهم حتى وسائدهم في الليل ويلتحفون بها أثناء النوم،حملت سيرهم المتوفرة في مكتبتي ثم رميتها في أقرب حاوية للزبالة حتى تنخرها الكورونا وتمزجها مع بقايا الأطعمة الفاسدة ثم تختمر أكاذيبهم فيها.
بعدها عدت إلى مكتبتي وأخذت منها مجموعة من السير والمذكرات،أعطتني متعة القراءة لأن أصحابها من الصادقين، تصفحت كتبهم وتشابكت مفرداتهم معي غارت في أعماقي،وكنت أسمع خرير أصواتهم يخرج من أوراقهم يتقافز حولي كما يتقافز الفراش فوق زهور النرجس والدحنون في أيام الربيع الجميلة، أخذت كل يوم أقبل على القراءة بلهفة لا توصف،ألتهم الورق التهاماً وأشق طريقي بين الكتب التي اخترتها وهي كثيرة تزهو باسماء مؤلفيها، منهم: حنا نقارة ،حنا أبو حنا، سميح القاسم،بابلو نيرودا،عبد العزيز العُطي،يعقوب زيادين،فائق وراد،وشهادات عن سليمان النجاب، وأخرى عن تيسير عاروري ،كما قرأت مذكرات عبد الرحمن النجاب و صلاح الموسى.
ذات يوم من أيام الحجرالمنزلي كانت فيه الشمس ساطعة تترامى أشعتها في كل مكان، اندفعت في داخلي قوة الحياة من جديد،أحسست برغبة لقضاء وقتي بالقراءة، وفي الحال اتجهت مسرعاً إلى جلال الدين الرومي لكي أسمع صدى أفكاره عن أسرارالموت والوجود ومقاييس الزمن اللانهائي،إنه أفضل من أستطيع اللجوء إليه في ظروفي الحالية.
تصفحت بعض كتبه ودواوينه، وتمتعت برقة دوي كلماته وأشعاره، استولى عليّ سحرني، ونسيت عزلتي،وأصبحت حياتي مع القراءة هادئة أشد هدوءاً عما كانت عليه في أيام الحجر الأولى، لكنه للأسف ذات صباح طغت على هدوئي ترانيم شعائر بصدى قوي ، استحوذت عليّ، وسرعان ما علمت منها أن المناضلة الرفيقة تيريز هلسا قد أغلقت جفونها المتعبة، هزمها المرض العضال. فُتحت كوات الليل المظلمة وألقت غلائل الموت السوداء عليها.
عاشت بأعمالها النضالية في بعض الخلود الزمني المثير، ناضلت وأُسرت وزُجت في زنازين الاحتلال أكثر من عقد من الزمن،لم يؤثر عليها ظلام السجن وبقيت على إيمانها بعدالة قضيتها، وبعد أن أفرج عنها واصلت نضالها في قوة وعنفوان، وها هي الآن تفارقنا في نحيب صامت، ولا يسير في جنازتها سوى قلة قليلة من أقرب الناس إليها،بسبب الحجر المنزلي، ولو كانت الحياة طبيعية ، لامتد صف مودعيها من مسقط رأسها عكا حتى مدينة أجدادها الكرك في جنوب الأردن التي توفيت فيها، وهم يحملون أكاليل من النرجس والدحنون ولباليب الزيتون التي تشع بنبض مودعيها
دفنت بدون مواكبة شعبية تليق بها وبسجل نضالها وسنوات أسرها الطويلة في سجون الاإحتلال المظلمة،رحلت عنا بهدوء في وقت كانت فيه الكورونا تزداد حدة وشراسة،ترمي أثقالها في كل مكان وتعبر المحيطات وتبني أعشاشها في أعالي جبال الأنديس وأمواج الأمازون حتى آخر نقطة في المعمورة، شكلت لنفسها شباكاً خاصة بها، وغدت بعض المدن رماداً وهشيما، هكذا خطفت فحوى الحياة وأغلق الناس بسببها أبواب بيوتهم ،عزلوا أنفسهم ومُنعوا من الاتصال بأحد.
وأنا مثلهم أسيرجدران بيتي أحس بوحشة تسطو على وعيي، وأمامي ليل طويل لا أستطيع تحمله إلا بالقراءة.وهأنذا أعود ثانية إلى جلال الدين الرومي ،أغوص في ديوان "المثنوي"،أحبس أنفاسي وأرى سلطان العارفين بثوبه الأبيض وغطاء رأسه الصوفي الأبيض الطويل بين القوافي والسطور، وهو يرقص رقصة المولوية التي ابتدعها إبان حياته،أحس به وهو يندمج في مشاعر الصفاء الروحية على أنغام الناي، استولى عليّ في دورانه حول نفسه،يزداد وضوحا في شبكة إيماءات على أوراق ديوانه الممتد أمامي، يبقى على هذا الحال مدة طويلة في سياق فضاءات مترعة بالأحلام، وألاحظه وهو يتخلص من معالم الوجود الأرضي ويصعد إلى عالم أزلي آخر، في تلك اللحظة حدقت في عينيه الرماديتين المغرورقتين بدموع الفرح لتخلصه من أعباء الحياة، وهكذا ساعدني ثانية أن أخفف عن نفسي ثقل مجريات الحجر الإلزامي،وأن أغرق في بحر من الرؤى المتشعبة.
تمر الأيام والليال الطوال، ورغم ما أسمعه من أخبار خطيرة عن الهزائم التي تلحق بالناس من جراء انتشار الكورونا أحس الآن أنها ستُهزم كما هزم الإنسان المعاصرعشرات الفيروسات الخبيثة التي ظهرت من قبل، هكذا أقنعت نفسي، وكلما كانت تعود لي بعض الأفكار التشاؤمية في غور ظلام الليل، وتثير في نفسي قدرا خافتا من الاضطراب أعود ثانية إلى ديوان" المثنوي"، وتتعاقب الساعات مع ناي المولوية المتخيل، ينساب صوته إلى أذنيّ،أسمعه دون انقطاع في ألحان عذبة الإيقاع.
بعد ظهر يوم وكانت يدي ما تزال ممسكة بالقلم، أكتب عما تتوق إليه نفسي، رن هاتفي وسمعت على الطرف الأخر صوت صديقي"مارفن جونر" من كندا قال لي بكلمات مؤثرة"ثمة خيط عميق يجمع الكورونا الحالية بالأوبئة التي زرعها المستعمر الأوروبي في صدور أجدادي من سكان أمريكا الأصليين"تحدث مطولا عن وحشية الرجل الأبيض، وعن تحركات الأجرام السماوية العديدة التي توزع الآلام والمحن على بني البشر.
انتهى الحديث مع صديقي"مارفن"مع دوي صفارة الإنذار، نظرت من النافذة وشعرت بالهدوء يعم عمان،في لحظة تجمعت فيها أشعة الشمس في بؤرة واحدة قبل المغيب،رجعت إلى ديوان "المثنوي" وأحسست أن مشعل الأمل ما زال وضاء يبشر ببعث يوم جديد ما بعد الكورونا تُرسم فيه الابتسامات على الوجوه من جديد.
إنه الأمل الذي يطلب الرومي من قارئه أن لا يتخلى عنه في وقت الشدائد، لأنه سيحنو عليه دوماً ويحمله إلى ضفة الأمن والسلامة مهما جرى الوقت وطال الزمن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با