الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المهدي السوداني

الطيب عبد السلام
باحث و إعلامي

(Altaib Abdsalam)

2020 / 11 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


لكل شعب مسلم خصوصيته الثقافية و الإجتماعيه التي أعاد تكييف الإسلام و فهمه على ضوئها، هذا الأمر لن نتأمله و نشاهده إلا عبر " التنقيب التأريخي" في تلك الثقافة، و لهذا غرضين اساسيين أن التاريخ لا زال حاضرا و بقوة فيما نسميه حاضرا، و ان الحاضر هو نهر يجري من الماضي نحو محطة " الأن" ، و السبب الثاني هو فهم الحاضر في ضوء هذا الماضي الحي فيه.
هذا الحاضر الذي شهد الإلتقاء الحضاري بالعربي الجديد، فنفهم كيف فهمنا الدين و تمثلناه.
الدين المصري على سبيل المثال دين تسيطر عليه عقيدة الموت و البعث و الأخرة، و هذا بطبيعة الحال و بقليل من التنقيب الأثاري سنجده واضحا في كتاب " الموتى" التأسيسي للديانة المصرية حيث تسود و بقوة اكاليرس الموت و المعاد و طقوسه الإخروية،و هذا تجلى مباشرة في الهوس ب " تحنيط كل شئ"، بل أن نصبها الحضارية العظيمة اي الأهرامات كانت اشبه بالصرخة و الزأرة في وجه عدمية الموت و ظلام ليله و إقفاره.
التشيع العراقي نفسه القوي و الكاسح ما هو إلا إستعادة ل إلاه القتيل " دموزي" عاد و تجسد و اؤول و تجسد في شخص الحسين و هو أمر طبيعي في ظل بلاد تعتمد على دورة الخصوبة و الحصاد، فالأرض في نهاية الأمر و العلاقه معها هي التي " ترسم ملامح الدين".
هذا العمل التحقيبي سيساعدنا جدا في فهم ظواهرنا السياسية في الوطن العربي المستمده لمشروعيتها من تلك " العقيده".
في السودان فالقصة تختلف قليلا ، لإن السودانيين لديهم " شبق روحي" تجاه معنى النبوة و الصحابة، لانهم لم يكونوا حاضرين في لحظة التأسيس الاولى، و السودان و الاتراك هم اواخر الأمم التي دخلت الإسلام اي منتصف القرن السادس عشر و هو إسلام صوفي متأثر للحد البعيد بروح العصور الوسطى الغنوصية الهرمسية العرفانية.
و الإسلام تأخر في الولوج إلى السودان و ظلت حركته بطيئة لمقاومة السودانيين من ناحية و لغرابة الإسلام الذي بشروا به أي إسلام " السلف الصالح" الإسلام في تأويله الصحراوي، هنالك اسباب أخرى لكنني ركزت على هذا السبب لإن الإسلام الذي نجح في إختراق السودان و أسلمته هو إسلام الزوايا و النوبة و الدف و الطار.
حيث سنشاهد قيام اول دولة إسلامية في السودان منتصف القرن السادس عشر عام 1521 أي سلطنة سنار و التي شجعت المشايخ الصوفيين على الهجرة و الإقامة في السودان و فتح الخلاوي.
طبعا هذا الصعود للقوى الإسلامية في زيها الصوفي الذي ما هو إلا إستعادة عرفانية تجسيدية للنبي و سيرته كان حدثا عالميا بدأ بصعود الأتراك العثمانيين و العلويين بل و العباسيين قبلهم وصولا إلى الموحدين و المرابطين نزولا إلى ممالك كانم و تمبكتو و دارفور وصولا إلى سنار عاصمة السلطنة الجديدة، و هو إسلام العصور الوسطى الرؤيوي الغنوصي الذي ما هو إلا مرحلة من مراحل الهيلينة و طور من أطوار نموها.
هو إسلام عرفاني يستعيد التجربه النبوية عبر ألية "الكشف الصوفي" الذي يجعل من الذكرى النبوية حاضرة و محروسة بإصغاء الاولياء و المختارين إليها ليسمعوها، و هو ليس سماعا متعاليا نخبويا بل هو سماع من صميم يومي الناس و معاشهم النابض في اسمائهم و كلامهم و لغتهم، حتى لا يتوهم أنني اتحدث عن " شامانات" و إن كان الأمر لا يخلو من ذلك.
هذا الإسلام " الإستعادي" نجده تجسد في الواقع السوداني السياسي و بقوة، حيث ظل اشواقا
و احلاما في رؤى المسلمين السودانيين الاوائل، إلى أن تبلور و نضج في الثورة المهدية سنة 1883 ضد خلفاء محمد علي باشا، حين خرج الإسلام المراقب للواقع من الزوايا و حلقات الذكر و أمتشق بندقية " الرمتنتونج" خلف راية محمد احمد " المهدي" ، الرجل الذي فتح لهم يديه عاليا مداعبا في أحلامهم و خيالهم صورة النبي محمد.
فتحولت المهدية من ثورة سياسية إلى " ثورة دينية" يقودها النبي و زمرته من الصحابة.
هذا الأمر نجده و بقوة في مخاييل " الأنصار" اي اتباع المهدي الذين يرتفعون بواقعة الجزيرة ابا إلى واقعة بدر حيث ذكروا بالتحديد في كتب التاريخ التي درسناها ان عدد انصار المهدي كان 314، اي عدد رجال بدر المسلمين.
‌لا يفوتني هنا الإشارة إلى أطروحة ابو القاسم حاج حمد حول إنقسام السودان الحديث أي مناطق الدلتا الخصيبة في الوسط و سهل البطانة و الشق الثاني جبال و صحاري كردفان و دارفور إلى عالمين رؤيويين تجلى الأمر و ما زال يتجلى في العلاقة مع الغرب، ففي حين سارع الوسط إلى التطبيع مع الأتراك و من بعدهم الإنجليز سارع الغرب إلى النفور و الجفول منهم و أختراع الثورة المهدية، لكننا سنجد بالرغم من هذا التفاوت بين العالمين السودانيين أي عالم الوسط و الزراعة و الإستقرار الذي كانت تصوراته للمهدي اي " النبي العائد" اقل ثورية و جموحا مقابل عالم الغرب الظاعن في ترحاله و رعيه المدفوع بالحياة القاسية الشحيحة إلى القسوة و الثورة، و هي لعمري قصة كل الثورات بل و قصة الإسلام نفسه و هو ما أستفاض فيه إبن خلدون في نظريته حول العصبية و ما أستعاده دولوز في كلامه عن السدم و التخوم و الجذمور، و أنشتاين في موضوع الكتله و الطاقة، بل و أدم نفسه في قصة " الخلق" اي الطين العماء و الإمتداد و الشكل و التصميم و النفخ.
المهم فقد إنخرط كلا السودانيين اي سودان التخوم و الكاووس و سودان التمدن و الدولة و لكن بدوافع مختلفه في الثورة المهدية.
ففي حين إندفع الغرب بمفهوم خلاصي نبوي نحو المهدي، فقد إندفع الوسط بمفهوم رفاهي نحوه، أي بعد أن إستقر و ملأ بطنه أصبح يفكر في الدين و الصحابة و الجنة و الأخرة، و ارادت أجياله الجديدة تحقيق ذواتها بإلالتحاق بالمثل العليا التي تربوا عليها من متابعين و مجاهدين و صحابة، كليهما فهما المهدي بمعنى مختلف لكن كليهما ناصراه و انتجا حوله تلك الصورة الثيولوجية التي تحققهم تأريخيا في وجه أمتهم العربية، فترتفع بالمهدي إلى مقام النبي و قادته إلى مقام الصحابة حتى أشبه عبد الرحمن النجومي القائد العسكري في المخيال السوداني خالد بن الوليد.
بل أن محمد احمد "المهدي" نفسه كان غارقا في تشبهه بالنبي و تقليده لدرجة أنه عين اربعة خلفاء من بعده، بل و بعث بالرسائل إلى الأمصار ليدخلوا في " الدين الجديد".
الثورة المهدية التي صامت و فطرت على " بصلة" من المجاعات و الإقتتال الداخلي و الحروب الأهلية و أفنت ثلاثة أرباع السودانيين هزمت مع الفتح الإنجليزي عسكريا لكن المخيال الديني السوداني ظل متعلقا بتلك الصورة النضالية الجهادية فما لبث أن إستعادها مرة أخرى في إنقلاب البشير سنة 89، و قبلها عبر مسودة الدستور الإسلامي التي قدمها الأزهري كسبا لرضاء مهدويي الغرب السوداني و الشرق السوداني التي كانت بمثابة اولى الإرهاصات بالعودة المؤزرة لإسلام العصور الوسطى.
مع فارق أن التجربه هنا كانت أكثر تمدنا و أقل تعصبا اي إسلام البدل و الكرفتات و الأفندية، إسلام المؤسسة السلطوية.
و هنا ربما علينا تأمل خطاب الإسلام بوصفه خطاب وعي بالهوية و تأكيد للذات الحضارية نحو القيم الأوروبية الإستغرابيه و حوارا معها و مسألتها و كشفها و أكتشاف لقاءاتها الحضارية مع الشرق، و ملامحه في وجهها، لكن هذا بلا شك ما لم يدر في ذهن الأزهري و ساسة تلك المرحلة الذين رفعوا الإسلام لإقصاء الشيوعيين و مقاومة المد الإشتراكي السائد في الستينات و السبعينيات فخططوا بذلك لإخراج الكتله الشيوعية من الطيران و الأرتماء في حضن الأمريكان بالمجان و دون إزعاج، أخرجوا المارد من مصباحه فاطاح بهم إطاحته الكبرى في إنقلاب الترابي سنة 89.
تجربة الإسلاميين أيضا لعبت ذات الدور فباتت شخصيات كالترابي و ابودجانة و عبيد ختم و كأنها " فيلم الرسالة". لعلي هنا أختصر بهذا التعبير كامل العمل التعبوي الذي رأيناه في التسعينات بما في ذلك أخوات نسيبه التي هي تأكيد لما قلت، و رفعا لهذه الشخصيات لتلعب ادوارها في المخيال السوداني عن الزمن النبوي حتى كأنهم يصيرون هم، هذا إن لم يصيروا.
فحقبة التسعينيات كانت حقبة لنشر أدب الجهاد و الإستشهاد و تصور السودانيون أنفسهم و كأنهم صحابة ذلك الزمان إزاء إمبراطوريتي الفرس و الرومان او كما قالوا " أمريكا روسيا قد دنا عذابها"
هذه الفترة الغامضة التي لا يعرف عنها العرب كثيرا لإنها أدخلت السودان في عزلة دولية و فتحت معسكرات التجنيد الإجباري و أحكم الأمن قبضته على كل شئ و جندت مليشيات الدفاع الشعبي و الأمن الشعبي من الطلاب لقمع أي تحرك شعبي و هي قوات شبيهة بقوات الباسيج الإيرانية.
هذه الفترة جعلت من الشعب السوداني " شعبا رساليا" يستعيد و بقوة اللحظة النبوية في إندفاعتها الأولى.
محمود محمد طه ايضا لعب ذات الدور مع تحريفه لشخصية النبي و تأويلها تاويلا مسيحيا ليصير هو النبي في طلعته الليبرالية المهادنة المنسحبة، و لو تتبعنا مخاييل المحموديين عن محمود لوجدنا فيها من التقديس ربما ما يفوق علاقتهم بالنبي و هذا جائز في العالم العرفاني فهذا الجنيد يقول " اجتزنا بحارا وقف الأنبياء بشاطئها".
كلهم إستغلوا هذا الشبق و قادوا اتباعهم و " إنقاد لهم أتباعهم" إلى كوارث حقيقية فمنهم من مات و من بتر و منهم من أصبح عقيم الفكر و الروح النقدية و أصبح مرددا و محض صدى لإجتهادات محمود محمد طه الفكريه المتعسفه فقد اساء فهم القرآن و لوى عنقه كي يصبح الإسلام دين مهادنة و أتباع، تقربا للاوربي إسلام منضبط امام البندقية الغربية المسيحية.
لا يوجد شئ إسمه قرآن مكي هادئ و قرآن مدني عنيف، هذا عدم فهم للتجربه الإسلامية، القرأن هو إبن الظرف السياسي للنبي، فحينما كان محاصرا في مكة املى عليه واقعه التفكير بصورة مهادنة و بالتالي الوحي كان وحيا دعويا، حينما إنتقل إلى أفق بناء الدولة و الأمة كان الوحي مطابقا لحالته الجديدة،و الأخذ بأسباب قيام الأمة من نضال عسكري و تشريعات و مؤسسات.
اما حديث محمود عن المستويات و الإرجاء فإنه مجرد تبرير إعتذاري مسيحاني انا أجزم ان الرسول لم يفكر فيه.
لسنا مطالبين بإنكار نصف ديننا كي تتوأم مع مسطرة الغرب، بل مطالبين بفهم تمرحلاته الطبيعية.
هذه إضاءة بسيطة و نهائية على مشروع محمود م طه و الذي قال بوجود مستويين في القرآن، دعوي و جهادي و دعا لإلغاء الجهادي لصالح الدعوي التبشيري و إنتظار الحماية من " القواعد الأمريكية".
ايا يكن فمحمود أيضا رفعه أتباعوه و كيفوه وفقا لشبقهم الروحي للرسول فأرتفع تلامذته و قدسوا و أصبحوا هم الحواريين الجدد وفقا للدمج المحمودي الذي إبتدعه محمود بين الرسول و المسيح عبر تأويل الرسول مسيحانيا برفع أيات التبشير و الدعوة " بالتي هي أحسن" و جعلها هي المتن الأصلي الذي أضطر الرسول مجبرا " ليخاطب الناس بقدر عقولهم" لتأجيله لصالح أيات التشريع و الجهاد، مبشرا ب " إخوانه الذين يأتون بعده" يقودهم محمودهم ذو المقام المحمود ليكشف لهم " أيات الأصول" محققا ما أضطر النبي لتأجيله.
هذه عموما سياحة في العقل السوداني الديني ينقصها الكثير و الكثير بيد أنها تفتح مجالا مهما للغوص في المخيال الديني السوداني في ماضيه البعيد و حاضره القريب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من هي نعمت شفيق؟ ولماذا اتهمت بتأجيج الأوضاع في الجامعات الأ


.. لماذا تحارب الدول التطبيق الأكثر فرفشة وشبابًا؟ | ببساطة مع




.. سهرات ومعارض ثقافية.. المدينة القديمة في طرابلس الليبية تعود


.. لبنان وإسرائيل.. نقطة اللاعودة؟ | #الظهيرة




.. الجيش الإسرائيلي يعلن استهداف بنى تحتية لحزب الله جنوبي لبنا