الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل العشرون/ 3

دلور ميقري

2020 / 11 / 15
الادب والفن


بقيَ شبحُ الموت يخيّم على الزقاق، ليخطفَ هذه المرة روحَ الرجل الطيبّ، حوطيش. عانى مطولاً من المرض، ما اضطره لتسليم عدّة العمل لابن شقيقته الأصغر. قبيل وفاته، التفت إلى امرأته فاتي، ليقول بنبرة مَن يتنبّأ بالمستقبل: " كل خوفي على ابننا، لأنه وحيدٌ في هذه الدنيا ". وكان بالطبع يقصد ذلك الطفل، الذي تبنّاه، وصار الآنَ في الثامنة من عُمره. الربيبُ، صُدم ذات مرة بطريقة أليمة، لما عيّره أحد الأولاد بأنه لقيط. اندفع الطفل وقتئذٍ إلى داخل المنزل، باكياً مُروّعاً، ليرمي بنفسه في حضن فاتي: " ماما، يقولون في الزقاق أنكم لستم أهلي ". هدّأته بصعوبة، ومن ثم خرجت إلى أولئك الأولاد لتوبّخهم وتهددهم بالشكوى لآبائهم. سرعانَ ما نسيَ ربيبها الحكاية، ولو أنه سيعود ويتذكّرها فيما بعد.
تحققت مخاوفُ حوطيش، وذلك مباشرةً بعد رحيله عن الدنيا. أرملته، طُلبت للزواج من أحد أقاربها، المقيمين في مسقط رأسها ببلدة برزة. لكن الرجل، وكان بدَوره أرمل، اشترط على فاتي التخلي عن الغلام. أرادت هذه الأخيرة أن يعيشَ ربيبها في كنف زينو، شقيقة زوجها، فقوبل طلبها بالاعتذار: " طليقي المغضوب، بالكاد ما يمنحني من نفقة يكفي لمعيشتي مع أولاده ". عند ذلك، اتخذت فاتي قراراً كان صعباً عليها ولا غرو. في اليوم التالي، طلبت من الغلام ألا يذهب إلى مدرسته، قائلةً أنها ستأخذه معها إلى السوق. شاءت أن ترافقها زينو، لمحاولة التخفيف من عبء المهمة. أخذوا سيارة أجرة رأساً إلى دار الأيتام، الكائنة في مركز المدينة. نزلوا هناك أمام مدخل البناء الكئيب، الأشبه ببوابة السجن. لم يفهم الغلام ما يُراد به، إلى وقت انتهاء المقابلة مع المشرفة الإدارية. إذاك، قالت له فاتي وهيَ تنهض من مكانها: " ستعيش أنتَ هنا، وأنا أبقى أزورك بين وقت وآخر ". ردة فعله، كانت شديدة وبالكاد تمكنوا من فصل يده عن يد مَن اعتقدَ دوماً أنها والدته. بعد نحو عشرة أيام، وبناء على طلب فاتي، ذهبت زينو لزيارة الميتم للاطمئنان على وضع الغلام المسكين. قالت لها المشرفة: " ظل طوال ثلاثة أيام يرفض الطعام، وكان يردد باكياً اسمَ تلك المرأة. لكنه هدأ الآنَ، ولو أنه يبقى طوال الوقت شارداً زائغَ البصر ".

***
تجربة على ذلك القدر من القسوة والألم، عاشها أربعةُ أطفال طوال بضعة أعوام. إنهم أولاد رودا الراحلة، الذين انطبق على حالتهم المثل المعروف: " كالأيتام على مائدة اللئام ". بيد أن رحلة عذابهم آذنت على الاختتام، وذلك بخروج الأب من السجن. حظيَ فيّو بتخفيف الحكم، عقبَ إعلان الوحدة بين سورية ومصر. برغم ما عُرف عنه من خفّة العقل، فإنه آثرَ أن يترك الحارة كي يبتعد عن ذكرياته المشئومة. كان يبحث عن منزل إيجار في غرب الحي، عندما ساعده الحظ بالاهتداء أيضاً إلى شريكة حياة.
أمّو، شقيقة فيّو الكبيرة، كانت قد اقترنت من رجل أرمل من الحارة الأيوبية. الرجل، سبقَ أن أعطى ابنته لمستو، ابن ديبو. ثم تعززت القرابة بزواج سلطانة، ابنة ديبو، بابن الرجل الأرمل. وإنها أمّو، مَن كانت واسطة تعارف شقيقها بامرأة مطلقة بلا أولاد، تملك بيتاً في تلك المنطقة. انتقل فيّو إلى بيت امرأته، ولم يعُد يظهر في الحارة إلا في مناسبات الأعياد. كان هذا من حظ أولاده، الذين علمنا ما لاقوه من عسف وإذلال في خلال فترة سجنه. في المقابل، عانى الرجلُ من البطالة لفترة؛ وكان يعتمد في معيشته على إيجار منزله بالحارة. إلى أن انتقل ديبو إلى دمشق، مع انتهاء خدمته في الدرك بالتقاعد، فاستولى ببساطة على منزل شقيقه وضمّه إلى منزله.

***
في فترة مكوثه بالسجن، التقى فيّو برجلين من أبناء الزقاق. أحدهما كان عزّو، ابن علكي، الذي أخذ بثأر شقيقه المقتول في ليلة زفافه. الآخر كان قريب عزّو، وهوَ بَدو ابن حج عبده، وقد دخل السجن لقتله شقيقه الأصغر. عمل بَدو في فترة حجزه بمشغل خياطة، وكان ايراده من السِعَة أن يوفر نقوداً ويسلمها لامرأته في أوقات الزيارات. ثم استفاد كلا القريبين من العفو، المعقّب إعلان الوحدة، وما لبث السجنُ أن لفظهما إلى حياة الحريّة. عاد عزّو إلى مشغل النول، وما عتم أن أشتراه من ابن سلو بعيد وفاته، ليصبح شريكاً لشقيقه بَهو. غيرَ أنّ طالبي الثأر لم يدَعوه في سلام، واستمروا بمحاولة قنصه المرة تلو المرة.
بَدو، تابع عمله في مشغل خياطة، امتلكه داخل المدينة. لكنه كان بَدوره مثقلاً بالذكريات المشئومة. فما هيَ إلا أشهر قليلة حتى سافر إلى بغداد كي يجرب حظه بالعمل هناك. ابنه الكبير، كان قد سبقه في الحلول بالعراق واقترن هناك بامرأة أرملة بلا أولاد. نجوى، وكانت بيان قد أضحت صديقتها الوحيدة في الزقاق، كانت تبثها همومها في كل مرة. قالت لها غبَّ سفر رجلها إلى بغداد: " لقد ربيتُ أولاده في سنوات سجنه، وها هو يتركني ويرحل من جديد. أجزم أنه سيقترن بامرأة عراقية، لأن عينه فارغة كما تعلمين! ". مع ذلك، لم يبقَ الرجل في الغربة أكثر من عامين، عاد بعدها متخففاً قليلاً من ذكرياته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض