الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمط السوفياتي من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث (2)

عبدالله تركماني

2020 / 11 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لكنّ كل هذه التحذيرات ذهبت أدراج الرياح، ذلك أنّ أورجو نيكدزه، الذي أصبح أمين لجنة الحزب لأقاليم ما وراء القوقاز، نهج نهجاً آخر، نهج تطبيق " الصيغة الروسية " على الواقع القوقازي البالغ التعقيد سياسياً وقومياً. فهو لم يكتفِ بالبطش بالمناشفة الجيورجيين، بما فيهم الجناح اليساري الذي لم يعارض قيام حكم سوفياتي في جيورجيا، بل دخل أيضاً في نزاع شديد مع الشيوعيين المحليين، واستعان عليهم بستالين الذي قدم إلى جيورجيا في صيف عام 1921.
وبعد أن أطلق ستالين صفة " المنحرفين القوميين " على الشيوعيين المحليين بقيادة مديفاني وماخارادزه، تطور النزاع ليأخذ شكل صدام سافر عندما جاءت الأوامر من موسكو فـي أواخر عام 1921 بضرورة إنشاء اتحاد فيدرالي بين دول ما وراء القوقاز. فقد كانت جيورجيا حريصة على استقلالها القومي، وتريد الوحدة مع جميع الجمهوريات السوفياتية على أساس من المساواة القومية أكثر مما تريد الوحدة مع جارتيها (أرمينيا وأذربيجان). ولكن، تحت ضغط المركز المستمر، قبل الشيوعيون الجيورجيون - على مضض - إنشاء " اتحاد جمهوريات ما وراء القوقاز الاشتراكية السوفياتية ". وكان هذا الاتحاد الفيدرالي لا يقوم على مبدأ الاستقلال الذاتي ومركزية الأجهزة، شأن التنظيم الاتحادي لجمهورية روسيا السوفياتية، بل كان يقوم على أساس السيادة القومية التامة لكل جمهورية من الجمهوريات الثلاث التي ظلت تحتفظ بمواطنيتها الخاصة. ولكن، ما كاد الاتحاد يقوم في 12 مارس/آذار 1922، حتى جاءت الأوامر من موسكو، من ستالين على وجه التحديد، لتؤكد الحاجة إلى جمهورية واحدة متحدة لا إلى اتحاد جمهوريات. فثارت ثائرة الشيوعيين الجيورجيين، ورفضوا تنفيذ الأوامر الجديدة، وقدّم معظمهم استقالتهم من اللجنة المركزية للحزب احتجاجاً.
ولما علم لينين أنّ أورجو نيكدزه " شَغَّلَ يديه " وضرب الجيورجي كابانيدزه، انتابه للحال هيجان شديد، انتهى بشلل نصفي ألزمه الفراش. وما كادت صحته تتحسن قليلاً حتى بادر، في يومي 30 - 31 ديسمبر /كانون الأول 1922، إلى إملاء رسالته المشهورة حول مسألة القوميات. وبدأ لينين رسالته بالاعتذار إلى عمال روسيا عن عدم تدخله بما فيه الكفاية والحزم في مسألة " الاستقلال الذاتي " الذي أراد ستالين أن يتم اتحاد الجمهوريات السوفياتية على أساسه. وروى ما ارتكبه أورجو نيكدزه من عنف تجاه الشيوعيين الجيورجيين، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل " إلى أي درك هوينا ".
وإذا كان ما حدث قد حدث باسم ضرورة توحيد الجهاز الإداري، فمن الواجب أن لا ننسى أنّ هذا الجهاز ما يزال في جوهره قيصرياً وغريباً عن الروح البولشفية. وما الضمانات التي يمكن لهذا الجهاز أن يقدمها للأقوام غير الروسية ضد شوفينية الأمـة الروسية - الكبيرة، ضد غزو الموظف الروسي الشوفيني " الذي هو في الجوهر سافل ومعتدٍ ". يقال أنّ الضمانة هي " حرية الخروج من الاتحاد "، ولكن هذه الضمانة لا تعدو أن تكون أكثر من حبر على ورق ما دامت العناصر السوفياتية المخلصة تمثل قلة قليلة غارقة في " بحر الأوباش الروس - الكبار الشوفينيين كالذبابة في اللبن ". والشيء المؤكد أنّ تسرّع ستالين وشغفه بإصدار الأوامر الإدارية، وكذلك نقمته على " الاشتراكية القومية " السيئة الطالع، لعبت دوراً مشؤوماً. ومعروف أنه ليس هناك من هُمْ أسوأ من الروس الشوفينيين كالمتروسين من أبناء القوميات الأخرى.
إنّ الحديث عن النزعة القومية، بصورة عامة ومجردة، لا يجوز أبداً. ولا بدَّ من التمييز بين النزعة القومية للأمة الظالمة أو الكبيرة وبين النزعة القومية للأمة المظلومة أو الصغيرة. فنحن، أبناء الأمة الكبيرة، نقترف، على مدى التاريخ وبصورة شبه دائمة، عدداً لا يُحصى من أعمال العنف ومن الإهانات حيال النزعة القومية التي من النوع الثاني.
ولسوف نقع في انتهازية لا تُغتفَر فيما لو قوّضنا، عشية بروز الشرق إلى مسرح التاريخ، الحظوة التي لنا في نظره، باقترافنا، ولو أقل فظاظة ولو أقل ظلم بحق شعوبنا اللاروسية. فالاتحاد في جبهة واحدة ضد إمبرياليي الغرب شيء، وتورّطنا في علاقات إمبريالية تجاه القوميات المظلومة، ولو في توافه الأمور، شيء آخر.
إنّ الاعتداء الجسدي، الذي ارتكبه أورجو نيكدزه بحق أحد قادة الشيوعيين الجيورجيين، كان مؤشراً على النهج الستاليني الاستبدادي القمعي، البعيد عن مفهوم الاشتراكية الديمقراطية، الذي أنزل المصائب بالعلاقات بين شعوب الاتحاد السوفياتي. فقد أقام تنظيم الاتحاد السوفياتي على نمط تنظيم الاتحاد الجيورجي الأول، كما أنّ ستالين نفسه اضطر في عام 1936 إلى إلغاء جمهورية ما وراء القوقاز المتحدة وفرط عقدها.
وفي رسالته/وصيته المشهورة أكد لينين: إنّ ستالين، إذ أصبح سكرتيراً عاماً، قد جمع في يديه سلطة هائلة، ولست على ثقة في أنه سيعرف دائماً كيف يستخدم هذه السلطة بما يكفي من الاحتراز. فهو مفرط في الفظاظة، وهذا العيب الذي يمكن احتماله في العلاقات بين الشيوعيين، ليس مقبولاً في منصب السكرتير العام. لذا، فإني أقترح على الرفاق أن يفكروا بطريقة لينحّوا ستالين عن هذا المنصب، وليعيّنوا محله شخصاً آخر لا يمتاز عنه إلا بمزية واحدة، هي أن يكون أكثر تسامحاً وأكثر إخلاصاً وأكثر لطفاً وأكثر انتباهاً نحو الرفاق، وأقل انسياقاً لنزواته.
لقد برزت نزوات ستالين أثناء تحديد التخوم بين الجمهوريات السوفياتية وتحديد بنية الاتحاد السوفياتي، ففي خريف عام 1924 اتخذ قراراً حول تعديلات الأراضي، فيما يتعلق بإقامة الجمهوريات والمناطق الجديدة ذات الاستقلال الذاتي، ففُصِلَت الأراضي التي يشكل الأوزباكستانيون سكانها الأساسيين عن تركستان وبخارى وخوارزم، وشُكّلَت جمهورية أوزباكستان الاشتراكية السوفياتية. وكذلك جمهورية تركمانيا التي ضمت المناطق التركمانية في تركستان وبخارى وخوارزم. وبُوشِر بتكوين جمهورية طاجكستان ذات الاستقلال الذاتي، والتي كانت جزءاً من جمهورية أوزباكستان ومن منطقة قرغيزيا المستقلة، وأُدخلت في جمهورية روسيا الاتحادية.
وهكذا فقد فبرك ستالين أمم آسيا الوسطى دون أن تكون محمولة بقومية (10)، ذلك أنّ سياسته القومية كانت تستهدف، في المقام الأول، كسر أضلاع النزاعات القومية النشطة فعلياً في روسيا وأوكرانيا وجيورجيا. وكبحاً لجماح هذه القوميات الفعلية تم اختراع جمهرة من الشعوب " الصغيرة " التي أُعطيت لها - نظريا - نفس حقوق الشعوب " الكبيرة "، وعلى هذا النحو تم استحداث قوميات ما كان لها وجود من قبل. وبطبيعة الحال لم يكن الهدف تحويل تلك الشعوب إلى دول قومية قابلة للحياة، بل على العكس تقليصها إلى محض ظواهر إدارية، تمهيداً لانصهارها في الكل السوفياتي الكبير.
وبمعنى من المعاني، فإنّ مرسوم تنظيم جمهوريات الاتحاد السوفياتي لعام 1924 قد أوجد جمهوريات قومية ثم راح يفتش لها عن شعب يطابقها إثنياً ولغوياً، ومن ثم أُوكلت إلى المؤرخين والأنتروبولوجيين المعنيين مهمة اختراع ماضٍ لتلك الشعوب الافتراضية. وكل ذلك تمهيداً لصهر كل تلك الفسيفساء من الشعوب " الشقيقة " في بوتقة الأممية السوفياتية الناطقة باللغة الروسية.
ولكن في الوقت الذي زُوّدت فيه تلك الجمهوريات المصطنعة بكل مراسيم الدولة القومية ورموزها، من أعلام ودساتير ومجالس سوفياتية قومية، جرى تجريدها، على أرض الواقع والطبوغرافيا، من كل إمكانيات الوجود المستقل. فالحدود التي رُسمت كانت متعرجة، بل ملتوية، والأراضي متداخلة، والأقليات متطاولة على الأقليات، والاتصال المباشر ما بين الجمهوريات معدوم، ووساطة المركز الموسكوفي ضرورية في الإدارة كما في الاقتصاد.
وما كان ثمة ما يحول دون أن تتطور عادات قومية وثقافات قومية في هذه الجمهوريات، فالمصطنع قابل لأن يصير - مع مرور الزمن - طبيعياً، ويكاد يصدق على أمم الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى ما يصدق على كثير من الأمم أو القوميات التي خلقها المستعمر الغربي في العديد من أنحاء القارات الثلاث.
قومية روسيا الكبرى في الثلاثينات
أكد ستالين على قومية روسيا الكبرى خلال الثلاثينات، فأُنتجَت أفلام سينمائية تمجّد " إيفان الرهيب "، ورُدّ الاعتبار إلى جنرالات القيصر وأُطلقَت أسماؤهم على أوسمة عسكرية. كما أنه بنى سياساته في التصنيع والتجميع السريع على أســس قومية صريحة، وقد نفّذ التجميع بطرق وحشية، مما أثار معارضة واسعة النطاق بين الفلاحين. ولم يُدفَع التجميع دفعاً على نطاق الاتحاد السوفياتي كله فحسب، بل أنّ حملة شُنّت في كازاخستان من أجل القضاء على الطابع الرعوي هناك، مما أدى إلى فقدان مئات الآلاف من الكازاخيين حياتهم أو هجروا المنطقة كلياً.
وليس من المصادفة أن تأخذ الشيوعية، تحت قيادة ستالين، بعدها القومي، عندما تخلّى عن الثورة العالمية كهدف أساسي للشيوعية واستبدلها بأمن وقوة الاتحاد السوفياتي. وكما في العديد من البلدان الأخرى سار التصنيع والقومية جنباً إلى جنب، إذ كان على التصنيع ان يعزّز قوة الدولة، وكان على الدولة أن تكون قوية من أجل تسريع عملية التصنيع.
لقد كان من بين الخسائر، في الثلاثينيات، السياسة القومية اللينينية، فقد طُهِّرَ المتحدثون باسم حقوق القوميات الصغرى بلا رحمة لارتكابهم " جريمة " القومية. وكان بين الكثيرين الذين تم تصفيتهم آغاسي خنديان في أرمينيا (1936)، والوزير الأول فيض الله خود زاييف وسكرتير الحزب أكمل إكراموف في أوزباكستان (1938). ونُفّذ حكم الإعدام في جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني عدا عضو واحدٍ. ولم يستثنِ التطهير قيادات أحزاب شيوعية أجنبية كانت تعيش في الاتحاد السوفياتي، فقتل جميع أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشوعي البولوني، وجميع أعضاء اللجنة المركزية اليوغسلافية عدا تيتو وحده.
وفي ظل سياسة العُسف الستالينية هذه تمت إعادة صياغة دستور الاتحاد السوفياتي في العام 1936 (11)، حيث ثُبّت حق الجمهوريات الاتحادية بأن تنفصل بحرية تامة، وكذلك عدم إمكانية تعديل مساحة أية جمهورية دون موافقتها (12). كما اعترف الدستور بالحقوق المتساوية لكل المواطنين، مهما كان جنسهم، وعرقهم، وقوميتهم، ووضعهم المالي، وثقافتهم. وبالإضافة إلى ذلك " أمّن " الدستور حرية القول والصحافة وعقد الاجتماعات والمهرجانات والمسيرات والتظاهرات في الشوارع (بالطبع بهدف التصفيق للاستبداد الستاليني).
الهوامش
10 - - Roy Olivier : La Nouvelle Asie Centrale ou la Fabrication des Nations. Seuil, Paris- 1997.
مع العلم أنّ جورج طرابيشي قدّم عرضاً للكتاب في صحيفة الحياة - لندن -6 أبريل/نيسان 1997، تحت عنوان (كيف قامت أمم، في آسيا، غير محمولة بقوميات).
11 - وصل عدد الدول القومية، أثناء المصادقة على دستور عام 1936، إلى (51) دولة، كانت بينها (11) جمهورية اتحادية و(22) جمهورية ذات حكم ذاتي و (9) مقاطعات ذات الحكم الذاتي و (9) دوائر قومية.
12 - نصت المادة (17) من دستور العام 1936 على أنّ " حق الخروج بحرية من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية محفوظ لكل جمهورية متحدة ". ولكن الكتاب الرسمي حول " تاريخ الحزب الشيوعي السوفياتي " الذي أُعّد تحت إشراف ستالين، حدّد أنّ القرار بشأن الانفصال هو في أيدي " حزب البروليتاريا " الذي يشكّل " وحدة متراصة "، ولا يوجد فيه " استقلال ذاتي قومي ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سياسة البلاشفة تجاه القوميات ماساة ومهزلة
منير كريم ( 2020 / 11 / 16 - 17:11 )
تحية للاستاذ تركماني
شكرا على هذا المقال المفيد والذي يكشف ماساة ومهزلة قيام الاتحاد السوفيتي
لم تتطرق حضرتك الى سياسة البلاشفة تجاه دول البلطيق وكذلك فلندا
شكرا جزيلا لك


2 - روسيا دولة إستعمارية عريقة
عبد العزيز سيد علي ( 2020 / 11 / 17 - 07:52 )
مقال يكشف بجلاء أكذوبة أن الاتحاد السوفيتي كان إتحادآ إختياريآ بين جمهوريات مستقلة | روسيا دولة إستعمارية عريقة مثل الدول الاستعمارية التقليدية بريطانيا وفرنسا | وما يزال الاستعمار الروسي يجثم على صدر الشيشان | ضرب بوتين العاصمة الشيشانية بالطائرات عندما طالب الشيشان بالستقلال عند انهيار الاتحاد السوفيتي | واخيرآ وقعت سوريا تحت الإحتلال الروسي


3 - ستالين و المسألة القومية
سعيد زارا ( 2020 / 11 / 17 - 18:07 )
ما كتبه ستالين عن المسألة القومية كان محط اعجاب لينين و هو ماركس عصر الامبريالية.
و ما قاده ستالين في بناء دولة عظمى هزمت النازية في الحرب العالمية الثانية كان محط اعجاب اكبر قادة عصره من روزفلت الى تشيرشيل.

اخر الافلام

.. ماذا نعرف عن انفجارات أصفهان حتى الآن؟


.. دوي انفجارات في إيران والإعلام الأمريكي يتحدث عن ضربة إسرائي




.. الهند: نحو مليار ناخب وأكثر من مليون مركز اقتراع.. انتخابات


.. غموض يكتنف طبيعة الرد الإسرائيلي على إيران




.. شرطة نيويورك تقتحم حرم جامعة كولومبيا وتعتقل طلابا محتجين عل