الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من تاريخية الانتلجنسيا العراقية :( 6-8)

عقيل الناصري

2020 / 11 / 17
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الظاهرة الثالثة :
لقد نذر الكثير من المثقفين وبخاصة العضويين منهم، على مختلف مناحيهم الفكرية، أنفسهم لغائية التغيير الاجتماعي التي هي بمعايير: الاخلاق.. فكرة سامية ؛ والجمال.. ايثار سمفوني انساني ؛ والسياسة.. غائية نضالية مشروعة ؛ والعدالة.. مبررة بسموها ؛ والتطور.. ضرورة موضوعية متطابقة مع قوانين الارتقاء وسننه ؛ والقانون.. غائية سامية .
وفي الوقت نفسه تحملت هذه الانتلجنسيا شتى صنوف العذاب والحرمان، بل حتى أن الكثير منهم كانوا قرباناٌ، مع الادراك الواعي وسبق الأصرار، لهذه الضرورات ولذات الصيرورة الغائية، بقدر ما كانوا من ماهيات معالم الذات الانسانية في تجلياتها الجمالية، حتى بلغ بهم إلى مرحلة إعدام الحياة والتغيب الجسدي لبعضهم ، وهذا ما تدلل عليه تاريخية الحكومات التسلطية بالعراق وبخاصة في الزمن العروبي في الجمهورية الثانية (9 شباط 1963-9 نيسان 2003). لأنهم (الانتلجنسيا) عبروا ولا يزالون عن أسمى الغائيات المستهدفة، بإعتبارهم أهم جزء من بُناة التأريخ الجديد للظاهرة العراقية. وهم بهذا الموقف يتماثلون في الكثير من الحالات والأدوار مع زملائهم الأوربيون في عصر النهضة، حيث رفعوا راية التمرد العقلاني ضد الشعوذة الدينية ومنهجها الماورائي (الميتافيزيقي) وفكرها المثيولوجي، وطغيان النفوذ الروحي والاجتماعي، بل وحتى السياسي والفكري، لرجال الدين، وبالأساس ضد تفسيراتهم اللا علمية للظواهر االحياتية. وعليه فـ "...أعتقد ان من تابع مسيرة الثقافة العراقية خلال كل العقود التي عرفها العراق بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينات القرن الماضي سيجد ان السياب في معاناته لم يشذ عن معاناة المثقفين والمبدعين المعروفين. هذا ما ذهبت اليه أيضا الكاتبة العراقية فاطمة محسن، وهي تتصفح بعض رسائل السياب التي نشرت مؤخرا: لو قيض لنا جمع مذكرات ورسائل أي شاعر عراقي او كاتب من الكبار الذين عرفناهم، لاكتشفنا مشتركات بين محنهم ومحنة السياب، فهم يواجهون العواصف ذاتها التي تحاصر وجودهم اليومي وتهدده بالاقتلاع. يحلم المثقف العراقي ان يكون له بيت وملتقى للحوار، يحلم ان يكون له راتب في بلده لا يتنازل مقابله عن موقف أو يذل أمام سلطة عاتية.
قد تختلف أنظمة الحكم التي تعاقبت على العراق بدرجة اضطهادها للمثقفين، ولكن اتفقت جميعها على ان من يحلم بالاستقرار والحياة الكريمة التي تليق بالشاعر والفنان يجب ان يدخل خيمة الحاكم وينضوي تحتها هادئا طيعا. أما المبدع الذي ينصحه الاستاذ صبري، في استنتاجه الأول، وهو ان يبقى على الدوام يغني في الخندق الآخر، فعليه ان يختار بين الموت شنقا او الموت منسيا مهملا او الموت حسرة على الأهل والوطن، منبوذا في عاصمة من عواصم العالم. " .... ( التوكيد منا- الناصري)
كما رصد المثقف العضوي سعد محمد رحيم، هذه الظاهرة بالقول: "...عاني المثقف العراقي، والعربي عموماً، طويلا، من أرهاب مسدس رجل السلطة، ومشرطه الذي يقطع اللسان ، ولهذا أصيب بالحبسة والتأتأة في الكلام فبقيت أسئلته مبتورة وناقصة وجملهم مرتبكة ومنافقة، ولم ينتج سوى خطاب قاصر ومشوه.. ولجأ إلى التعميمية والمراوغة والضبابية أو المواربة، أو إلى السكوت، ليصبح في واد بينما بقية خلق الله في واد آخر ... ". ( التوكيد منا- الناصري).
وهكذا يجد المثقف، وبصورة خاصة التقدمي منهم، نفسه أمام اختيارات محددة ، فأما يندمج بالسلطة، أو يلتزم الصمت أو الهجرة للخارج التي اشتدت وتائرها في زمن الجمهورية الثانية. وعليه "... تترافق حالة الانحسار مع مشهد للمثقفين يقدم لنا نموذج مثقفين ديمقراطيين، بشكل عام خارج السلطة فكريا وسياسياً، ومثقفون يعملون وينتجون للسلطة وينظرون لها فكريا وسياسياً، وفئة ثالثة وهي الأكبر تعمل وتنتج داخل السلطة، وهي في الغالب مسلوبة الارادة في التعبير عن نفسها... ". ويزداد الوزن النوعي للفئتين الأخيرتين عندما يسود فكر السلطة (التي في الغالب استبدادية تسلطية في العراق) أو تستلم السلطة الاحزاب الدينية أو القومانية التي هي ( سلطة بلا فكر ).
الظاهرة الرابعة:
لقد مثلت الانتلجنسيا العراقية ودافعت عن مصالح القوى الاجتماعية الضعيفة والمسحوقة مادياً ك : المرأة في المدينة والريف ؛ الفلاحين والاقنان ؛ الفئات الكادحة والفقيرة في المدن ؛ كل المهمشين والمستلبين والمقصيين ؛ المكونات الاجتماعية الصغيرة ؛ واتباع الديانات الأخرى وغيرها. وأصبحت هذه القوى أحد اهم محاور النضال الذي أخاضته هذه الانتلجنسيا العضوية، وأخذت على عاتقها تحقيق صيرورة الارتقاء بها إلى مصافٍ حضارية، منذ نشوئها وطيلة المرحلة الملكية وما بعدها في الزمن الجمهوري ولحد الان.. وبخاصة بعدما قام الرواد الأوائل للفكر المساواتي التقدمي في العشرينيات (جماعة حسين الرحال)، بالتفسير العلمي للتفاوت الطبقي ومنابعه الاجتماعية، بل حتى قبل ذلك، عندما طالب الشاعر جميل صدقي الزهاوي بالحقوق المتساوية لكلا الجنسين، وضرورة منح المرأة حق المشاركة في الانتخابات وفي تسنم المسؤولية في مؤسسات الدولة.. كذلك بالنسبة للفلاحين والاقنان وضعفاء الريف وبرولتاريا المدينة وبخاصة الرثة منها من خلال التبشير بثورة اكتوبر عام 1917 .
وقد أرتقى هذا الهدف الغائي، إلى المطلبية السياسية وبخاصة منذ أن طالبت جماعة الأهالي (1932) بالتفكير ومن ثم العمل على ضرورة تحقيق مجتمع تسود فيه العدالة (النسبية) في توزيع الثروة الوطنية. وأشتدت هذه النزعة تعمقاً، فكريا وممارسةً، عندما تم أنشاء احزاب يسارية راديكالية (الشيوعي 1934) وأخرى تقدمية ذات منهج اشتراكي اصلاحي غير راديكالي (الحزب الوطني الديمقراطي 1946) وأحزاب بين هذين التوجهين ( حزب الاتحاد الوطني- عبد الفتاح إبراهيم، وحزب الشعب - عزيز شريف 1946) ، وغيرها من القوى التقدمية المستقلة، جميعهم يناضلون من أجل احقاق حقوق هذه الفئات الاجتماعية المستلبة والمغتربة عن نتاج عملها وحتى عن ذاتها.
وساهمت بقوة في حرث تربة التغيير. ولما كان القمع والاستغلال والاستلاب وإسكات اصواتهم العادلة قد أفشل هذا الحلم اليومي العادل.. لهذا انبرت بعض من فئاتها (الانتلجنسيا العسكرية)، بتحقيق التغيير الجذري في 14 تموز بالتعاون مع (الكتلة التاريخية) المدنية والمتمثلة بقوى احزاب جبهة الاتحاد الوطني وشخصياتها المستقلة، والذي مثل المنعطف الأراس للاهتمام بمصالح هذه الفئات وجسدها ماديا وقد حُكِم لهذه الفئات أكثر من غيرها من الفئات والطبقات الاجتماعية وتم إشباع جزئي لبعض من حاجاتها المادية والمعنوية الضرورية.
وهكذا شاركت الانتلجنسيا، بقوة الضرورة، الاهتمام بهذه الفئات الاجتماعية ومثلت أحد عناصر تحركها الذاتي الواعي والعضويين منهم على الاخص. وهذا ما ميز الثقافة العراقية ووجد صداه في الروح العراقية ونفسية الفرد ذات الطبيعة التغييرية الاحتجاجية والمستمرة في حراكها الدائم، منذ الحضارات الأولى للمجتمع العراقي وبخاصة مثقفيه على مختلف المراحل، كما يوضحها التاريخ العراقي بامتداد عمقه الزمني.
ولهذا كثرت الانتفاضات الاجتماعية على مدى تاريخية البلد، حتى حير العلماء في تفسير هذه الظاهرة ومغازيها وهذا ما عبر عنه الجاحظ بدقة بالقول:" العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء، وطاعة أهل الشام، أن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة. ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث. ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح، والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء، وإظهار عيوب الأمراء ".

الظاهرة الخامسة:
يوضح تاريخية العراق المعاصر لما له علاقة بفئة الانتلجنسيا، انهم توزعوا على مدارس فكرية متعددة ومن ايديولوجيات مختلفة، استهدفت الكثير منها، بعث الروح الانتماء الوطني في الهوية العراقية.. في حين استهدفت مجاميع أخرى (عربية كانت أم كردية) البعد القومي كمنطلق لها بصورة عامة. وهناك من بقى من هذه الانتلجنسيا في حومة الفكر التقليدي، وغالبا الديني المتمذهب. وإذا اتخذنا من معيار الجذرية فيمكن تقسيمها إلى عدة اتجاهات، وكل اتجاه ممكن هو الآخر تصنيفه حسب عمق راديكاليته، وهي:
- الاتجاه المحافظ : الذي يدور في الظرف الساكن ضمن نطاق الحراك الفكري الغيبي والسلفية المستندة إلى الماضي حسب ؛
- اللبرالي : الطامح في وسطيته وتردده وتذبذبه ؛
- الراديكالي: المتجذر في رؤيته والرابط بجدلية، بين حلقات الزمن الثلاث: الماضي والحاضر والمستقبل.
كما أن هذه الاتجاهات قد اختلفت، مع بعضها حد التناقض، في الكثير من المنطلقات منها:
- الابعاد الاجتصادية والسياسية الثقافية ؛
- سعة الطبقات والفئات المستهدفة من هذه الغائية ؛
- ماهية التوجه الاقتصادي المبتغى ؛
- النسبية في التوزيع العادل للثروة الوطنية ؛
- الرؤية المستقبلية للبلد والأفق التاريخي له؛
- والأهم من ذلك ماهية الهوية الجماعية للعراق.

الظاهرة السادسة:
لقد رافق ظهور وتشكل فئة الانتلجنسيا النمو النوعي المضطرد والتعددية الفكرية المتصاعدة، وبخاصة بعد تأسيس الدولة المركزية وبالأخص بعد التغيير الجذري في الجمهورية الأولى (14تموز 1958- 9 شباط 1963) حيث تم تبني فكرة التوسع الكبير في ميدان التعليم على كافة مستوياته، وأمتداده جغرافيا إلى الحواضر والارياف ؛ واجتماعيا إلى اغلب الطبقات الفقيرة، وبالتالي أسست للتوسع الكمي والنوعي لذاتها وذات الفعل التطوري ولمصادرها الذاتية كفئة متميزة.
أما الحاضنة الطبيعية والحلقة المركزية لهذا النمو فكانت تتمحور بالأساس في الدولة ومؤسساتها التعليمية والتربوية بالأخص، ومن ثم في المؤسسات الجامعية وأخيراً في مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني الثقافية ذات الطابع التضامني
. في حين أنعكس الارتقاء بالوعي الاجتماعي في تجلياته السلوكية وتمظهر، في التحرك الاجتماعي الغائي والانتفاضات والاحتجاجات المتعددة، التي هي أحدى أهم عتلات النمو النوعي لفئة الانتلجنسيا ومصدر إلهام لموضوعاتها وعمقها الفلسفي.
وينتمي الكم الأغلب من المثقفين، وبالاخص العضويين منهم، من حيث الأصول الطبقية، إلى الطبقة الوسطى بفئاتها وشرائحها المتعددة، نظراً لموقعها في عملية الانتاج الاجتماعي، وكذلك لما لها من دور مركزي وثوري، في آن واحد، في صيرورة التغيير، بإعتبارها العتلة المركزية للتطور والارتقاء، ولكونها العقل المدبر في رسم وإيضاح ابعاد هذه الصيرورات الحياتية. كما أن الكثير منهم قد عبر عن طموحات وأفكار ورؤى الأغلبية الشعبية في ماهيات الحياة، بلغة واضحة عكستها في مطلبيتها التي غدت بالتدريج موضع تأييد واسع من فئات وطبقات عديدة من المجتمع العراقي. رغم أن السلطة (الاوليغاركية) الملكية لم تعط هذه الطبقة دورها السياسي المناظر لتأثيراتها الاجتماثقافي والسياسي.. ولا حكومات الجمهورية الثانية (9 شباط 1963- 9 نيسان 2003) وبالاخص منذ اغتصاب صدام حسين (17 تموز 1979- 9 نيسان 2003)للسلطة. لقد أهملت حكومات الجمهورية الثانية، بصورة متعمدة قطاعا واسعا من المثقفين بل أحتقرتهم بغية إخضاعهم لتوجهاتها الفكرية، وبخاصة ذات التوجه العراقوي وتلك الراديكالية اليسارية والتقدمية المنهج والتي رفضت الانضواء الفكري والسياسي في خيمة هذه الحكومات نظرا لمعارضة هؤلاء لتوجهاتها العصبوية والشوفينة وبالاخص للسلطة المتريفية ضيقة الافق.لكن هذه الحكومات في الوقت نفسه اغدقت على بعض المثقفين ممن دخلوا خيمة تصوراتها ورؤيتها وآوالية عملها. وحتى في الجمهورية الثالثة ( 9 نيسان 2003- ولحد الان) نلاحظ صعود مثقفي المؤسسة الدينية والاسلام السياسي.. الذين بقوا محافظين على طابع الاضطهاد للعضويين منهم.
الظاهرة السابعة:
تعرض الكثير من هؤلاء المثقفين في مختلف المراحل، الملكية كانت أو الجمهورية وحكوماتها القومانية.. للنفي القسري الداخلي (الصمت) أو/و اسقاط الجنسية عنهم، وهذا ما ميز المثقف والثقافة العراقية في العصر الحديث عن غيرها من الحركات الثقافية العربية أو الاقليمية، وذلك بسبب : الطابع الاستبدادي للسلطة ؛ جنوح الانتلجنسيا العراقية نحو الراديكالية والمساواتية والعلمانية ؛ وإلى نضالها من أجل إبعاد التفسيرات الدينية والميثولوجية غير العقلانية عن الظواهر الاجتماطبيعية ؛ وفي تبنيها للفكر الاشتراكي بمدارسه المتعددة ؛ ومناهضتها للانغلاق الفكري والتفكير السكوني الماورائي ؛ والمطالبة بالحد من الفوارق الطبقية في المجتمع والتفاوت المعرفي التعليمي ؛ واستنهاض القوى الاجتماعية في المدينة والريف من أجل تحقيق مطاليبها الأساسية .
انعكست هذه الظاهرة في تعامل الحكومات الاوليغاركية للمرحلة الملكية وفي الزمن القوماني للجمهورية الثانية حيث استبدت "...النزعة التسلطية ليست مجرد نتيجة لعملية بناء الأمة، بل إنها إحدى أسبابها أيضاً وعلة من عللها. ففي نظام الحكم الملكي الهاشمي والحكمين البعثيين على وجه الخصوص لعام 1963 ولما بعد عام 1968، قوض الحكم التسلطي على نحو خطير، إذا لم نقل إنه قد دمر مؤسسات المجتمع المدني من خلال شق صفوف جماهير الأمة وإجبار الأنشطة التنظيمية على إتخاذ طابع السرية أو دفعها لكي تعيد تشكيل نفسها في نهاية المطاف خارج حدود العراق... والعنف الثقافي الموجه ضد المجموعات الأثنية التي سعى لاجتثاث تراثها من السجلات التاريخية... ".
وعليه فلظاهرة النفي القسري اسباب كثيرة يأتي في مقدمتها التعددية الفكرية والاجتماعية والدينية والأثنية للشعب العراقي، فقلما وجدت، بالعالم العربي حسب، طوائف وقوميات واقليات اثنية ومذهبية في وطن واحد كما وجدت في جغرافية العراق مقارنة. كما إن هذه المكونات الاجتماعية الصغيرة تميل دائما إلى من يعِدُها بالمساواة وإقرار حقوقها الطبيعة والمكتسبة. كما يلعب الميل العراقي للثورة والتمرد على السلطان، مهما كان، قد اصاب عقل الكثير من هذه الفئات، وقد ظهر هذا الميل منذ أقدم الحضارات في وادي الرافدين، حيث كانت النظرة المساواتية ذات البعد الاجتصادي ما تميز حركاتها الاجتماعية وكذلك مدارسها الفكرية الفلسفية أو/و حتى الدينية، المجردة أو العملية. كما أن مكانة العراق الجيوسياسية، كان أحد أهم عوامل الجذب للقوى الخارجية للسيطرة عليه، وبالتالي استخدام العنف والقوة والتدمير للبنى التحتية، كي يسيطر على العراقيين، وهذا ما تجلى بأعلى صورها في الاحتلالات الثلاثة الأخيرة في العراق المعاصر، وبالأخص الآخير منها وما يخطط لكيانه الجيوسياسي.
يوضح تاريخية النظام السياسي العراقي المعاصر، أن الحكومات الملكية قد سبق وأن أصدرت مرسوم اسقاط الجنسية العراقية رقم 62 في الوزارة الكيلانية الأولى (20/3/1933- 8/11/ 1933) وأول من طبقته على المثقفين هي حكومة جميل المدفعي الرابعة (17/8/1937- 24/12/ 1938) التي قامت بنزع الجنسية عن كل من: القصصي والصحفي عبد القادر إسماعيل البستاني من مؤسسي جماعة الأهالي، وأخيه يوسف اسماعيل البستاني والنقابي مهدي هاشم عضو اللجنة المركزية لجمعية مكافحة الاستعمار والاستثمار، وهم من العاملين في حقل الثقافة العراقية ومن المنتمين للحركات الجذرية وذلك عام 1937.
واستمرت هذه الظاهرة فيما بعد انتكاسة حركة مايس 1941 حيث تم اسقاط الجنسية العراقية المكتسبة عن ساطع الحصري وغيره من المتجنسين العرب وبالاخص من الضباط وبعض المدرسين من ذوي التوجه القومي، كذلك اثناء الانتفاضة الشعبية في كانون الثاني عام 1948 حيث تم اسقاطها عن الكثير من المتجنسين العرب منهم حسين مروة وعائلته وغيرهم.
كما صدر قانون رقم 1 لسنة 1950 لاسقاط الجنسية العراقية الجماعية عن يهود العراق في حكومة توفيق السويدي الثالثة (5/2/1950-24/9/1950) والكثير منهم مثقفون عضويون من ذوي النزعة التقدمية واليسارية وممن لهم موقع في الثقافة العراقية عامةً .
ومنذ عام 1954 وفي حكومة نوري السعيد الثانية عشر (3/8/1954-17/12/1955) تم نزع الجنسية عن العديد من الادباء والمثقفيين، وبخاصة العضويين منهم، على سبيل المثال: الأديب والمناضل كاظم السماوي، وداعية السلام عزيز شريف والدكتور الاكاديمي صفاء الحافظ، وبعدها عن المحاميين التقدميين كامل قزانجي وتوفيق منير وعن الروائي التقدمي غائب طعمة فرمان وغيرهم.
وفي الوقت نفسه عدلت الحكومة السعيدية المذكورة في جملة من القوانين وجعلتها أقسى في العقوبات المفروضة، كما شرعت جملة قوانين وأصدرت عدة مراسيم زجرية وعقابية بحق النشطاء من المثقفين العضويين، إذ شرعت 6 مراسيم تعسفية عام 1954 ، كان من عاقبتها شلل الحياة السياسية والفكرية ووسعت من ذرائع اسقاط الجنسية، وهيأت الأجواء لعقد حلف بغداد العسكري. إن التمعن في ماهيات ومضامين هذه المراسيم، سيوضح أحد أهم أبعاد ما لاقاه المثقفون من جهة ومن جهة أخرى عمقت هذه المراسيم من الأزمة البنيوية للنظام الملكي ومدى تعبيدها بصورة غير مباشرة، إلى الاسراع في تبني صيرورة تغيير النظام من قبل الانتلجنسيا العسكرية وتعمق نضال القطاع المدنية منها وتهيئة ذاتها نفسيا وتنظيميا للمساهمة بالتغيير الجذري.. وهذا ما تحقق عند انبثاق جبهة الاتحاد الوطني.
وبعكس هذا التوجه الذي طبقته الحكومات القومانية (الملكية أو الجمهورية وبخاصة في الجمهورية الثانية،على السواء) فإن حكومات الجمهورية الأولى (14 تموز 1958- 9 شباط 1963) عملت وشرعت ما يناهض وينفي هذا التوجه، إذ أعادت الجنسية لمن أسقطت عنهم ورغب بالعودة، حيث سمحت لهم بالعودة للوطن بما فيهم الزعيم الكردي مصطفى البرزاني واتباعه. كما "... سُمح لأكثر من 450 يهوديا طردهم توفيق السويدي (1891- 1968) ونوري السعيد (1888 -1958) بالعودة إلى العراق وفقا للقانون الجديد، الذي نشره الزعيم قاسم إذ يحدد إعادة جنسية هؤلاء اليهود وممتلكاتهم... ".
وعليه لم تشهد حكومة الجمهورية الأولى أي فعل لاسقاط الجنسية، بل بالعكس، حاولت إلغاء تصنيف العراقيين إلى مواطنين من الدرجة الأولى والثانية من خلال مشروع قانون الجنسية الجديد الذي أعدته الحكومة ، لكنه لم يشرع بسبب انقلاب شباط الدموي 1963.
وعادت هذه الظاهرة (اسقاط الجنسية) بقوة كبيرة في زمن حكومات الجمهورية الثانية القومانية (9 شباط 1963- 9 نيسان 2003) وبخاصة في عهد حكومة انقلاب شباط 1963، حيث دشنته بإصدار قانون الجنسية الجديد رقم 43 لسنة 1963 الذي أقر بموجب قرار مجلس قيادة الثورة رقم 666 الصادر في7/5/1980، وقد إلغى القانون الجديد { قانون الجنسية الأول والصادر عام 1924 في زمن الحكومة جعفر العسكري الأولى (23/11/1923-3/8/1924) }. وكان يحتوي على نصوص تعالج موضوع سحب الجنسية العراقية، إذ بموجب هذا القرار تم اسقاط الجنسية العراقية عن كل عراقي متجنس من اصل اجنبي حسب ما يراه وزير الداخلية }.
كما تضخمت هذه الظاهرة بحيث تحولت من ظاهرة فردية إلى تهجير اثني جماعي، في كل حكومات الجمهورية الثانية وبخاصة بعد الحصار الاقتصادي المفروض على العراق بعد غزوه للكويت. بمعنى آخر إن اسقاط الجنسية عن المحوريين والنشيطين من الانتلجنسيا العراقية اصبحت ظاهرة ملموسة في تاريخ العراق المعاصر من جهة، وقد اصابت الجناح الراديكالي من هؤلاء وبالتخصيص القوى التقدمية من المثقفين العراقيين ذوي التوجهات العراقوية واليسارية والشيوعية، من أمثال: الجواهري الكبير، د. فيصل السامر، ذنون أيوب، د. صلاح خالص، د. عزيز الحاج، د. صلاح خالص، عبد القادر إسماعيل مهدي هاشم وغيرهم بالمئات .
الظاهرة الثامنة:
ثابرت الانتلجنسيا العراقية على التبشير بالأمل الاجتماعي على نحو منفرد في الإصرار والديمومة منذ بداياتها الأولى، وكانوا سنداً فكريا لتلك الرؤى التي تحاول انقاذ المجتمع من براثن التخلف وأسوار التقاليد الاجتماعية البالية ومن اسوار الفكر الاسطوري ليبنوا جنتهم الأرضية على وفق قانونيات الحياة وليس حسب قواعد السماء، رغم أنهم كانوا مصابين ولا يزالون { بالمنزع الاستعجالي} كما اوضحنا ذلك سابقاً.
لقد مدوا الحياة، رغم تعسفها الاجتماعي والسياسي والفكري، بالأمل المستقبلي القريب، بغض النظر عن مدى واقعية هذا الجمال التبشيري، مما أضافوا عليها جمالية رومانسية دفعت الكثيرين من المواطنين على تبني الافكار التقدمية، التي أشتدت الدعوة التفاؤلية بعد ظهور الرواد الأوائل للفكر المساواتي (الاشتراكي) وإزداد هذا التفاؤل بعد ظهور الحركات اليسارية من قبيل جماعة الأهالي والردكالية من قبيل الحزب الشيوعي. بمعنى آخر أنهم زرعوا سيكولوجية الأمل المتفائل ضمن ثيمة اجتماعية واخلاقية، غائيتها الأرأسية هو الارتقاء بالانسان كذات وموضوع مستهدف. كان نشيدهم في الحياة هو استنهاض الإنسان في مواجهة الظلم ، أي كان نوعه.
الهوامش:
97 - على امتداد تاريخ الصراع الاجتماسياسي للعراق المعاصر، إن الحكومات التسلطية المتعاقبة سبق لها وأن غيبت العشرات والمئات من المثقفين العراقيين، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.. مع اشتداد وتائر هذه النزعة السادية بصورة أخص في الجمهورية الثانية، بخاصة بعد انقلاب شباط 1963، حيث تم اعدام الحياة للمئات من المثقفين ذوي الاتجاهت التقدمية واليسارية، كما اشتدت أكثر فأكثر هذه النزعة منذ اغتصاب للسلطة للمرة الثاتية عام 1968 والاكثر شدة بعد انفراد صدام حسين بالسلطة عام 1979، حتى اطلق البعض على هذه المرحلة (جمهورية الخوف).
98 - د. عدنان عاكف، صبري حافظ يكتب عن السياب الشيوعي، القسم2، موقع الحوار المتمدن بتاريخ 21/3/2009 . http://www.ahewar.org
99 - سعد محمد رحيم، انطقة المحرم، ص. 34، مصدر سابق.
100 - رضا الظاهر بيان المثقف، ص. 92، مصدر سابق.
101 - خير مثال يضرب هنا، هو ما قامت به حكومات الثلاثينيات بصدد اسكات صوت المعارضة اللبرالية الاصلاحية المتمثل بجماعة الأهالي ، فقد تم اغلاق صحيفتهم المركزية الاهالي ومن ثم اصدروا صوت الأهالي، وبعد شهر تم اغلاقها فأصدروا صحيفة المبدأ فتم اغلاقها ومن ثم أصدروا جريدة البيان وتم اغلاقها ، ومن ثم صدرت جريدة الفكر الحديث وعطلت هي الأخرى.. وهذا يشمل الكثير من احزاب المعارضة، ناهيك عن السرية من الاحزاب، كالحزب الشيوعي العراقي، بحيث عدلت مواد القانون العسكري ليحكم بالاعدام لكل من انتمى أو روج لافكار هذا الحزب.
102- هادي العلوي، المستطرف الجديد ص.104 ،مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية، ط. 2، دمشق1986.
103 - إريك دافيس، مذكرات دولة،ص،29، مصدر سابق.
104 - قانون ذيل مرسوم اسقاط الجنسية العراقية رقم 62 لسنة 1933 الوقائع العراقية - رقم العدد: 2816 بتاريخ 09/03/1950
105- لقد صدرت هذه المراسيم وهي: تعديل ذيل قانون العقوبات لمكافحة أنصار السلام والشبيبة الديمقراطية رقم 16 ؛ ذيل مرسوم إسقاط الجنسية عن ذوي الأفكار الهدامة رقم 17؛ مراقبة وتصفية نقابات العمال رقم 18؛ إلغاء الجمعيات والأحزاب والنوادي رقم 19؛ المطبوعات رقم 24؛ مراقبة الاجتماعات والتجمعات رقم 25.
106 - راجع نسيم قزاز،الداخلية العراقية عام 1953، إسقاط الجنسية يشمل معتنقي الفكر الصهيوني ترجمة صباح ناجي الشيخلي، جريدة الزمان في 27/ 6/ 2012.
107- لقد شرعت حكومة الزعيم قاسم قانونا جديدا للجنسية تلافىيا للنواقص التي شملها القانون الأول الصادر عام 1924 حيث تمت معالجتها بصورة أكثر موضوعية وبخاصة ما له علاقة بشهادة الجنسية حيث ساوى بين العراقيين بإلغاء تقسيمهم إلى ألف و باء.. وقد انصف القانون، الذي كان مهيأ للتوقيع والنشر في الجريدة الرسمية المكون الكردي الفيلي والكثير من الناس.. لكن حكومة الانقلاب أصدرت بديلا عنه قانونها السيء الصيت والذي تم إلغائه في مايس 2003.
108 - لقد توقفت هذه الظاهرة بعد الاحتلال الثالث " بموجب المادة 11 من قانون ادارة الدولة العراقية والذي بموجبه منعت اسقاط الجنسية العراقية عن كل عراقي واعادت الجنسية العراقية تلقائياً لكل مواطن عراقي اسقطت عنه الجنسية في الفترات السابقة وقد أكد ذلك قانون الجنسية الجديد والنافذ رقم 26 لعام 2006.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي