الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في اليوم الواحد نعيش حياتين

حسن مدن

2020 / 11 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يميّز جورج طرابيشي بين أمرين هما: التحديث والتغريب، في إطار حديثٍ له عن الثقافة العربية والتراث. وهو تفريق ضروري رغم تأكيده على أن الحضارة الآن تتجه لأن تكون حضارة عالمية منطوية على ثقافات عدة. والتفريق هنا ليس مجرد تفريق لفظي، وإنما يتصل بفروق عميقة بين مفهومين مختلفين حتى لو كان مركز الحضارة العالمية في المدى الزمني الراهن مركزا غربيا، لأن هذا لم يعن ولا يجب أن يعني أن على كل الأمم اقتداء هذا الأنموذج، ليس لأنه سيىء أو جيد، وإنما لأن عملية تحديث أي مجتمع لا بد وأن تراعي الخصائص التاريخية والعيانية، لا بل والتكوين النفسي والثقافي المختلف لأفراده.
لسنا هنا إزاء دعوة توفيقية من تلك اعتدنا عليها بين ما يوصف بالأصالة والمعاصرة، بل إزاء دعوة تقذف بنا في أتون الحداثة التي من دون أن ننصهر فيها لن نتمكن من الإجابة على الأسئلة الكبرى التي تواجهنا اليوم، وهي أسئلة جديدة في ظروف مختلفة جذرياً عن ظروف الأمس، فنحن لا نعيش في جزيرة أو جزر منعزلة عن العالم، ولا خيار آخر أمامنا إن أردنا البقاء سوى أن نكون جزءاً من العصر الراهن الذي نقيم فيه، فهذا العالم لن يرحم أحدا يعيش خارج الزمن الإجباري الذي فرضه على الجميع.
انها دعوة للحداثة تقهر عقدة الازدواج النفسي الذي نعاني منه في تمزقنا بين الخيارات المختلفة، لكنها في الوقت نفسه رفض لأن نقرن التحديث بالتغريب، من حيث كون هذا الاقتران هو المعادل للاستلاب والانبهار المغالى فيه بالغرب وبما يوصف بتفوقه الحضاري، وهو تفوق لا نجادل في أمره، ولكن ندعو إلى دراسة أسبابه ومقدماته التاريخية، فكرياً وعلمياً وسياسياً.
ولدينا ما نستند إليه في هذا المجال، فاليابان ليست بلداً غربياً ولا تقع في أوروبا، ومع ذلك فإنها قوة اقتصادية مقررة لا يمكن إلا أن يحسب لها ألف حساب. والصين لا تخطو خطوات، بل تقفز قفزات إلى المستقبل بمعدلات من النمو الاقتصادي تدهش القريب والبعيد. وما تحقق ويتحقق هناك إنما يتمّ على قاعدة التحديث مع سبق الإصرار على التمايز عن الأنموذج الغربي، والتمسك بالخصائص التاريخية والقومية، وببرنامج تنمية وأسلوب إدارة مختلفين.
مشكلة النخب الثقافية والسياسية العربية أنها سيّجت نفسها بسياجين لا ترغب في كسرهما : إما سياج العودة إلى الماضي بوصفه ملاذاً من الوضع البائس الذي إلنا إليه، وإما سياج التغريب الذي تحدثنا عنه. ودعاة هذا التغريب القائم على الإنبهار والصدمة تجاه ما حققه الغرب، يسقطون من حسابهم أن التحديث عملية معقدة، تدريجية وطويلة الأمد، وأن الأنموذج الغربي لا يمكن تجليسه على أرض ليست هي أرضه، لأنه نتاج ملابسات مختلفة من التطور.
هذه النخب، الماضوية منها والمتغربنة، تعوّض عن ضعف فاعليتها بخطابة رنانة ومزايدة لفظية لا طائل من ورائها، لأنها تهرب من الأسئلة الحقيقية عبر افتعال أسئلة مجازية خارج السياق التاريخي الملموس الذي تجتازه مجتمعاتنا اليوم.
يكثر الحديث عن سقوط المرجعيات الفكرية، وترتفع الأصوات مطالبة بعدم حبس الفكر في أقفاص وقوالب. وتجد هذه الدعوات تزكية أو تبريراً لها في الإخفاق الذي منيت به الكثير من المشاريع العربية التي استندت إلى هذه المرجعيات، ولكن ليس كل الناس يذهبون إلى هذا الرأي، فهناك مشاريع تعيش الآن مرحلة صعودها، ويؤكد أصحابها أن فشل المرجعيات السابقة يؤكد صواب وشرعية المرجعيات التي ينطلقون منها. بيد أن مسألة المرجعية هي أشد تعقيداً مما تبدو عليه لأول وهلة، ذلك بأننا نخضع كل يوم لتأثيرات من مرجعيات مختلفة تؤثر في تكوين تصوراتنا للأشياء، حتى لو كنا ننطلق من مبدأ الرفض أوالتحفظ تجاه بعضها. ويصدق ذلك على تلك الجوانب من تفكيرنا المتصلة بما هو موروث من أفكار أو قيم، وبما هو وافد إلينا من الثقافات العالمية الأخرى، خاصة منها تلك التي هي في موقع التفوق الآن.
في حقيقة الأمر فإننا نعيش في اليوم الواحد حياتين مختلفتين، يشدّنا التحديث والتقنية من جهة، كما تشدّنا موروثاتنا وعاداتنا وتقاليدنا من جهة أخرى، وتفوق نماذج التقنية ووسائل الاتصال الجماهيرية الحديثة يجعل من الدفاع الذاتي للقيم الموروثة أضعف من أن يتصدى لهذا التفوق، خاصة حين تُكيّف الحداثة نفسها لتتماشى مع الظروف المختلفة، وتبدأ في الفعل التدريجي التراكمي الذي لا تظهر نتائجه إلا على المدى البعيد، وحتى إن بدا أن عوامل التحديث في حالة نكوص أو تراجع، فإن الأمر لا يعدو كونه شكلاً من أشكال تجلي هذا الفعل التدريجي الذي ليس من الضروري أن يظهر على السطح، بقدر ما يتغلغل في خلايا البنى الفكرية والاجتماعية.
نعلم أن البعض أميل إلى مناقشة مسألة المرجعية من زاوية صلتها المباشرة بالمشاريع السياسية، حين يتعين الاعتراف بالإخفاق والفشل الذي أصاب هذه المشاريع، بالشكل الذي مسّ بصدقية المرجعيات التي استندت إليها، وإذا كان ثمة درس يستفاد منه في هذا الصدد فهو أن الحياة تتسع لأكثر من مرجعية، لأنه ما من واحدة منها قادرة على الإحاطة بكل ما في هذه الحياة من تعقيدات، وفي الظن أن كل مرجعية تتضمن بعض العناصر الصحيحة، كما أنها تتضمن عناصر أخرى تدعو للشك.
التجربة المريرة للفكر العربي المعاصر، على مدى نصف القرن الأخير على الأقل، تعلمنا ضرورة الاعتراف بحق الاختلاف في الرأي وتنظيم التعايش مع هذا الاختلاف، لأن مشكلة المرجعية لن تحل إلا في مناخ من حرية الفكر بعيداً عن هوس التعصب والتصادم والتشنج والتزمت بأشكاله، مناخ يتيح للأفكار المختلفة أن تتعايش وتتحاور وتتفاعل وتنتج معرفة منفتحة على الآفاق المختلفة، غير المسورة بالأسوار الخانقة.
لو أننا أقمنا مقارنة بين الطريقة التي تعاطى عبرها رواد فكر النهضة العرب والمسلمون مع الغرب، وبين الطريقة التي تتعاطى بها بعض التيارات والاتجاهات في عالمنا العربي اليوم والداعية لرفض الغرب كلية، لأدركنا الفارق الكبير بين الموقفين. فالإصلاحيون من مفكري الإسلام في القرن التاسع عشر حاوروا الغرب، ودعوا إلى اقتباس ما رأوه صالحا من تنظيماته، وكان تحديث مجتمعاتهم قضية كبرى بالنسبة لهم لا تقل أبدا عن دعوتهم للتمسك ب "الهوية العربية الإسلامية"، فيما تذهب بعض اتجاهات اليوم لمعاداة الغرب وحضارته في المطلق، ونظرا للحضور الطاغي لهذا الغرب في حياتنا جميعا، بما في ذلك في حياة الداعين إلى نبذه بصفته شراً مستطيراً، فإن الدعوة لالغائه تظل عند حدود الخيال أو الرغبة المستحيلة غير الممكنة، فضلا عما توقعه من تناقض في خطاب وفي سلوك أصحابها غير القادرين على التحرر، حتى لو أرادوا، من هيمنة هذا الغرب على نمط الحياة السائدة في بلداننا في الكثير من أوجهها.
على الضفة الأخرى نجد بعض النخب تتماهى مع الآخر الغربي، حدّ تقمّص خطاباته، أو قول الخطاب الذي يصادف هوى في نفس هذا الآخر، ما يدفع هذا البعض إلى القفز على المصالح الوطنية والقومية لبلدانهم، فيما المطلوب هو خطاب صريح وواضح يصارح هذا الآخر بخطأ الكثير من سياساته ونظراته وتصوراته تجاهنا، ويمتلك في الآن ذاته الجرأة في الاعتراف بالعاهات والعلل الكثيرة التي نعاني منها.
علي اومليل، المفكر المغربي المعروف، لا يتحدث عن هذه الأصولية المحافظة التي ترفض الغرب في المطلق وحدها، وإنما يتحدث عن أصولية أخرى، ليبرالية الطابع هذه المرة، التي تلتقي من حيث أرادت أم لم ترد، في جوهر الموقف، مع الأمر أعلاه في نفيها لفكرة الحوار، الحوار الثقافي والحضاري، فمن يعرفون اليوم ب "الليبراليين الجدد" ومن يمثلونهم في العالم العربي يرون أن الحداثة أمران لا ثالث لهما: اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية، وإنهما قد بنيا على قيم ومبادئ ثقافية لا توجد في غير ثقافة الغرب: قيم الفردانية والحرية وسيادة القانون والمساواة أمامه والنظام التمثيلي القائم على الاقتراع الفردي الحر وفصل السلطات والحريات الشخصية والعامة، وبالتالي فلا حوار ممكنا مع ثقافة أخرى لا تأخذ بحرفية هذه الأفكار.
إلا أن المعضلة الكبرى ليست هنا، وإنما في رفض هذه الليبرالية الجديدة لفكرة التضامن وازدرائها لمفهوم العدالة الاجتماعية، التي تبدو بالنسبة لهم موروثاً فقد شرعيته لأنها تنتسب إلى عصر الأيديولوجيات والقيم المثالية التي لم يعد لها مكان في عالم اليوم القائم على اقتصاد السوق، وعلى حرية المبادرة الفردية التي يعرف الأذكياء والنشطون استغلالها، فيما لا يحسن سواهم ذلك فيكون جزاؤهم البؤس والفاقة والحرمان.
هؤلاء "الليبراليون الجدد" ينسون أو يتناسون أن فرص الانطلاق ليست متكافئة بين الشمال والجنوب، بين الدول الغنية والدول الفقيرة، ذلك أن فرص الطفل في سويسرا أو السويد مثلا، ليست هي نفسها فرص الطفل في الكونغو أو بنجلاديش، على سبيل المثال أيضا. فكرة العدالة الاجتماعية، كما يُقيم اومليل عن صواب، ضرورة ليس من زاوية البر والإحسان، وإنما لأنها ضرورة سياسية في عالم اليوم الذي بلغ مستوى غير مسبوق من التمايزات والتفاوتات بين الأفراد، داخل كل مجتمع وبين الدول بعضها بعضاً على الصعيد العالمي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توترات متصاعدة في جامعات أمريكية مرموقة | الأخبار


.. !الرئيس الألماني يزور تركيا حاملا 60 كيلوغرام من الشاورما




.. مئات الإسرائيليين ينتقدون سياسة نتنياهو ويطالبون بتحرير الره


.. ماذا تتضمن حزمة دعم أوكرانيا التي يصوت عليها مجلس الشيوخ الأ




.. اتهام أميركي لحماس بالسعي لحرب إقليمية ونتنياهو يعلن تكثيف ا