الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العزيزان : عزيز السيد جاسم وطارق عزيز (2)

جعفر المظفر

2020 / 11 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


ولم يكن ذلك الإنفتاح (الأممي) من جهة والإحتراس (القومي) على الجهة الأخرى قد نشئا بعد أن تأسست الدولة البعثية الثانية عام 1968 وإنما كانا من مشاهد التعبير عن المخاض الذي مرت به التجربة البعثية الأولى التي تلت إنهيار نظام حكم الزعيم عبدالكريم قاسم في الثامن من شباط من عام 1963.
إن كل من عاش تجربة المخاض البعثي تلك لا بد وأنه أدرك أن البعث كان وضع نفسه في مجابهة التنين الماركسي من جهة والديناصور الرأسمالي من جهة أخرى قبل أن يتزود بما يكفيه من الأسلحة التي تعينه على الدخول في ساحة الصراع التي تقاسمها العملاقان.
وكان ذلك العوز الفكري وسرعة الأحداث التي أدت إلى ذلك الغزو الفكري وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية ونتيجة لفشل تجربة الحكم في تشرين من عام 1963 قد أدت كلها إلى إنقسامات حادة على صعيد البنية التنظيمية والفكرية للحزب, إذ ذهب البعض إلى تأسيس (لجنة تنظيم القطر اليسارية الإتجاه والمناوئة لجناح عفلق والتي كان من إفرازاتها تشكيل حزب العمال الثوري الماركسي العقيدة بقيادة بعثيين معروفين من أمثال المرحوم علي صالح السعدي والدكتور محسن الشيخ راضي والمرحوم هاني الفكيكي).
لكن قصة الإحتراس البعثي من التأثيرات غير المحسوبة للماركسية قد جعلته يتطرف في كثير من الأحيان إلى حد المغالاة بـ (دور الأمة الرسالي) وبضرورة إستلهام الدروس من تاريخها المجيد !.
إن ما أريد توضيحه في هذه الجزئية هو أن البعث حينها ورغم عوزه الفكري الذي لم يكن
يسمح بسد حاجات دولته بعد 1968 إلا أنه كان حريصا جدا على أن تكون علاقته بالماركسيين, وحتى مع أولئك النابذين والمتمردين على تنظيماتهم الحزبية الشيوعية السابقة, محكومة بضوابط تجعلهم ناشطين في صفوف مؤسساته الإعلامية مع ضمان عدم وصولهم إلى مواقع حزبية, ولو حتى بمستوياتها الدنيا.
وفي حالات معينة توصل الحزب إلى ضمان وجود هؤلاء ضمن دائرة نفوذه من خلال تنظيمات خيطية تكفل الإتصال الفردي بهم من دون أن تكفل لهم الإنضمام إلى صفوف التنظيم الحزبي نفسه. ولقد كان ذلك الأمر محسوما بقرارات قيادية تنظيمية بدت في معظم الأحوال وكأنها تتكأ على حرص مدروس لأجل الحفاظ على الخطاب الثقافي للحزب دون أن يكون عرضة للنهب والإستلاب اللذيْن يضعانه في مسالك لا تتفق وعقيدته القومية الإشتراكية.
إن قيادة الحزب التنظيمية والثقافية كانت قد وضعت نصب عينها التجارب التي مرّ بها الحزب سابقا والتي أدت أحيانا إلى تسلل الإفكار والنظريات التي لا تتفق مع خصوصية نظريته القومية. كانت تجربته مع الإنشقاقات التي جابهها بعد إنهيار جمهوريته الأولى عام 1963 والتي نحت بإتجاهات ماركسية دافعا للتشديد على ذلك الإحتراس, الذي أكد الحاجة إليه الإنشقاق الذي حصل في الحزب بعد ذلك على يد مجموعة صلاح جديد السورية تحت عناوين الخروج على الفكر اليميني الذي تمثله مجموعة عفلق.
وحتى حينما نحا الحزب بعد مؤتمره القومي السادس في دمشق من 5 إلى 23 تشرين الأول عام 1963 إلى تبني مفهوم الطبقة الكادحة كقوة أساسية لتحقيق حلمه القومي فإن ميشيل عفلق أعلن أنه بات صعبا عليه أن يتعرف على الحزب الذي أسسه.
لقد حذرَ عفلق أعضاء المؤتمر من تغلغل الشيوعيين في الحزب الذين سيهددونه من الداخل سياسياً وإيديولوجياً, ولم يكن ذلك التحذير قد أتى بمعزل عن النشاط الإنشقاقي الذي بدأ يتصاعد بوضوح بين تيار يحاول الحفاظ على عقيدة الحزب الأساسية يتقدمه ميشيل عفلق نفسه ويضم بين صفوفه صلاح الدين البيطار وشبلي العيسمي وبين التيار الآخر الذي يحمل لواءه علي صالح السعدي حيث شددت إحدى التوصيات التي دعا إليها المؤتمر إلى أهمية (إعادة النظر في كل ما كُتِب، سواء ما نشر منه داخل الحزب أو خارجه، على ضوء ما يقرر في ذاك المؤتمر ، لجعله منسجماً مع التطورات الفكرية الجديدة).
وقد تبنى هذا التيار إطروحات ياسين الحافظ الذي الذي كان إنتمى إلى الحزب بعد إستلامه للسلطة والذي كان يدعو بشكل أساسي إلى تعريب الماركسية. لذلك إحتلت عقدة تسلل الماركسين إلى داخل صفوف الحزب, ومنها عقدة ياسين الحافظ مكانها في تشديد الإحتراس البعثي وميله للمحافظة على خصوصية نظريته القومية التي كان مسموحا أن تتفاعل بإحتراس مع الفكر الماركسي صاحب السيادة آنذاك على ساحة العمل الثوري في العالم الثالث.
إن الخوض في تلك الأزمة التنظيمية والفكرية التي جابهها الحزب بعد إستلامه السلطة في
سوريا والعراق يتطلب منا الكثير من البحث والتضمين غير أن الذي نريد أن نؤكد عليه من
خلال هذه العودة السريعة إلى أحداث تلك المرحلة أن الحزب كان قد مرّ سابقا بالتجربة التي جعلته حريصا على التفاعل, وبخاصة مع الفكر الماركسي واليساري ولكن بكثير من الإحتراس.
ولأن قيادة الحزب في العراق كانت في الوسط من تلك التجربة التي أدت إلى إنشقاق الحزب إلى ما سمي وقتها باليمين واليسار لذلك فهي كانت جاهزة للتعامل مع الكتاب اليساريين الذين يعلنون تعاونهم معه على شرط أن تتوثق صلته بهم بشكل يجعله بعيدا عن حالات الإستلاب وخاصة الماركسية منها.
الواقع أنه لم يكن سهلا على الإطلاق أن يفلح الحزب, وخاصة بعد إستلامه السلطة, إلى الحفاظ على إستقلاليته العقائدية دون أن يتعرض إلى تأثيرات العصف الماركسي. ويوم تجد نفسك تسبح في بحر اليسار المتلاطم فإن من الصعب عليك أن تحفظ نفسك من عضات أسماك القرش الماركسية.
لهذا كان الطريق أمام المفكر عزيز السيد جاسم صعبا, ولم يكن هو نفسه بريئا مما وضع نفسه فيه, ففي إحدى الجلسات الشخصية التي جمعتني معه حاولت أن أضعه تماما في الصورة على طريقة (صديقك من صدَقَك لا من صدّقَك) وكان الذي اثار الحديث هو قناعتي بإنه لا يعرف تماما طبيعة البحر الذي يسبح فيه.
لقد ظن أن قدراته الفكرية وبراعته الكتابية سوف تؤهلانه ربما لكي يكون قبطانا لسفينة الحزب الفكرية آنذاك. وقد تغذى طموحه ذاك بمعرفته أن الحزب في الفترة الأولى لإستلام السلطة كان فقيرا على مستوى الكوادر المعرفية, ورأى كيف أنه إستطاع في سنة وجوده الأولى في بغداد أن يصل إلى أعلى القيادات تأثيرا في الحزب وفي المقدمة منهم صدام حسين وعبدالخالق السامرائي.
لكن هذين الرجلين بذاتهما كانا الأشد حذرا, ففي جعبتهما ما زالت المواجهة مع محنة الإستلاب اليساري الماركسي بقيادة صلاح جديد ومجموعته العراقية ساخنة وحتى حارقة بما جعلهما حريصين على أن لا تكون جبهة الحزب ضعيفة وغير قادرة على منع الإختراقات على الشكل الذي حصلت عليه سابقا.
من الجهة الأخرى جاء طارق عزيز في تلك الفترة ذاتها ليملأ الفراغ الحساس, ورغم إنه كان بعيدا عن الحزب في السنتين الأخيريتين ولم يكن له بالتالي دورا في عملية إعادة بناء الحزب بعد إنهيار جمهوريته الأولى غير أنه ظل بكل تأكيد (إبنا) للحزب وقريبا جدا من رأس قيادته وليس كما السيد عزيز السيد جاسم الجارالماركسي وصديق الحزب الطيب.
ولقد حاولت شخصيا أن أوضح للسيد جاسم طبيعة المعترك الذي وضع نفسه فيه وشرحت له بشكل مباشر بعد أن أدركت أنه بات يعرف تماما أن طارق عزيز هو من سيملأ الفراغ
الذي كان يأمل هو شخصيا بملئه. قلت له بكل صراحة مهما فعلت يا صديقي فسوف تبقى ضيفا على الحزب ولن تكون قياديا فيه أو إبنا له كما طارق عزيز لأني أعرف الحزب وضوابطه وإحتراساته وتجاربه المريرة.
وكان الموقف الذي دفعني إلى مخاطبته بتلك الطريقة هو مغالاته في تفخيم دوره الفكري على صعيد التجربة وقتها حيث ذكر من باب تلك المغالاة أنه (هو الذي قام بكتابة ثلاثة أرباع الفكر البعثي للحزب وليس ميشيل عفلق) وحتى أنني رأيته في تلك اللحظة وكأنه قد لبس وجه ياسين الحافظ.
وفي حالة المواجهة تلك كان من السهولة معرفة إلى أية جهة كانت تميل الكفة. لقد كان لدينا عزيزان, أحدهما عزيز الحزب وهو طارق, والثاني عزيز نفسه وهو السيد جاسم.
وهذه دون أدنى شك كانت العقدة الأساسية وراء أكثر الإنفعالات النفسية التي مر بها عزيز السيد جاسم الذي كان وحده من دون كل أصحاب التاريخ الشيوعي والماركسي من لم يحسب جيدا مديات العلاقة بينه وبين القيادة البعثية في العراق حتى يكون قادرا على أن لا يذهب ضحية لخطأ حساباته.
إن كل ما يشاع عن وجود علاقة صحبة فكرية ومودة بين السيد جاسم وبين عبدالخالق السامرائي هو صحيح لكنه لن يكون دقيقا حينما يستخدم لبناء نظرية تقول أن الرجلين كانا يمثلان مشروعا واحدا. ولست هنا في معرض تأشير من كان منهما الأصوب أومن كان منهما الأفضل فتلك حكاية لا علاقة لها بما أتحدث به هنا.
وقد يكون للرجلين في النهاية عدو واحد إسمه صدام حسين لكن ذلك لا يعني مطلقا أن الرجلين كانا جزءا من مشروع واحد, أو أن السيد عزيز السيد جاسم كان مكملا لعبدالخالق السامرائي.
لقد ذهب عبدالخالق السامرائي ضحية قضية لا علاقة لها لا من بعيد ولا من قريب بالقضية التي ذهب ضحيتها عزيز السيد جاسم, وكون الإثنين كانا ضحية لصدام حسين لن يجعلهما بالضرورة أصحاب مشروع مشترك.
وإذا ما ترك لي أن أبدي رأيا ناجزا بكلا المسيرتين, وأنا أعرف الرجلين معا عن قرب, فسأقول أن عبدالخالق قد ذهب ضحية تمسكه بقضيته في اللحظة الصح.
في حين أن السيد عزيز السيد جاسم قد ذهب ضحية تسويقه لقضيته في الزمن الخطأ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س