الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جون لوك ( 1632م. – 1704م. ).. عصر التنوير والمساواة

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2020 / 11 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



من كبار فلاسفة المادية الإنجليزية، ومن أهم المنظرين السياسيين، وأحد أهم فلاسفة القرن السابع عشر من حيث تأثيره الفلسفي، أو المعرفي، تأثيره السياسي في أوروبا، فقد استلهمت الثورة الفرنسية كثيراً من مبادئه، فهو أحد أهم مؤسسي الأفكار الديمقراطية الليبرالية السياسية، وقد عَبَّر عن أفكاره عشية الثورة الانجليزية عام 1688 وما بعدها، حيث مارس نشاطاته السياسية بقوة، وفي تلك المرحلة أصدر أهم كتبه: كتاب "رسالة في التسامح" و "رسالة في العقل البشري" إلى جانب كتاب "آراء في التربية" و "الحكومة المدنية".

برهن على صحة المذهب الحسي المادي أو الفلسفة التجريبية، وهو المذهب الذي يُرِجعْ جميع ظروف المعرفة إلى الإدراك الحسي للعالم الخارجي، واعتبر دعوته القيام بعملية "تنظيف" فكري، أي باختيار نقدي لمعرفتنا، ورَفَضَ وجود أية أفكار نظرية في الذهن.. فالتجربة بالنسبة له هي المصدر الوحيد لكافة الأفكار..! وحول فلسفته يقــول ماركس:"لقد أقام لوك فلسفة العقل الإنساني السليم.. أي أنه أشار بطريقة غير مباشرة إلى أنه لا وجود لفلسفة إلاَ فلسفة البصيرة المستندة إلى الحواس السليمة".

إن "المناقشات اللامتناهية للمسائل الأخلاقية والدينية هي التي حركته للتساؤل عما إذا كان الكثير من تصوراتنا غامضاً وغير ملائم، وشعر أن على الفلاسفة أن يعملوا بشكل تدريجي وغير نهائي، مثلهم مثل العلماء الطبيعيين، فقبل أن نتعامل مع المسائل الكبرى، نحتاج ان نفحص أدواتنا، أي تصوراتنا، لذا بدأ لوك ينقد المعرفة والتحليل اللغوي، غير أن اهتمامه "بالأدوات" لم يبعده عن الاهتمام بالمسائل المتاحة: فهو أحد المفكرين الكلاسيكيين في أصول التعليم وفي النظرية السياسية"([1]).

في فبراير 1690 أصدر مقاليه عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديمقراطية في إنجلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه "بحث في العقل الإنساني"، وهو اعظم المؤلفات أثراً في علم النفس الحديث.

في كتابه "رسالة في الفهم الانساني والعقل البشري" أكد جون لوك أن الافكار الفطرية لم توجد ابداً (على النقيض من ديكارت الذي أقر بتأثر الأفكار الفطرية)، بدليل القبائل البدائية في أمريكا مثلا التي لم تعرف شيئاً عن الله أو الاخلاق.. إلخ ثم تساءل قائلاً: لماذا لا يعرف الاطفال شيئاً عن الله أو المنطق او الاخلاق عند ولادتهم ونموهم إلا من خلال التربية والحواس، ثم أضاف جون لوك قائلاً: "ان من يعتقدون بوجود إله واحد، يختلفون فيما بينهم حول ماهيته، كما هو الحال بين المسيحيين واليهود والمسلمين وغيرهم، فأين دور الفطره في الموقف من الله؟ لا وجود للفطره ابداً لأن المعرفة مصدرها الأساسي الأول هو الحواس أو التجربة التي نلاحظ كل شيء من حولنا من خلالها، والمصدر الثاني هو مصدر داخلي لدى الانسان عبر التأمل والشعور والوعي الداخلي، ولذلك فان الحواس أو التجربة الخارجية، ثم التأمل والشعور أو الاحساس الداخلي هي الأساس في تكوين معارفنا من خلال التجربة بواسطة الحواس من ناحية ومن خلال التأمل والاحساس الداخلي من ناحية ثانية، فالعقل وحده عاجز تماماً عن التوصل إلى أي معرفة، بدون هذان المصدران لا وجود لأي شيء في العقل إلا وقد سبق وجوده في الحس والتجربة".

المعرفة اذن عند جون لوك مصدرها الأول: الحواس التي تؤدي إلى الادراك المباشر من الخارج، من الاشياء المادية، وهي أكثر انواع المعرفة يقيناً ، وهي معرفة بديهية أو حسية تراكمت في عقولنا من الخارج مثل ادراكنا لوجودنا وللون الأبيض والاسود، فهي معرفة يقينية لا تحتاج لبرهان .

المصدر الثاني: هي المعرفة البرهانية، وهي ادراك العقل للأفكار العلمية بصورة مباشرة، أما الأفكار التي ندركها إدراكاً غير مباشر، فهي تحتاج إلى دليل لإثبات صحتها، حيث ينقصها الدليل، مثل معرفة الله .. الخير والشر والشيطان .. إلخ التي لا تتم من خلال الادراك الحسي المباشر، وانما بالادراك العقلي غير المباشر.

فلسفة جون لوك السياسية:

في حياته، كان عصر جون لوك، هو عصر مليئ بالنزاعات السياسية والدموية، من خلال العديد من اشكال التمرد والصراعات والثورات (خاصة ثورة 1688) التي اتخذت عدة اشكال بين البرلمان من جهة والكنيسة والسلطة الملكية (الملك والتيارات المؤيده له) من جهة ثانية، وكان لوك مؤيداً لفكرة الحد من سلطات الملك والكنيسة، ورأى ضرورة تغيير الأوضاع السائدة باتجاه خلق نظام سياسي ديمقراطي يقوم على الفصل بين الدين والسلطة، ووضع نظريته السياسية من خلال كتابه "في الحكم المدني" عام 1690 للحد من سلطة الملك والكنيسة، مؤكداً على الحرية والحق الطبيعي للبشر، ومصدره العقل البشري، الذي يميز بين المفاهيم الاخلاقية السياسية المُعَبِّره عن الحرية والخير، ولذلك رفض لوك ما وصلت اليه أحوال انجلترا في زمانه، عبر تفاقم الصراعات ومظاهر الإستبداد والظلم باسم الحق الإلهي النقيض للحق الطبيعي في الحرية والمساواة، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الظلم والصراعات والفوضى، وبالتالي بروز الحاجة إلى الحقوق المدنية الديمقراطية، والعقد الاجتماعي المُلزِم لكل الناس عموماً، والملك خصوصاً، مؤكداً على أن من حق الشعب تغيير الحاكم عبر الثورة عليه إذا أخل بالعقد الاجتماعي على قاعدة أن "الانسان ولد حراً".

جون لوك، أول من تحدث وطالب بفصل السلطات، كما اعتبر أن السلطة التشريعية هي الأساس الرئيسي بالنسبة لسياسات الدولة وحماية مصالح الناس، وهي أيضاً السلطة التي يجب ان تلتزم بتطبيق شعار "الانسان ولد حراً".

كتاب آخر هام هو "رسالة في التسامح" وهو مرجع في حرية المعتقد لكل البشر، حيث أكد فيه جون لوك أن أمور الدين مسألة شخصية لا يحق لأحد ان يتدخل فيها، وبالتالي يجب كفالة حرية الاختيار أو الايمان أو المعتقد لكل فرد.

بالطبع رفض جون لوك موقف توماس هوبز وتأييده للحكم المطلق، مؤكداً على الديمقراطية الليبرالية السياسية، وحق الجمهور في عزل الملك، أو الحاكم، اذا ما أخل بالعقد الاجتماعي، كما رفض قول "هوبز" بالطاعة العمياء للملك، مؤكداً ان العقد الاجتماعي له طرفين: الملك والناس بعكس هوبز الذي قدم في النهاية صوره عن الحكم الدكتاتوري الملكي النقيض لكل افكار وطروحات جون لوك الذي شَرَّعَ الثورة على الملك أو أي نظام مستبد غير ملتزم بالعقد الاجتماعي، فلا وجود لحاكم مطلق عند لوك .

كان لابد لهذه الأفكار الديمقراطية الثورية، التي قدمها جون لوك من أن "تترك أثرها على معظم المفكرين في أوروبا عموماً وفي بريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص، فقد انتقلت آراء لوك من إنجلترا إلى فرنسا مع فولتير في 1729، واعتنقها مونتسكيو عند زيارته لإنجلترا 1729 / 1731، وكان لها صدى عند روسو وغيره قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، وبرزت بأجلى معانيها في "إعلان حقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية التأسيسية 1789، كما أن الحقوق التي أثبتها لوك أصبحت "وثيقة الحقوق" في التنقيحات العشرة الأولى للدستور الامريكي، أما نظريته في فصل السلطات، كما وسعها مونتسكيو لتشمل السلطة القضائية، فقد أصبحت عنصراً أساسياً في شكل الحكومة الأمريكية"([2]).

لم ينكر جون لوك حق الشعوب في الثورة على الحكم وتغيير النظام ، حيث قال "إن الشعب في حل من الطاعة إذا كان ثمة محاولات غير مشروعة للاعتداء على حرياته وممتلكاته، "لأن" هدف الحكومة هو الصالح العام للبشر، وقد "تركت أفكار جون لوك آثارها العظيمة في تطوير الفكر الليبرالي السياسي في أوروبا والعالم.

من الجدير بالذكر ان لوك قال "بضرورة الفصل بين الدولة والكنيسة، فهدف الدولة – الحياة الارضية، وهدف الكنيسة – الحياة السماوية، والمواطنون يولدون ملْكاً للوطن، لا للكنيسة، وليس للدولة، بالتالي، أن تراعي العقيدة الدينية في التشريع، ولا محل للقول بدولة مسيحية"([3]).

من آراء جون لوك الاجتماعية والسياسية قوله: "بأن مهمة الدولة هي صيانة الحرية والملكية الفردية، وعلى الدولة أن تسن القوانين، لحماية المواطن، ومعاقبة الخارجين عن القانون"، وقال أيضاً " إن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع "؛ وتتوزع السلطة عنده إلى سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية وسلطة اتحادية.. كما طالب بالفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد دعمت آراؤه التوجهات الليبرالية في بريطانيا آنذاك([4]).

نظرية المعرفة ونقد المعرفة عند جون لوك:
نظرية لوك الخاصة بتشكيل المعرفة تقول: "إننا منذ الولادة مثل لوح أبيض فارغ -فلا وجود لأفكار فطرية – والأشياء الخارجية تمدنا بأفكار بسيطة من الإدراك الحسي هي مركبات من الصفات الحقيقية للأشياء الخارجية والصفات الحسية التي نضيفها إليها، وإننا نملك أفكاراً بسيطة انعكاسية من العمليات والحالات العقلية، ومن تلك المادة يُشَكِّل العقل الأنواع المختلفة من الأفكار المركبة، وهكذا نحصل على معرفة تقوم على أفكار بسيطة من الإدراك الحسي، وأفكار بسيطة من التفكير العقلي لا تختزل إلى تلك الأفكار الحسية([5]).

في هذا السياق، يقول المفكر الراحل صادق العظم: "إن نظرية الصفات الأولية والثانوية ارتبطت باسم جون لوك، وهذا ما تُجْمِع عليه تواريخ الفلسفة بالتأكيد، إلا أن الواقع التاريخي يختلف قليلاً عن الحكمة التي يعرضها هكذا إجماع، فهو (جون لوك) مسؤول عن نشر نظرية الصفات الأولية والثانوية، وتطويرها، وإكسابها الشرعية الفلسفية المطلوبة، فقد كان أول من صاغها صياغة منتظمة، متكاملة، ومتماسكة، حيث جعلها – مع النظرية السببية في الإدراك الحسي – جزءاً لا يتجزأ من "فلسفة العلم" التي شيدها بدقة ملحوظة وعناية فائقة، انطلاقاً من أن جون لوك اعتبر أن مهمته كفيلسوف لا تتعدى العمل – في ظل نيوتن والعلم النيوتوني- على تخليص الفكر الفلسفي من الشوائب العالقة فيه من مخلفات العصور الوسطى وفكرها الأجوف وتأثيرها الضار"([6]).

كان جون لوك شخصية انتقالية في تاريخ الأفكار، وتعود جذوره إلى نظرية الحقوق الطبيعية، كان بشيراً لعصر التنوير، ورائداً في المذهب التجريبي – الحسي البريطاني، وهو المذهب الفلسفي الذي أدى إلى نقد قوي لنواحٍ مهمة من فلسفة عصر التنوير"([7])، وكانت النتيجة هي أنه لم يَعُدْ من الممكن القول بالمعرفة القبلية لعالم متعالٍ، فالمعرفة تَمِتْ إلى عالمنا الأرضي/ الواقعي هذا فقط، وهي تقوم على أساس الحواس والتجربة بعيداً عن كل الأفكار الغيبيه، ومن الواضح أن مثل هذا الموقف أطاح بالمذاهب الميتافيزيقية التي قال بها المدرسيون، كما أطاح في الوقت نفسه بمذاهب ديكارت وسبينوزا ولا يبنتز، وبجميع الأفكار الدينية والسياسة الوثيقة الصلة بهذه المذاهب. هنا نصل إلى المغزى الحقيقي لفلسفة لوك، لقد كانت بمثابة هجوم كبير على التقاليد الأرستقراطيه والحكم التعسفي والسلطان الكنائسي، بقدر ما كانت هذه الأشياء تدعم النظام القديم، ففي عهده انتصرت البورجوازية نهائياً على الاقطاع من خلال الثورة الانجليزيه عام 1688.

كان لوك حامل المشعل في الثقافة العلمية الجديدة، التي وجدت تعبيرها عند مواطني بريطانيا المتنورين والتقدميين في نهاية القرن السابع عشر: فهو الذي افتتح عصر التنوير، بحيث يمكننا القول إن لوك، بخلاف لهوبز، ميز بين المجتمع الذي يعمل بشكل عفوي بطريقة منظمة والذي يمكن أن يوجد في حالة الطبيعة، وبين الدولة التي تمثل تنظيماً سياسياً والتي نتجت عن عقد اجتماعي. "فالمجتمع المنظم سياسياً ليس بحكم استبدادي مطلق، وهو دولة خاضعة لحكم الأكثرية ولأنظمة معينة، أي: لكل فرد حقوق لا يمكن انتهاكها، ويجب أن لا يمسها حاكم، فالحكم دستوري، وتعظيم حرية الفرد، ووجود حكم دستوري مؤسس على حقوق الفرد، هما وجهان لعملة واحدة عند لوك"([8])، هنا، البشر متساوون بالطبيعة، ويمكننا أن ندرك هذه المساواة بعقولنا. والمساواة تعني الحرية بأن نكون أسياد أنفسنا، ما دمنا لا نؤذي أي إنسان آخر، علاوة على ذلك، تعني تلك المساواة وتلك الحرية أننا نسيطر بحرية على أجسادنا، وبالتالي على كل ما ننجز بأجسادنا، أي نتيجة عملنا أو الملكية الخاصة، والمساواة هنا مرتبطة بحرية المواطنين من خلال الديمقراطية والعقد الاجتماعي، غير أنه في حال قبول المواطنين وموافقتهم على العقد الاجتماعي، فواجبهم –كما يقول لوك- يقضي بأن يقبلوا إرادة الأكثرية، يقول "لا يكون هنا مجتمع سياسي إلا إذا تنازل كل واحد من الأعضاء عن هذه السلطة الطبيعية، ويضعها في أيدي المجتمع شريطة ألا يحال بينه وبين اللجوء إلى القانون الذي أقره المجتمع"([9]).

فالقانون هو أساس نظرية لوك عن حكم الأغلبية، وبالتالي فإن المجتمع السياسي يتكون عن طريق الاتفاق الإجماعي لأعضائه، على أن يكونوا مجتمعاً واحداً، لكن على الرغم من أن كل مجتمع سياسي يقوم على أساس الاجماع، فإن هذا الاجماع يمكن أن يستثنى في مسائل أخرى.

والنتيجة المباشرة لهذا الاتفاق الاجماعي الأول، وعدم إمكان إجماع مستمر، هي أن جزءاً من المجتمع، أعنى الأغلبية، هو الذي يحكم، لأنه – كما يقول لوك:

"عندما يؤلف عدد من الناس مجتمعاً، عن طريق الموافقة والرضا، فإنهم يجعلون، بالتالي، هذا المجتمع هيئة واحدة؛ لها صلاحية التصرف كهيئة واحدة، أي كما تختار الاغلبية وتقرر. ولأن ذلك الذي يفعله أي مجتمع يكون بموافقة أفراده فقط، ولأنه من الضروري لذلك الذي يكون جماعة واحدة أن يتحرك في طريق واحد، فإنه من الضروري أن تتحرك هذه الجماعة في هذا الطريق الذي تدفعها فيه القوة الغالبة، التي هي موافقة الاغلبية ورضاها، وإلا كان من المستحيل ان تفعل أو تستمر كجماعة واحدة، اعنى هيئة واحدة، كما أراد كل فرد التحق بها أن تكون، ولذلك يكون كل فرد ملزماً عن طريق هذه الموافقة والرضا بأن يتقيد بما تقرره الأغلبية".([10])

وعلى الرغم من أن الناس يبقون على السلطة العليا، فإن لوك يقول، أيضاً، إنه عندما تؤسس السلطة التشريعية، فإنها تكون، هي السلطة العليا طالما تستمر الحكومة في الوجود وفي اداء وظيفتها. وفضلاً عن ذلك:

"فإن هذه السلطة التشريعية ليست السلطة العليا في الدولة فحسب، بل هي سلطة مقدسة لا تتغير متى وضعتها الأمة في أصحابها، فالسلطة التشريعية أسمى من السلطة التنفيذية؛ "لأن ما تستطيع أن تعطى قوانين للأخرى لابد أن تكون أسمى منها""([11]).

وعما إذا كانت هناك مقاومة للحكام، فإن ذلك يعتمد، تماماً، -كما يقول لوك- "على ما يراه الناس ويشعرون به، فعندما تشعر الأغلبية العظمى من الناس أن حياتهم معرضة لخطر جسيم، فإننى لا أستطيع أن أقول "كيف يمكن منعهم من الثورة على القوة الغاشمة التي تستخدم ضدهم، وإنني أعترف بان هذه أعدى المساوئ التي تلحق بكل الحكومات أياً كانت، عندما يصل الحكام إلى هذه الحالة التي يصبحون فيها موضع شبهة من شعبهم؛ أعنى الحالة الخطيرة التي يمكن أن يضعوا فيها أنفسهم، بحيث لا يستحقون الشفقة، لأنه كان من السهل تجنب الوقوع في هذه الحالة"([12]).

في هذا السياق، يقول -مؤلفا تاريخ الفكر الغربي-:"لم يكن لوك من المدافعين عن دعه – يعمل، أي نظام اقتصادي تؤدي فيه الدولة دوراً أصغرياً، ويكون فيه الأغنياء مطلقي العنان، كان لوك مثل معظم المواطنين زمانئذ– بريطانياً في نهاية القرن السابع عشر- من دعاة النظام الاقتصادي الذي تتبنى فيه الدولة دور الحماية تجاه الصناعة الوطنية، والصناعات الشبيهة في دول أخرى"([13]).

كان لأفكار لوك السياسية، عبر الفلاسفة الفرنسيين في عصر التنوير، وعبر الثورة الأميركية (الآباء المؤسسون)، تأثير عظيم على التطورات اللاحقة، وباختصار يمكن القول إن "لوك" كان أيديولوجياً ممثلاً للمذهب الليبرالي في مرحلة الرأسمالية، عندما لم يكن المواطنون بحاجة لملك مطلق السيادة ليكبح جماح النبلاء، ويوحد الدولة القومية، بل أرادوا عوضاً عن ذلك، أن يقضي على المَلَكية المطلقة، والإدارة المباشرة للحكم.

مذهب لوك الليبرالي بدأ بفكرة عقد اجتماعي، وحقوق فردية لا تنتهك، والمثال الأعلى الذي يضع السيادة في أيدي الشعب، وطبقاً لذلك، يجب أن تمارس السلطة التشريعية من مجلس قومي يمثل البورجوازيين والمالكين، وتبقى السلطة التنفيذية في يد الحكومة التي تحترم حقوق الفرد التي لا يمكن انتهاكها"([14]).

وبالتالي فإن "موضوع لوك هو الحرية، وحجته العظيمة هي انه ليست هناك حرية حيثما لا يكون هناك قانون، ولكي يكون الناس احراراً، ينبغي عليهم، بالتالي، أن يكونوا صانعي القوانين"([15]).

أخيراً، اعتقد أن الليبرالية الاقتصادية التي دعا إليها "آدم سميث" اكتملت ونضجت من خلال الليبرالية السياسية التي أسسها جون لوك، ومن ثم ترعرت الليبرالية بجناحها الاقتصادي والسياسي في خدمة النظام الرأسمالي الاستعماري، ثم الامبريالي وصولاً إلى النظام المعولم الامبريالي، حيث تطور مفهوم الليبرالية طوال المراحل السابقة في خدمة الاستغلال الرأسمالي بذريعة الديمقراطية البورجوازية وحقوق الملكية الفردية الخاصة.

أهم كتبه: "بحثان في الحكم المدني" عام (1690) وكتاب "المقدس للمذهب الليبرالي"، و "رسالة في التسامح" (1689 – 1692) و "معقولية المسيحية" (1695)، والكتاب المعرفي "مقالة في الفهم البشري" (1689).

قالوا عنه([16]):

· "بعد أن صاغ بعض السادة المفكرين أسطورة رومانسية عن النفس، ظهر رجل واحد حكيم حقاً، وأمدنا بتاريخها الصحيح في اعظم حالة من التواضع يمكن تصورها، إن مستر لوك قد كشف للإنسان تشريح النفس، كما لو أن بعض علماء التشريح يشرحون الجسم"، "إن لوك وحده" بسط العقل الإنساني في كتاب لا يضم إلا حقائق وهو كتاب "مقاله في الفهم البشري" بلغ حد الكمال والإتقان – وبات ذلك المقال، الإنجيل السيكولوجي لعصر الاستنارة في فرنسا" (فولتير)([17]).

· "لوك أول من سعى إلى فهم عمليات العقل البشري، معتمداً على الطبيعة مباشرة، بدون أن ينقاد إلى آراء تستند إلى المذاهب أكثر منها إلى الوقائع". (ديدرو).

· "إلى جانب الدحض السلبي للاهوت والميتافيزيقا العائدين إلى القرن السابع عشر، كان لا بد من مذهب مضاد للميتافيزيقا إيجابي، وكانت الحاجة ماسة إلى كتاب يمذهب الممارسة الحية للعصر ويعطيها أساساً نظرياً، وقد جاء كتاب لوك: "محاولة في الفهم البشري" في حينه من وراء المانش، فاستقبل بحماسة وكأنه ضيف طال انتظاره". (ماركس).

· "لقد كان لوك معلم هلفتيوس، مثلما كان معلم هولباخ وديدرو وفولتير" (بليخانوف)

· "انه أول من عرض الفلسفة الليبرالية على نحو مفهوم؛ أنه أكثر الفلاسفة المحدثين نفوذاً، إن لم يكن أكثرهم عمقاً" (برتراند راسل).




([1])غنارسكيربك و نلز غيلجي – تاريخ الفكر الغربي .. من اليونان القديمة إلى القرن العشرين – ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى ، بيروت، نيسان (ابريل) 2012- ص 453

([2]) ول ديورانت– قصة الحضارة "عصر لويس الرابع عشر" –المجلد السابع عشر- الفصل العشرون - ترجمة: فؤاد أندراوس ومحمد علي أبو دُرّة . (33/34) -ص 52

([3]) جماعة من الأساتذة السوفيات – موجز تاريخ الفلسفة - تعريب: توفيق ابراهيم سلوم - دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص 272

([4]) فى نفس المرحلة جاء "بيركلى" وفلسفتة المثالية الذاتية المغرقة فى الرجعية….وكذلك"ديفيد هيوم".

([5])غنارسكيريك ونلز غيلجي – مرجع سبق ذكره – تاريخ الفكر الغربي - ص 461

([6])د. صادق جلال العظم – دفاعاً عن المادية والتاريخ – دار الفكر الجديد – بيروت – الطبعة الأولى 1990 –ص 45-46

([7]) حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990م –ص 146

([8])غنارسكيربك و نلز غيلجي– مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 467

([9]) روبرت أ.جولدون – مقال بعنوان: جون لوك - تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين)– تحرير: ليوشتراوس و جوزيف كروبسى– ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة –الجزء الثاني – 2005– ص 45-46

([10]) المرجع نفسه- ص47

([11]) المرجع نفسه- ص50 - 51

([12]) المرجع نفسه- ص62-63

([13])غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 469

([14]) المرجع نفسه - ص 476-477

([15]) روبرت أ.جولدون – مقال بعنوان: جون لوك - تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين)– تحرير: ليوشتراوس و جوزيف كروبسى– ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة –الجزء الثاني – 2005- ص62-63

([16]) جورج طرابيشي – معجم الفلاسفة – دار الطليعة – بيروت – ط1 – أيار (مايو) 1987 – ص 599 - 600

([17]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الحضارة – المجلد السابع عشر (33/34) -ص 59








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد إسرائيل في شمال قطاع غزة هو الأعنف منذ إعلان خفض القوا


.. طفل فلسطيني برفح يعبر عن سعادته بعد تناوله -ساندويتش شاورما-




.. السيناتور ساندرز: نحن متواطئون فيما يحدث في غزة والحرب ليست


.. البنتاغون: لدينا بعض المخاوف بشأن مختلف مسارات الخطط الإسرائ




.. تظاهرة مؤيدة لفلسطين في بروكلين للمطالبة بوقف تسليح إسرائيل