الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبلة الوداع الأخير

محمد زهدي شاهين

2020 / 11 / 26
سيرة ذاتية


محمد زهدي شاهين _ القدس المحتلة
حينما صعدت إلى قاطرة الحياة البرزخية لأقوم بتوديع المسجى بها رمشت عيناي، وقبل أن يرتد إلي طرفي مرّ شريط من الذكريات. ذكريات جميلة وحزينة ومؤلمة على حد سواء. ما كان صعودي لهذه القاطرة في حقيقة الأمر إلا نزولا إلى جوف الأرض؛ لأقوم بتوديع من كان بداخل القبر، أو كما أسميتها مقطورة الحياة البرزخية. هذه الأرض التي احتضنت عزيزا مقربا إلى قلبي منها خلقنا وإليها نعود، فيا ترى كم طوت في أحشائها من شقي وسعيد.
عندما أصبحت في داخل القبر لم أقوَ على تمالك نفسي، ففاضت عيناي من شدة البكاء على فراق من أحب. فراق من نبت لحمي وقوي واشتد ساعداي من كدّ يديه. وحينما قام من حظي بإنزال والدي للقبر بفتح ثوبه الأخير لرش الحناء عليه ما رأيت نفسي إلا وأنا منكب على تقبيل يده النضرة بحرارة وبشغف، كوني أعي بأن هذه القبلات هي قبلات الوداع الأخير، نعم لقد كانت قبلات الوداع الأخير التي لن تتكرر ما حييت. كانت قبلات دافئة من أعماق قلبي ترجمتها شفتاي التي أبت إلا أن تشاركهما مقلتاي ذرف الدموع، التي بدورها أحرقت وجنتيّ ولسان حالها يقول: نم قرير العين يا أبتاه، تاركة غصة ومرارة في القلب لم أعهدهما قبل هذه التجربة المؤلمة وهذا الاختبار الصعب، الذي لا مهرب ولا مناص منه وكأنه كأس من حنظل الكل منا لا ريب شارب منه.
إن التجربة الإنسانية في جوهرها تجربة واحدة ومتشابهة إلى حد كبير، فكلنا من آدم وآدم من تراب، فعندما يفقد الإنسان شخصا عزيزا مقربا إلى قلبة يقف مكتوف اليدين لا حول له ولا قوة، حينها يدرك المرء معنى العجز تماماً مما يولد لديه ألم، وغصة، ومرارة لا أستطيع وصفها إلا بأن الموت بالفعل لا ريب مصيبة، وأي مصيبة هو!
نحن نبكي موتانا، وما بكاؤنا عليهم إلا بكاء ميت لا محال على ميت، فهم تقطعت بهم السبل، فهل ننتبه نحن الباكين عليهم على ما فاتنا نحن وأضعنا لغاية الآن.
رغم تأخيرنا المتعمد من قبل جنود الاحتلال المتواجدين على الحاجز العسكري المقام على أراضي السواحرة الشرقية، الذي يفصلها عن السواحرة الغربية التي تحتضن مقبرة البلدة قرابة ساعة أو يزيد عنها؛ بذريعة أننا نحن أبناء الفقيد لا يحق لنا المشاركة في دفن الجثمان كوننا ممنوعين من دخول مدينة القدس التي ولدنا فيها بدواعٍ أمنية، لأن مقبرة البلدة داخل جدار التوسع الاحتلالي، ورغما عن ذلك وبفعل إصرارنا وإصرار المشيعين تمكنا من دخول الحاجز، وقمنا بدفن جثمان والدنا، فهذا هو قدر الفلسطينيين فهم في رباط إلى يوم يبعثون.
في الأعلى تتعالى أصوات المشيعين مطالبين من بعضهم البعض مساعدتي على الخروج ظنّا منهم بأنني لن أقوى على الصعود من تلك الحفرة، التي أعتقد جازماً بأنها روضة من رياض الجنة.
ها أنا قد صعدت وأكملت المسير وانطلقت شاقاً طريق الحياة بعزم وثبات وتوفيق. لابسا عباءة أبي التي حيكت من خيوط الصدق والايثار على النفس ومساعدة الآخرين والسعي لتلبية حوائجهم والنصح لهم، فهي نعمة حُبينا بها.
26-11-2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يوقع قانونا بإرسال مزيد من المساعدات العسكرية إلى إسرا


.. مقتل 10 أشخاص خلال تصادم طائرتين في ماليزيا




.. انتقادات لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريحات -مع


.. انهيار سقف مدرسة جزائرية يخلف 6 ضحايا وتساؤلات حول الأسباب




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق مستقل في المقابر الجماعية بغزة