الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيوتُ، الأماكنُ، والذّكرياتُ

اخلاص موسى فرنسيس
(Eklas Francis)

2020 / 11 / 28
الادب والفن


"رداً على مقال الكاتب والاعلامي عبدالرحمن محمد، كتبت الأديبة والشاعرة اخلاص فرنسيس ما بين علاوي وموعد مع الحياة علما عودة إلى الذكريات"

طقوس الطفولة، ملاعب الفراشات، رائحة الطين، الطرقات المرصوفة بالحجارة، الربيع ورائحة النهر، شجر الزيتون، ثُغاء الحملان في المراعي، سكون الليل، المطر يغسل الأعشاب البرية، رائحة خبز أمّي، الموقد اللعب بالنار، أول حبّ، أول موسيقى لصوت العصافير، أولى القصائد، وأول قبلة.
ما نحن إلّا مجموعة من الذكريات تراكمت يوماً بعد يوم، وما شخصيتنا إلّا من خلال ما عشناه في طفولتنا، ومن خلال ما خلعت علينا رائحة الأرض في القرى، رائحة الحبق والزعتر والياسمين. زرعت في ذاكرة مخيلتنا صوراً لا تنتهى ، وما إن نرى صورة تشبه شيئاً ما من طفولتنا إلّا وتطفو من البعيد، صور جلية، مليئة بالحنين، مسيّجة بالوجع. تنفتح نوافذ الماضي، فتتطاير الصور كالفراش الملوّن ، طقوس الطفولة تمرّ كالسهم تبرق، رائحة الأرض في أول المطر، حين يجلس الإنسان وحيداً، لا إراديّاً يعود إلى طفولته، يسير في طرقاتها المرصوفة بالضحك والحجارة، ورائحة الربيع تتسرب إلى صدره، فتنعشه. من ينسى شجر الزيتون والصنوبر، والنوم في ظلالها الداكنة، كلّ شيء شهيّ، صوت الليل، وصوت المطر، لا تضيع ثانية إلّا ونذكر أصدقاء الطفولة، آتين من ضباب الماضي ومن جلدة الأحلام، الأماني تخلع علينا رداءها، فتنفرج الأسارير بهجة تطير الروح في فضاء الطفولة البريئة، مأخوذة بلون فراشة، وتدهشها بلورات الماء على إبر الصنوبر، وعلى رؤوس الأعشاب. ماذا عسانا نفعل حين تداهمنا الذكريات، فنلمس باليد رائحة الخبز وقهوة الصباح، وتتوهّج وجنتنا بالوجع كتوهّج جمر المواقد. نصغي إلى قصص ليالي الشتاء الطويلة، الآن نجول بأبصارنا في كلّ شيء حولنا، المدنية والميديا سرقتنا من المروج، أخذت منّا بساطة الحياة، تركتنا في غمامة السنين، تحجب عنا جمال الطبيعة. ما أنبل قلب الإنسان الذي مازال يعيش بقلب الطفل الذي كانه بالأمس، وحده يستطيع أن يواجه الكون ببراءته، يدندن ألحان السماء مع الرعيان وثغاء الحملان في المراعي، يثمل من سكون الليل، والنسيم الذي يهبّ من على كتف الوادي، يمجّد الله في مخلوقاته، يتعانق الصباح والمساء في جلسة تأمّل، فيعلو إلى مرتبة الجلال، تلك البيوت الترابيّة التي ضمّت بين جوانحها أولى ضحكاتنا وأولى خلجاتنا، وذكرى أول حرف قرأنا، وأول قصة سمعتها الأذن من الجدّة، تلك القرى التي تنام في سكينة الغابات، مهما طاف الإنسان في العالم الحديث تعده إليها رائحة الزيتون والحبق، تخاطب روحه ويسافر عبر الأثير.
إنّ الأبنية الشاهقة، والشوارع الرحبة المكتظة بالسيارات، والبشر الذين يتسابقون في الركض خلف السراب، لا شيء مقارنة بأول قبلة في القرية الترابية المطلّة على البحر، كالقصيدة الأولى لشاعر عاشق، الأماكن ورائحتها تستدعينا مهما بعدت المسافة، ونحن نسير في غياهب هذه الحياة، تطوينا ظلمة الغربة، وتحرقنا نار المسافة، يأتي شعاع من نور على هيئة صورة بكلّ ما توحيه وتحمله في طيّاتها، أحدق بها ولا أشبع، فتنحدر دمعة تزيديني اختناقا، تجرّدني من أقنعتي، ومن محاولاتي الكثيرة بالتجاهل.
كم تشبه صورة منزلنا العتيق فتلمس الجرح الذي لم يلتئم بعد، موعزة إلى نفسي ومعلنة لي كم أنا جائعة وعطشى إلى تراب قريتي، وكم نفسي رازحة تحت نير الوجع الصامت، وأنا أجلس على قارعة الغربة، أتعكّز على طيف الأمل.
كم أشتهى رائحة الكروم، وغبار الأزقّة المتعرّجة، وجنون الليل، وبساط النجوم، ففي الغربة الإنسان مبتور من أرضه، يسير على غير هدى.
كم نحن مدينون لذاكرتنا، تختزن الفرح والحزن، معبّأة بنا، حيث ولدنا.
أيّها الوطنُ المنفى
أيّها المنفى الوطن
أمضي في جنوني
يتعثّر خطوي
يقضمُهُ الزّمنُ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-