الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أُغتيلَ وطن وصفي

ازهر عبدالله طوالبه

2020 / 11 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


كأُردنيين افترستّهُم أنيابُ السّاسة الذين يتجوّلونَ في باحات السياسة وهُم دُخلاء، رُميوا علينا بالبارشوت الهارفرّدي، وهُم لا يعرفونَ حُدود الوطن التي تمتَد مِن عقربا إلى العقبة، ولا يميّزونَ بينَ القمح والشّعير، ولا يعرفونَ ما معنى أن تكونَ مواطنًا يتلوّع في ويلاته وهو يسكُن في الأطراف المهضومة حقوقيّا . دُخلاء تحتَ قوائم الحداثة، والمُنظمات الدولية، وهُم ليس لديهم أدنى مقوّماتها، ولا يملكونَ مِن أساسيات السياسية، وقواعِد الفكرِ السياسي، ما يُتيح لهُم التجوّل في مثلِ هذه الباحات، وما يجعلهم يقومونَ على تشّيدِ طوابق مِن الأنظمة السياسية الصحيّة التي تصّلُح لكُلّ زمانٍ ولكُلّ قيادة .. كأُردنيين، ها نحنُ نعيش في يومٍ عصيب آخر، يومٌ لا يختلِف عن أيّامنا التقليديّة التي نعيشها منذ بدايةِ العَقد الأخير مِن القرنِ الماضي إلى يومنا هذا، بأحوالٍ وأوضاعٍ كُلّها قتامة، تتلذّذ عليها سيوف الضُّعف والإهانة، سواء أكانَ ذلك على الأصعدة المحليّة أو العربيّة وحتى الإقليميّة، وإن حدثَ واختلفَت هذه الأيّام عن بعضها، فبالطبع، لن يكونَ هذا الإختلاف إلّا للأسوأ والأتعَس دائمًا . هذا اليَوم، هو اليوم الذي قطّعت بهِ شراييننا، ولُففّنا في كفنٍ لا ندري إن كانَ لهُ لون أم لا.. يومٌ انتقلَت به أنفاسنا، أو ما تبقّى منها، مِن فوق الأرض إلى ما تحت الأرض، بعد أن أُغتيلَ بهِ وطنٌ كانَ لا يعرِف الحُدود، ويؤمِن بأنّ لا طبقاتَ تُفرّق بينَ أبنائه، ولا إمتيازات يحصلُ عليها مواطِن دونَ سِواه مِن المواطنين.. وطنٌ كانَ مؤمنًا، إيمانًا مُطلقًا، لا تُساورهُ شكوك، بأنّهُ لم ولن يكونَ في يومٍ من الأيّام، سوى أب لكُلّ مَن سكنَ في أحضانِه .

أتعلمونَ مَن هو هذا الوطَن الذي أُغتيل ؟! أعلَم، أنّكُم تعلمون، فليسَ مِن المعقول إيمانيّا، بأن يُغتالَ وطنكَ الأقرَب لقلبكَ، ولحواسكَ، ولفكركَ، ولكُلّ ما يربط الوطن بمواطنيه، وتعجَز عن إيجادِ وطنٍ آخر، لا يُضاهيهِ في كُلّ ما فيه، بل حتى تعجَز عن إيجاد ما يشّبههُ في شيءٍ ممّا كانَ فيه، على أقلّ تقدير، ولا يسوقكَ هذا العجَز إلى أن تذّرفَ دمًا وليسَ دمعًا على ما اُغتيل . فبعد أن تمّ اغتاليه، أصبحتَ مسجًّا على قارعة دويلات لا جُغرافيا ولا ديمغرافيا لها، ولَم تكُن على وجهِ الأرض حينما أُغتيلَ وطنك أصلًا.. دويلات تتقاذفكَ سياساتها كيفما شاءت، بعد أن كانَ وطنكَ هذا قائدًا لمشروعٍ عربيّ، يمتَد مِن المُحيط إلى الخليج، ويحمِل قضايا أمّته بين تلابيب عقّله، ويوليها إهتمامًا، لَم يوليه لها أحدٌ مِن قبله، كيف لا وهو الذي طلبَ الشّهادة مرّات ومرّات دفاعًا عن قضيّة الأمّة الأولى والأخيرة، مَن كان يرفُض أن تسير السياسية على سياسات شرقيّة غربيّة تفريقيّة، وكان يُبدِّد كُلّ شكّ يسعى لزراعة التفرقة بين شرقيّ الوطن وغربه .

والله، أنّ أسلحة الخوف والخيانة تُحاصرني، كلّما أردتُ أن أقولَ، بأنّهُ وصفي لوحده مَن أُغتيل، دونَ أن أقولَ " وطنُ وصفي الذي أُغتيل" . فنحنُ الوطنيّون، ما عُدنا نطيق فكرَة أن يكونَ هُناك وطن لا يحترمنا، ولا يولينا أيّ اهتمام، ونكفُر بكُلّ وطنٍ يحاول أن يشكّل نفسهُ مِن جديد، دون أن يكونَ " وطن وصفي" رمزًا سماويّا لهُ، ومُقدّسًا عندهُ، كما يقدّسون الصوفيّون شيوخهم، بل أكثر .

وصفي الذي أُغتيلَ بدعمٍ مِن مصر الناصريّة، والزعامات اليهوديّ ؛ لَم يكُن شخصًا واحدًا، يمثّل نفسهُ، ولم يكُن يمثّل حتى آل التّل الذي ينتَمي إليهم في العُرف العشائري، بل كان وطنًا بأكمَله، تمتدّ ذراعهُ مِن أخمصِ الوطن إلى أعلى رأسه . كان صاحب نظرةٍ سياسية اقتصاديّة مُشتركة، لا تسّعى إلّا لرفعةِ الوطن الذي كانَ ينتمي إليهِ بقلبهِ وبعقلهِ وبكُلّ ما كان يملِك .

فلو حقّ لي أن أطلُبَ طلبًا واحدًا مِن الله، في هذه الأيام، فحتمًا، لَن يكونَ طلبي هذا، إلّا أن أرجوهُ رجاءً نبويّ، ليُعيدكَ لنا ولو لمئةِ يومٍ فقط ؛ وذلك كي ترى بأمّ عينيكَ بأنّ الوطن قَد أُغتيلَ بطائرةٍ معطوبة، وهذا ما يشترِك معكَ في طريقةِ اغتيالكَ البشِعة، ومِن ثمَّ تعمَل بعد ذلك، على أن تُعيدَ لنا ولو القليل مِن الوطن الذي كُنتَ تُريدهُ أن يحتَضنا .

يا سيّدي، ها هي ذكرى استشهادكَ تطلُّ علينا، وأحوالنا بعد أن فقدّناك، لا تجِد مَن يعبرَ بها إلى برِّ الأمان، ومَن يُركبها طائرات التّحليق في سماء السياسية والإقتصاد كما كُنت تفّعل أنتِ . نحنُ اليوم، لا أملَ لنا بشيء، فمكتب الرئيس في الرّابع، بعد أن صعدَت روحكَ إلى السّماء، قَد بُتِرَت أقدامهُ، وطوِّق عُنقهُ بسلاسلٍ حديديّة، لا يجرؤ أحَد على كسّرها . لذلكَ، ها نحنُ اليوم، نُحي ذكرى استشهادكَ ؛ كي نُرمّمَ فجوة رحيلكَ، ونعيش على أملٍ - ولو كانَ مِن عالم الخيال- بأنّكَ في يومٍ من الأيام ستُبعث بيننا مِن جديد، وتبقى في حياتنا إلى ما لا نهاية .

نحنُ لَم نعُد أبناءُ الأرض، ولا أحفادُ القمِح، ولا جنود الماء في هذه البلاد، ولا حُرّاس الكرامة، ولا لاعبو السياسية بكُلّ ما فيها مِن شرَف، وجهابِذة الأخلاق..
نحنُ المُهمّشون الذين تجمّدت أبصارهم، ويُتِّمَت بصيرتهم، وبُتِرَت أحلامهم، ودُفِنت آمالهم على جناحِ الطّائرة الملعونة التي قتلَت وطنهم..
نحُن فريقٌ من التّائهين والحُيارى، والجوعى لوطنٍ يحتضننا، والعطشى لكرامةٍ فقدتّنا وفقدّناها..
نحنُ أصبحنا كُلّ هذا، بل أكثر وأقسى من ذلك، بعد أن فقدّنا وطننا الوصفيّ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة