الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حقوق الإنسان والحريات والتمويل الأجنبي

محمد حسن خليل

2020 / 11 / 28
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


جاءت القضية الأخيرة بإلقاء القبض على جاسر عبد الرازق وآخرين، مع الاستنكار والمطالبة بالإفراج عنهم من قبل مختلف القوى الديمقراطية في مصر وفى الخارج، والتي شملت حتى الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية، لكي تفتح مجددا عددا من القضايا الهامة حول العمل الأهلي وحريته، وقضية التمويل الأجنبي بما فيها بعديّ الأجندة الأجنبية، والتي تصل أحيانا إلى حد الاتهام بالعمالة، وكذلك التهم بالتربح والفساد. لهذا من المهم تقديم قراءة متأنية في تلك القضايا وتوضيح الموقف المبدئي والديمقراطي منها.
بدأت القضية الأخيرة تحديدا عندما ألقى جاسر عبد الرازق تقريرا عن الحالة الصحية للمسجونين في مصر أعدتها المنظمة المصرية للدفاع عن الحقوق الشخصية، وهي منظمة أهلية تتخذ شكل الشركة المدنية، وتأسست وتعمل في مصر منذ نحو خمسة عشر عاما. وكان اللقاء بحضور عدد من السفراء الأجانب. وتلا هذا إلقاء القبض على جاسر وزملاء له من أعضاء المنظمة المذكورة، والتشهير بهم في الصحافة والإعلام، مع كيل الاتهامات لهم، والتي تبدأ بمخالفة قانون العمل الأهلي بالعمل في هذا المجال دون الترخيص من قِبَل وزارة الشئون الاجتماعية لهم بذلك، وتمتد بالإشارة للتمويل الأجنبي، ولا تنتهي بتهم الانضمام لجماعة إرهابية!
نبدأ بالقضية الأكثر إثارة للجدل وهي قضية التمويل الأجنبي والخضوع لأجندة الممول في الغرب. هل هناك تمويل أجنبي مشبوه؟ بالقطع هناك تمويلات مشبوهة وأجندات أجنبية، ولكن هل كل ما هو أجنبي مشبوه؟ وهل كل ما هو محلى غير مشبوه؟!
في الواقع إن التمويل الأجنبي لمن يعرف خباياه هو واضح تماما لأنه يأتي من جهات متنوعة على وجه الحصر: فهناك منظمات أجنبية تمثل واجهة لأجهزة مخابرات أجنبية، وهناك تمويل من المنظمات التابعة للأحزاب الديمقراطية المسيحية اليمينية، وكذلك تمويل من منظمات تابعة لأحزاب "اشتراكية ديمقراطية" كما تسمى، وكذلك لأحزاب الخضر والمدافعين عن البيئة. وبالإضافة إلى ذلك هناك تمويل للعمل الأهلى من منظمات دولية مثل المنظمات التنموية للأمم المتحدة مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف منظمة العفو الدولية ومنظمة العمل الدولية وغيرها. كما أن هناك تمويل من منظمات أجنبية تقدمية معادية للعولمة الرأسمالية المتوحشة ومؤيدة للقضية الفلسطينية.
جميع تلك المنظمات تمول العمل الأهلي في بلدان كثيرة. أما العمل الأهلي فهو قديم جدا وذو تاريخ طويل يستند أساسا إلى التضامن الإنساني وبدأ بالعمل الخيري بالذات المرتبط بالعمل الديني الإسلامي والمسيحي وغيره، وأساسه المساعدات الإنسانية للفقراء والمحتاجين، ولضحايا الحروب والكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات، وكذلك المجاعات وغيرها. وتطور العمل الخيري إلى العمل الخدمي الذي طور خدمات الإغاثة والإعانات إلى العمل المؤسسي بإنشاء مؤسسات خدمية مثل المستشفيات الخيرية والمؤسسات التعليمية وغيرها من مؤسسات المساعدات الاجتماعية المختلفة.
وكانت الخطوة الثالثة في تطور العمل الأهلي هي العمل التنموي الذي لا يقتصر على تقديم المساعدات سواء المادية أو الخدمية المؤسساتية ولكنه يتخطاها إلى تنمية وتمكين المحتاجين وفقا لنظرية "بدلا من أن تعطني سمكاً أعطني سنارة وعلمني الصيد! إن ولوج مجال العمل التنموي يشمل تطوير وعى وإمكانيات الجماهير وتنظيمها من أجل الدفاع عن حقوقها وتحقيق مصالحها بتنظيم جهود ومبادرات المجتمع سواء في مجالات التعليم والصحة أو في مجالات الدفاع عن حرية التعبير والحريات، أو بالانتصار للحقوق الإنسانية بالذات للفئات الضعيفة والمهمشة مثل النساء والأقليات والأطفال وكبار السن والمعاقين وغيرهم.
ولعل أمثلة ملموسة توضح مثل ذلك النوع من العمل. فالمنظمة الإنجليزية التي تدعى أوكسفام إنترناشيونال هي منظمة بدأت خيرية وخدمية أثناء الحرب العالمية الثانية واسمها مشتق من لفظتين هما أوكسفورد ومجاعة، أي منظمة جامعة أوكسفورد لمكافحة المجاعة وضحايا الحروب. وتطورت تلك المنظمة إلى منظمة تنموية، مما يذكر من أفضل أعمالها بالنسبة إلينا هو دعمها الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987- 1991) عن طريق مساعدة وتمكين الفلسطينيين في الضفة الغربية من مقاومة الحصار الإسرائيلي الذي شمل حظر الغذاء عن طريق تطوير الزراعة المنزلية للخضر وغيرها للمساهمة في التغلب على الحصار.
كان صعود العولمة منذ بداية عقد التسعينات من القرن العشرين كارثة على البشرية، حيث انتشرت نتيجة للسياسات العولمية الليبرالية الجديدة آثار وخيمة على زيادة معدلات الفقر وتدهور الخدمات الاجتماعية وتزايد التمايز في الدخول بين الدول وداخل كل دولة سواء في الدول الفقيرة أوالمتقدمة معا. وكان لابد وأن يشكل ذلك امتحانا وتحديا أمام منظمات العمل الأهلي في العالم كله. ولهذا نشأ تحالف عالمي من إحدى عشرة منظمة سُمىّ أوكسفام انترناشيونال بين منظمات أوكسفام بريطانيا وكندا وأستراليا ومنظمة نوفب الهولندية وغيرها. تميز هذا التحالف بمعارضته لسياسات البنك الدولي ومؤسسات التمويل الدولية ورفض العولمة الرأسمالية المعسكرة المتوحشة.
وبالطبع نذكر كلنا الحملة الضخمة التي شنتها منظمة أوكسفام وتقاريرها المشهورة وتشهيرها بتطور عدم المساواة وتملك وسيطرة عشرات الأفراد على نصف ثروة العالم وزيادة معدلات الفقر، ومتابعة تطورات تلك الإحصائيات سنويا، مع اتهام سياسات العولمة الليبرالية ومؤسسات التمويل الدولية بالمسئولية عنها.
بالطبع أدت تلك الخريطة للمنظمات الأهلية الدولية إلى أن تدعم كل منها السياسات التي تدعو لها في عالمنا النامي وبلادنا من بينها. وهكذا فالمسألة ليس هناك ما يسمى الأجندة الأجنبية الموحدة بل هناك أجندات يمينية استعمارية كما أن هناك أجندات تنحاز للإنسان وحقه في الحياة والصحة والتعليم وفى بيئة صحية ومستدامة وفى حق العمل المستقر بأجر عادل وفى الأمان من الفقر. ونحن مع التضامن الإنساني المحلى والعالمي حول القضايا العادلة، وضد ممثلي المستغلين وأعداء الإنسان في كل من الداخل والخارج.
أما بخصوص علاقة التمويل الأجنبي بالتربح والفساد فنحن نرى بالطبع أن هناك في كل مجال فاسدون ومتربحون، ولكن وصم جميع من يتعاملون مع التمويل الأجنبي بأنهم متكسبون ومتربحون هو أيضا تعميم خاطئ مثل تعميم تخوين كل متعاونين مع جهات أجنبية. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة تواصلت حملة الحكومة وإعلامها على فساد وتربح المنظمات الممولة، مبررة به رفضها لحرية العمل الأهلي وإصرارها على قوانين مقيدة له.
في عام 1994 كان هناك رد هام لتجمع كبير من مختلف منظمات العمل الأهلي على الحكومة، فقد اعترفت المنظمات ضمنا بوجود متربحين، وعزت ذلك إلى غياب الرقابة الكافية من الداخل بسبب ضعف الحركة الجماهيرية، أو من الخارج البعيد. ولكنها مع رفضها لقوانين تقيد العمل الأهلي اقترحت آلية ديمقراطية لمقاومة الفساد تتمثل في الشفافية وإعلان كل منظمة عن ميزانيتها والتمويل الذى أخذته وأوجه صرفه، ومقدار مرتباتها التي يجب أن تكون في حدود المعقول.
وإذا نظرنا إلى منظمات العمل الأهلي خلال العقود الأربعة الأخيرة نستطيع بمجرد النظر التمييز بين المنظمات المتربحة الفاسدة وبين المنظمات المحترمة. لا يقتصر التمييز فقط على عدالة التوجهات والقضايا التي تدافع عنها، ولكن أيضا لأن بعض المنظمات برز فيها من بين قياداتها من كان ليس له أي مصدر للثروة فأصبح بالغ الثراء واقتنى الشقق بل والشاليهات! وفى مواجهة ذلك هناك منظمات كثيرة ديمقراطية وتقدمية أدت رسالات هامة في مجالات الصحة والتعليم وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والعمال وغيرهم، ولم تظهر على أعضائها أعراض الثراء!
والعجيب والغريب أن دعاوى الأجندة الأجنبية والتربح لا تنطلق إلا إذا تعرضت الجمعيات إلى حقوق الإنسان أو معارضة قوانين حكومية رجعية في مجالات الصحة والتعليم وحقوق المواطنين. أما في غير ذلك فالحكومة نفسها لا تعيش إلا بالتمويل الأجنبي الذى جعلنا مديونون حتى شعورنا، كما أن منظمات رجال الأعمال المصرية الأمريكية، والجمعيات شبه الحكومية التي تغترف من التمويل الأجنبي فيصبح التمويل الأجنبي وقتها شهدا وحقا لهم!
وأثمر نضال منظمات العمل الأهلي المطالب بحريته وديمقراطيته عن إقرار الدستور المصري بحرية العمل الأهلي وإنشاء المنظمات الأهلية بمجرد الإخطار. ولكن الحكومات المتعاقبة التفت على هذا عن طريق تحويله إلى إخطار "يستلزم" موافقة الحكومة عليه! كما أصرت على إصدار القوانين المتعاقبة التي تنتقص باستمرار من هامش الحرية المتاحة للعمل الأهلي بالتدخل في تحديد أهدافه وأغراضه ولوائحه الداخلية، بل وإعطاء السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة الشئون الاجتماعية السلطة المطلقة على الجمعيات التي تصل إلى حل مجالس إدارتها أو حل الجمعية!
نظرا للقيود المتوارثة على عمل الجمعيات الأهلية لجأ العاملون بالعمل الأهلي إلى اتخاذ الشكل القانوني كشركة غير ربحية. وعندما حاولت الحكومة محاصرتهم وادعت أن كل الشركات يجب أن تكون ربحية، وأن أي شركة تقيد كشركة غير ربحية تعتبر منظمة أهلية متسترة لمخالفة قانون الجمعيات الجائر وتنال عقوبات إلى حد السجن. وفى مواجهة ذلك اضطرت تلك المنظمات إلى التحول إلى شركات ربحية وتدفع ضرائب عن أنشطتها الاجتماعية!
بالطبع أساس القضية ليس هو حق تأسيس الشركات سواء الربحية أو غير الربحية (رغم أنه حق معترف به في العالم) ولكنها في رفض القوانين والأوضاع غير الديمقراطية التي تقيد بها الحكومة العمل الأهلي. العمل الأهلي هو بعد هام من أبعاد الممارسة الديمقراطية، فجوهر الديمقراطية هو تفعيل المواطن ومشاركته في تسيير حياته. نحن ندعو إلى تحرير العمل الأهلي من قيود قانون العمل الأهلي الجائر الحالي، وأن يقتصر قانون العمل الأهلي على مادتين تنصان على حق تأسيس المنظمات الأهلية بالإخطار وحريتها في ممارسة أنشطتها في الحدود المعروفة بالشفافية والديمقراطية، على ألا تكون مسلحة أو تنزع للسرية.
بالطبع ليس هذا دعوة لممارسة العمل الأهلي بدون قيود أو رقابة، ولكن هناك رقابة لكل من الدولة والمواطنين من خلال القوانين المختلفة من أول القوانين التي تخص أمن الدولة إذا مسَّت أي منظمة به وحتى القانون المدني والجنائي الذي يحكم سلوك الأفراد والكيانات. ونحن ندعو أيضا إلى تعزيز الرقابة الديمقراطية للمواطنين على العمل الأهلي. وتتمثل ضمانات الرقابة الديمقراطية في أهمية التأكيد على الشفافية ونشر منظمات العمل الأهلي لتقارير أنشطتها وميزانياتها على جمهورها وعلى الجميع من خلال البيانات أو الصحف أو المواقع الإلكترونية لكي تمكن المواطنين (والحكومة أيضا) من فضح ومتابعة كل فساد في الأغراض أو التربح.
وفى القضية المثارة حاليا نطالب بالإفراج الفوري عن جاسر عبد الرازق وزملائه حيث إن كل ما فعله هو ممارسة حقه الديمقراطي في قضية عادلة بتقديم دراسة عن الأوضاع الصحية للمساجين، وعلنا وأمام الجميع. ونحذر الحكومة من أن ممارسة التضييق المتواصل على حريات التعبير السلمي لا يصب إلا في تأزيم الوضع الاجتماعي ويعطى منافذ لنمو الرفض المعتمد على الإرهاب!
28/11/2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام