الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأنتفاضات العربية ودروس انتفاضة تشيلي

رضي السماك

2020 / 11 / 29
مواضيع وابحاث سياسية


في تشرين الثاني من العام 2019 ، وبعد مرور تسع سنوات على ثورات الربيع العربي التي تمكنت الأنظمة العربية - بمجملها تقريباً - وما تلاها من انتفاضة للشعب الجزائري ما زالت مستمرة ؛ واخرى للشعب السوداني في ديسمبر / كانون الأول 2018 تتوجت في صيف 2019 بانتصار جزئي سرعان ما أجهز عليه جنرالات الدكتاتور المخلوع عمر البشير الذين نكثوا بعهدهم مع قواها عبر تحالفهم مع القوى الرجعية المدنية ، شهد العالم العربي بعدئذ تفجر انتفاضتين شعبيتين مباركتين متزامنتين في العراق ولبنان ؛ ومازالت موجاتهما تتوالى أيضاً بين حين وآخر ، رغم القمع الوحشي البوليسي - وبخاصة في العراق - ورغم ما يمر به العالم من وباء كورونا الفتّاك . وبالتزامن مع انطلاقة هاتين الانتفاضتين العربيتين تفجرت في تشيلي بأميركا اللاتينية انتفاضة شعبية مظفرة أتت اُكلها السياسية الأولية بعد عام كامل من تفجرها في خريف 2019 ، وتمثل ذلك في الانتصار الذي حققه الشعب تشيلي بقيادة قواه الوطنية والديمقراطية في استفتاء اكتوبر / تشرين الأول الماضي حيث صوتت الغالبية العظمى من الناخبين بنسبة 78 % مع إلغاء الدستور الموروث من عهد الدكتاتور الراحل أوغستو بينوشيه ومن أجل سن دستور عقدي جديد . ولم يكن هذا الانتصار بطبيعة الحال مفروشاً بالورود ؛ بل جاء ثمرة طريق طويل مغمس بالدم لنضالات 47عاماً ( 1973 - 2020 ) خاضها الشعب التشيلي بجسارة وقدم خلالها تضحيات هائلة تتوجت بتلك الانتفاضة التشرينيةالمظفرة .
لا أحد من الشعب الأميركي يجهل ماذا يعني 11 سبتمبر / أيلول عام 2001 في تاريخ بلاده ، لكن قلة منهم من يعرف ماذا يعني 11 سبتمبر / أيلول من عام 1973 في تاريخ الشعب التشيلي ؛ باعتباره اليوم الذي دشن فيه الدكتاتور أوغستو بينوشيه بانقلابه العسكري على الرئيس المنتخب سلفادور أليندي مذابحه الشنيعة بحق خيرة أبناء شعب تشيلي البررة بتخطيط ودعم مباشر من وكالة المخابرات الأميركية CIA . ولم تقتصر معطيات أرقام الضحايا على مصادر قوى اليسار في تشيلي فحسب ، فقد أدلت قوى أخرى بدلوها ؛ وعلى سبيل المثال فقد قدّر غينارو آرياغادا ( الحزب الديمقراطي المسيحي ) عدد الذين زجوا في المعتقلات خلال الأشهر الأولى من الانقلاب بأكثر من 40 ألف معتقلاً ، أما من جرىعدامهم وقتلهم وتغييبهم دون معرفة مصيرهم فقد بلغوا أكثر من ثلاثة مواطن آلاف مواطن .
ورغم مرور 30 عاماً على سقوط ذلك النظام الفاشي في 1990 ، فإن ميراثه القمعي ظل حاضراً لما يتبدد بعد ؛ وظهر ذلك فيما أرتكبته قوات الشرطة بحق المنتفضين السلميين من جرائم لا تقل فظاعةً عما أرتكبه أسلافها في عهد الدكتاتور المدحور ؛ فنحو ألف وخمسمائة شاب وشابة جرى اعتقالهم خلال الانتفاضة التي كان مركزها ساحة ايطاليا ، وأكثر من 30 مواطناً سقطوا شهداء ، فيما فُقأت أعين المئات ، حتى أن تقريراً أخبارياً موضوعياً لقناة فرانس 24 اُطلق عليها " الثورة المفقؤة " ، وبضمن من فقأت أعينهم مراسلون ومصورون صحفيون ذكوراً وأناثاً . ومثلما كان الأرث الدكتاتوري من القمع حاضراً في أساليب اخماد الانتفاضة ؛ فإن الرموز الوطنية من ضحايا انقلاب بينوشيه كانت حاضرة أيضاً لم تغب من ذاكرة الشعب ، حيث جرى تخليدها في فعاليات الانتفاضة نفسها ، إذ كان الثوار المنتفضون يتجمعون بالقرب من قصر الرئاسة وهم يهتفون " اليندي حاضراً خالداً لم يمت " ، كما تجمعوا أمام الملعب الذي عُذّب فيه حتى الموت فنان تشيلي الوطني الكبير المغني فيكتور جارا . وكانت الحركة النسوية المطالبة بالمساواة وملاحقة رجال الشرطة المغتصبين حاضرة خلال الانتفاضة متحدية فقأ العيون والملاحقة ، وكذلك الحركات الطلابية والعمالية .
على أن أول تجربة للحكم الاشتراكي في العالم الثالث عن طريق النضال السلمي الديمقراطي والتي لم تدم أكثر من ثلاث سنوات ترتبت عليها دروس عظيمة ، لعل أبرزها مسألة مدى جدوى النضال السلمي بالمطلق في ظل الانظمة الاستبدادية أو شبه الديمقراطية ، وطرحت هذه القضية على بساط البحث بالترافق مع بروز وصعود موجة اليسار العالمي الجديد أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات ؛ حيث كان هذا اليسار لا يؤمن إلا بالكفاح المسلح وحده وسيلة للتغيير والثورة ؛ بغض النظر عن مدى توافر الشروط الموضوعية الملموسة لاعتماد هذه الوسيلة ؛ كمدى توافر تصاريس وجغرافية سياسية مواتية ، ناهيك عن مدى الظروف الذاتية ؛ ومدى أيضاً تحقيق أوسع أئتلاف من قوى من المعارضة الثورية ووحدتها حول تلك الوسيلة ، فضلاً عن مدى توفر الحاضنة الشعبية لتلك الوسيلة . وزاد من تعقيد سجال اليسار العالمي بان قيادة الثورة الكوبية كانت في الغالب مع هذا التوجه حينذاك ، وليس خافياً من الدلالة في هذا الصدد البندقية التي أهداها الثائر الكبير في قيادة الثورة تشي جيفارا إلى الرئيس أليندي والتي دافع بها خلال قصف وحصار قصر الرئاسة ، وقيل بأنه استخدمها في اللحظات الأخيرة بإطلاق النار على نفسه كي لا يقع أسيراً في أيدي الانقلابيين .
كما جرت أيضاً سجالات فكرية بين مدارس اليسار والفكر الاشتراكي العالمي على صفحات المجلات النظرية وفي اللقاءات والندوات العلمية حول جدوى النضال السلمي للوصول إلى السلطة وبناء الاشتراكية في البلدان التي تتبنى أحزابها وقواها اليسارية هذه الطريق مع وجود أنظمة شبه ديمقراطية لا تتورع طغمة عسكرية فيها عن الدوس على الدستور واُسس النظام الديمقراطي فيها كما جرى في تشيلي ؛ ودون توفر آليات راسخة مكينة قادرة على أحباط أي محاولات انقلابية على السلطة المنتخبة ، وكذلك مدى قدرة القوى اليسارية التي وصلت للسلطة عبر الانتخاب على الاحتفاظ بها في ظل عدم تمكنها من هدم جهاز الدولة الدكتاتوري القديم وبنائه على اسس ديمقراطية من جديد ، وإن كان هذا لا يتحقق في أحسن الأحوال -افتراضاً- إلا في ظل سلطة برجوازية قطع نظامها السياسي شوطاً كبيراً من التطور والممارسة الديمقراطيتين على غرار الأنظمة الديمقراطية الغربية والتي تمكن اليسار فيها من الوصول إلى السلطة وفق تداولها الانتخابي الدستوري ، كما في فرنسا وايطاليا على سبيل المثال ، وذلك في إطار تحالفات جبهوية مع قوى اشتراكية . وفي تقديرنا هذا هو بالضبط التحدي الذي تواجهه الآن قوى المعارضة الوطنية والديمقراطية في تشيلي ، ولعل هذه المهمة هي على رأس أولويات ممثلي هذه القوى في المجلس التأسيسي المنتخب لسن دستور ديمقراطي عصري جديد يسمح على الأقل بتطهير ما يمكن تطهيره من مواريث القمع في الشرطة والسلطة التنفيذية عامة ، ويؤسس لسلطتين قضائية وتشريعية مستقلتين . وسواء أمكن لقوى المعارضة الديمقراطية تحقيق ذلك جزئياً أم كلياً ؛ فإن هذه المسألة ستصبح لا مندوحة من الدروس للانتفاضات الحالية والمستقبلية العربية في ضوء الحصاد المر المؤلم الذي جنته انتفاضات وثورات التغيير التي جرت خلال عقدنا الراهن الموشك على الانتهاء .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ينهي الرد المنسوب لإسرائيل في إيران خطر المواجهة الشاملة؟


.. ما الرسائل التي أرادت إسرائيل توجيهها من خلال هجومها على إير




.. بين -الصبر الإستراتيجي- و-الردع المباشر-.. هل ترد إيران على


.. دائرة التصعيد تتسع.. ضربة إسرائيلية داخل إيران -رداً على الر




.. مراسل الجزيرة: الشرطة الفرنسية تفرض طوقا أمنيا في محيط القنص