الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل السلطة السياسية أولوية؟

راتب شعبو

2020 / 12 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


بينت الثورات العربية التي وسمت العشرية الثانية من هذا القرن، أن القوة التي تستطيع القوى الديموقراطية حشدها لتحقيق مطالبها، هزيلة قياساً على القوة المواجهة التي في حوزة الأنظمة القمعية. وبينت أن تماسك القوى المطالبة بالديموقراطية أضعف من تماسك الطغمة الحاكة والقوى المحافظة. المسافة واسعة بين قدرة الأنظمة السياسية القمعية على الدفاع عن نفسها، وقدرة المطلب الديموقراطي على تحدي هذه الأنظمة وتغييرها.
لا يضمر المجتمع اليوم آليات تدفع به نحو نشوء نظام حكم ديموقراطي، ذلك أن المطلب الديموقراطي اليوم ليس مطلباً لطبقة اجتماعية تنمو وتتزايد أهميتها في عملية الانتاج، كما صادف أن أنتج التاريخ في أوروبا مثل هذه الطبقة مع ما يعرف باسم الثورة الصناعية.
صحيح أن الأنظمة القمعية تولد كل أسباب الثورة في المجتمع، ويمكن أن تندلع الثورة من شرارة صغيرة، ويمكن أن تمتلئ الشوارع بآلاف المتظاهرين المحتجين، وأن تمتلئ الساحات بآلاف المعتصمين، ولكن هذا لم يهدد تماسك الطغمة التي تستعمر الدولة وتستخدم كل أجهزتها في وجه المنتفضين. مثلاً، كيف يمكن لاعتصام، مهما بلغ حجمه، أن يفرض تغييراً على نظام سياسي يسيطر على أجهزة القوة في الدولة، وجاهز لإبادة المعتصمين، كما شهدنا في مصر (اعتصام ميداني رابعة العدوية والنهضة) وسورية (اعتصام ساحة الساعة في حمص) والسودان (اعتصام القيادة العامة)؟ كذا الحال فيما يخص المظاهرات وحتى الاضرابات وإغلاق الأسواق.
تحت ضغط هذا الفارق الكبير في القوة، يجد الحراك الديموقراطي نفسه أمام أحد مصيرين، إما القبول بالهزيمة وما يستتبعها من حملة تطهير وحشية تقودها أجهزة الدولة بعد أن برز أعداء النظام على السطح بفعل الحراك. أو تصعيد المواجهة باتجاه عسكري وهو ما انتهى أيضاً إلى هزيمة المطلب الديموقراطي.
لا يكمن خطر الاتجاه العسكري في الخسائر البشرية والمادية وفي عواقبه على المجتمع، إذ يمكن اعتبار الخسائر ضريبة لا بد منها للتغيير المنشود. خطر الاتجاه العسكري هو أنه يتحقق على حساب المطلب الديموقراطي نفسه، ليس فقط لأن متطلبات المواجهة العسكرية تهمش أو حتى تخنق البعد الديموقراطي، وفق المبدأ الديكتاتوري الشهير "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، الذي يجعل القادة العسكريين "للثورة" أمراء غير منازعين لهم سجون ومخبرين وفرق موت. بل، والأهم من ذلك، لأن المواجهة العسكرية تتطلب عصبية أو تماسكاً عصبوياً لا يوفره المطلب الديموقراطي، بل توفره العصبيات المكرّسة أكانت قومية أو دينية أو طائفية. هذا فضلاً عن المتطلبات اللوجستية للخيار العسكري، وهو ما يجعل من هذا الخيار نافذة مفتوحة للتأثيرات الخارجية غير الديموقراطية، ليس فقط لأن التدخل الخارجي يتحرك وفق مصلحة خارجية ويربط الصراع الداخلي بعجلة صراعات أوسع لا علاقة لها بمبدأ الصراع الداخلي، بل أيضاً لأن التدخل الخارجي يبعد الناس عن الفاعلية المباشرة في الصراع ويحصر الفاعلية في يد نخبة محلية تشكل مفصلاً لمصالح الخارج. المحصلة التي ينتهي إليها الخيار العسكري إذن هي تقويض أسس المطلب الديموقراطي، سواء حافظ العسكريون على لغة ديموقراطية أم لا.
يبدو لنا أن القوة القادرة على تهديد تماسك النظام القمعي المتأصل في المجتمع، هي قوة مشابهة للنظام في آليات عمله، من حيث المركزية الشديدة والاستناد إلى عصبيات عضوية غير سياسية، والاستناد إلى خارج يمدها بالدعم مقابل أن تكون محلاً لتلبية مصالحه. هذا النمط من القوى شهدناه في سورية واليمن وليبيا، وهي في مجملها قوى معادية للديموقراطية ضمناً أو صراحة.
على هذا يبدو أن سبيل المطلب الديموقراطي مغلق، وإن كان هذا المطلب هو المحرك العميق للحراكات الثورية في هذه البلدان. لهذا الاستنتاج المحبط انعكاس ملموس على واقع الحركة الديموقراطية في سورية، على سبيل المثال. معضلة المطلب الديموقراطي ليست غائبة عن وعي الديموقراطيين السوريين، نقصد الفئة من السوريين الذين لا يتماهون مع أي من أطراف الصراع العسكري الذي اكتملت دائرة عناصره منذ ما يقارب سبع سنوات في سورية. يدخل هذا الإدراك المحبِط في تفسير ضعف حال الديموقراطيين السوريين في الواقع السياسي السوري، الضعف الذي يتجلى في تشتتهم إلى عشرات وربما مئات التشكيلات السياسية ذات الفاعلية المعدومة تقريباً، وعجزهم عن تجميع أنفسهم في قوة مرئية وفاعلة. يذهب هذا القول إلى التفسير أكثر مما يذهب إلى لوم هؤلاء الديموقراطيين الذين تملأ اللاجدوى ساحة إدراكهم: السبيل السياسي مغلق بحاجز عسكري متوحش، والسبيل العسكري يمر على جثة المطلب الديموقراطي.
المعنى الوحيد الذي يجده هؤلاء الديموقراطيون في إبقاء جذوة نضالهم متقدة هو أن يكونوا جزءاً من حل يدركون سلفاً أنه لن يكون من صنعهم. أن يكونوا موجودين حين يبحث عنهم أصحاب الكلمة ومهندسو الحل الممكن. ويدرك الديموقراطيون السوريون، للمزيد من البؤس، أنه لن يكون لهم، كتيار وكخيار سياسي وليس كأفراد، وزناً مهماً في أي حل قادم. الأفراد الذين سيكون لهم وزناً في الحل المقبل هم الأفراد الأكثر استعداداً للتخلي عن التيار الديموقراطي لصالح تكريس استبداد جديد ينطوي على توزيع معدل للسلطات.
ما سبق يدفعنا إلى القول إن الإفراط في التركيز على السلطة السياسية كمقدمة للتغيير الديموقراطي، قاد ويقود إلى عزل الناس عن قضاياهم المباشرة، دون تحقيق أي تقدم ديموقراطي على مدى عقود مديدة. معضلة كسر احتكار السلطة وتحرير الدولة من قبضة الطغمات الحاكمة، تدفع إلى التفكير مجدداً بسبيل بناء الديموقراطية من القاعدة، دون الاكتفاء بالنضال السياسي. يكون البناء من القاعدة عبر تجزيء النضال الديموقراطي وربطة بالحاجات المباشرة للناس والعمل معهم في جمعيات مدنية تعنى كل منها بجانب محدد من المطالب الحياتية الملموسة، تبدأ من مشكلة أسعار المواد الأساسية إلى مواجهة مظاهر الفساد إلى كل أوجه التعدي على المواطن.
وسائل التواصل الحديثة تتيح المجال لمثل هذا النشاط سواء من حيث كشف الحالات التي يجب العمل عليها أو من حيث إيصال الصوت. هذا العمل القاعدي أكثر ملموسية وجدوى، فضلاً عن أنه يحرر الناس من وهم القيادات التي يمكن أن تخلصها من بؤسها ما أن تستلم السلطة السياسية. وهو وهم تام وفق معايير التجارب الواقعية أو وفق معايير المنطق العقلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران