الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ريجيس دوبريه: الكتاب المتشائمون يكتبون جيداً

فارس إيغو

2020 / 12 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حوار مع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه أجراه بول سوريانو لمجلة ماريان الفرنسيّة.
المصدر: موقع مجلة ماريان الفرنسيّة
تاريخ 27/11/2020.
ترجمة: فارس إيغو
(بمناسبة ظهور الكتاب الجديد للمفكر الفرنسي، أجرى مدير تحرير مجلة الوسيط الروحاني (ميديوم) لصالح مجلة (ميريام) حواراً فلسفياً مع دوبريه. والمقال هو عبارة عن أفكار وانطباعات خرج بها المحاور بعد هذا اللقاء الفكري مع صاحب مفهوم الميديائيّة، وهو مكتوب بطريقة فلسفيّة جدّ مكثفّة، وليس عبارة عن أسئلة وأجوبة تقليديّة. لذلك، اقتضى الأمر مني بعض التوضيحات في داخل النص، والعديد من الهوامش، والهدف هو جعل هذا النص الفلسفي الغني بالأفكار والمفاهيم مفتوحاً لعدد أكبر من القراء غير المختصين).
ريجيس دوبريه ((من قرن إلى آخر)) (غاليمار، نوفمبر 2020) (1). يقدّم هذا العمل الجديد للمفكر الفرنسي رحلة فكرية في مسار حياة جالت بين قرنين هما النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين والتي شهدّنا فيهما أحداث هائلة وانقلابات كبرى؛ أمّا أهم هذه الأحداث فكان سقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الاشتراكي عام 1989، أمّا أخطر هذه الانقلابات فكانت تكنولوجيّة مع الثورة الرقميّة التي كانت من التحولات التكنولوجيّة الكبرى التي حدثت في العالم، والتي وفرت السيولة في الوصول الى المعلومة، وسرعة تداول الأحداث في العالم على الشبكة العنكبوتيّة. إن هذه الثورة الرقمية تشكل إنجازاً تكنولوجياً فريداً، لا يعادله أي إنجاز سابق في تاريخ البشرية منذ اختراع الكتابة. ودوبريه في هذا الكتاب يحاول أن يلقي الضوء على ما جرى في هذه المرحلة التاريخيّة الخطيرة، ويعطي لها التماسك المنطقي عن طريق اشتغالاته النظريّة والمفهوميّة. وكما يقول دوبريه: ((إعادة لف شريط الفيلم، ومن ثمّ إعداده من جديد كمنحنى يربط مواسمنا الواحدة بالأخرى)).
من الولادة (عام 1940، سنة رهيبة) إلى التقاعد المجتهد، مروراً بالمدرسة الكبرى (نورمال سوب)، ثمّ السجن في بوليفيا (مدرسة أخرى للوضوح) (2)، غزوة مبهمة في جهاز الدولة (3)، وأخيراً الإجازة أو التقاعد المجتهد ـ كما يقول المؤلف ـ، تراجع يفضي إلى ترسيخ الانضباط، ثمّ النظرية الميديائيّة أو الوسائطيّة: تربط وتوحد، وتقوم بوظيفة النقل، والتصديق، وكيف تعمل الوسائطيّة وكيف تدفع للعمل.
وبعبارة أخرى، يلخص دوبريه تاريخ هذا الانتقال من قرن إلى قرن بعدة جمل قصيرة، يقول: ((من الحرف (أو من كتاب الحروف للفارابي) إلى التغريدة النتيّة، ومن المناطق الريفيّة إلى المناطق المحيطة بالمدن الكبرى الحضريّة (الضواحي القريبة والبعيدة عن المدن)، من قطاع الصناعة إلى قطاع الخدمات، من جهاز الراديو الترانزيستر إلى السمارت فون، ومن روح الفتوحات والمبادرة إلى روح الحذر الدائم، من فرنسا الجمهوريّة إلى فرنسا الأمريكيّة، من حكومة الشعب إلى حكومة الخبراء، من المواطن إلى الفرد (ويمكننا القول أيضاً إلى المستهلك المهووس أو الأعمى)، ومن التاريخ الذي يضم الجميع إلى كل واحد أو لجماعة ذاكرتها، من الهيمنة الذكوريّة إلى الصعود النسوي (ومنهم من يقول بنوع من الإفراط بالهيمنة النسويّة)...)). بعد هذه الجولة السريعة الأفق على الانتقالات التي حدثت من قرن إلى آخر، قد نستطيع رسم بعض الإجابات على الأسئلة التالية:
ـ ((كيف نبني المشترك الاجتماعي مع الاختلاف والتنوّع؟، هنا تأتي السياسة المُكتنفة بالأسرار والألغاز)).
ـ ((كيف ننقل (من مصطلح النقل في اللغة العربيّة والعلوم الإسلاميّة) العناصر الجوهريّة والأساسيّة للأمّة من قرن إلى قرن آخر؟ هنا تكمن أسرار وألغاز بقاء الحضارات)).
ـ ((لماذا علينا أن نؤمن بما يتجاوز عناصر المعرفة؟ هنا يكمن السر الديني)).
الظل والضوء: علاج للوعي
يحافظ ريجيس دوبريه على علاقات دقيقة مع الظل والضوء. في عام 2006 ينشر دوبريه كتابه المعنون ((الأضواء المزيّغة للبصر)) (أو المضلّلة والتي تعمي البصيرة)، مع عنوان فرعي هو ((مُذكّرات يوميّة مكتوبة في جو من النور والعتمة!)). قبل ثلاث سنوات، كان نقاشه مع العالم لوك بريكمونت (بين فيلسوف وعالم) بعنوان في ظل الأضواء. يجب أن يقال إن الرجل قضى ثلاث سنوات وثمانية أشهر من شبابه في الظل (في السجون البوليفيّة)، في الوقت الذي كان فيه زملاؤه، أبطال تاريخ مستقبلي للسلطة الفكرية، في النقاش والمرح تحت أضواء المجموعات الضوئيّة في أستوديوهات التلفزيون.
الله وحده يستطيع أن يقول "ليكن نور، فيكون". لتحقيق نفس الإنجاز، يحتاج الرجال إلى وساطة: الشموع المصابيح الكهربائية وشبكة (إ. د. ف) الكهربائيّة (4)، وأيضاّ إلى مدارس ومعاهد وأكاديميّات لكي تنير عامة الشعب: باختصار، التقنيات والمؤسسات، هي موضوعات للميديائيّة، في تفاعلها مع الثقافة التي أخفتها حتى الآن عن نفسها.
يلعب الضوء حيلاً علينا، ربما يكون الجوهري في الظل الذي تلقيه الأشياء نفسها التي ينيرها الضوء؛ وهي مبهرة، لدرجة تعمية البصر، في الواقع ... أنثروبولوجيا الأنوار، في الواقع، تتجاهل أو تقمع كلاً من الجسد والروح، الفردية والجماعية (العرق، الثقافات، بصيغة الجمع ...)؛ ولكن أيضًا الميكانيكا، ((كيف تعمل، الأنوار)) وكيف تسير، تستعرض، وتندفع لمهاجمة الباستيل والقصور الشتويّة.
سبب آخر
يمكن للوضوح أن يلهم التهكم أو الاستسلام. لدى دوبريه، الوضوح يمكن أن يكون ((سبباّ إضافياً)) للفعل. عكس ما توحي به النتائج التي توصل إليها. شعاره (ليس هو من يقولها، نحن نفسرها): ((ليس لأن القتال خسر مقدماً يجب أن نتخلى عنه، بل على العكس؛ وليس أيضاً تغيير المعسكر)). والنتيجة المنطقية: ((لن أكون متضايقاً بالمرّة لمخالفتي لأفكار أصدقائي (يقصد أصدقاء مرحلة الشباب، اليساريّين من كل حدب وصوب)، ولا أيضاً أن تكون أفكاري صديقة لهم))؛ تناقضات؟ لنقل على الأصح، التفكير ضد نفسي (أي التفكير دون زيادة) (3)، لكن من دون التنكّر أو التوبة.
الأقاليم، الحدود، الهويّات والديموغرافيّا... وإذا كان الواقع في ((جانب اليمين))، في الحقيقة؟ وبعبارة أخرى، يكفي القول بالجغرافي (إن الثوار عانوا التجربة في الميدان)، عندما لا يريد اليسار أن يعترف سوى بالتاريخ: من قرن إلى آخر! هو درس تطبيقي؟ انظروا إلى الخريطة الحمراء والزرقاء للانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة: مع استثناءات قليلة، صوتت الأرض لترامب والبحر (في الجهتين: الأطلسي والهادي) لبايدن - كذلك أيضاً البحيرات الكبرى، فهي لم تصوّت، لكن لابد أنهم ترددوا! (5).
موضوع آخر متكرر، هذا هو الحال، مع هذا الأعسر المُعاكس أو المشاغب: هو الرجوعات أو العودات... كل شيء كنا نظن أنه قد انتهى، تحت اسم ((تأثير الركض)) على وجه الخصوص (6). إن نظريّة دوبريه: ((عولمة الأشياء، قبلنّة الرعايا)) (7)، في عام 1980، يمكن أن تفاجئ وتزعج أيضاً، بعد أربعين عاماً، أصبحت شائعة تقريباً.
دعونا نجرؤ على تدوين بعض الملاحظات النقدية للأفكار التي يطرحها علينا دوبريه، حتى لا نقع في الرضا عن النفس - ولكن بدون لمس ديغول، نعدك، هناك سنخاطر بالانفصال (يقصد تعلق دوبريه المبالغ به بشخصيّة ديغول وسياساته الداخليّة والخارجيّة) ...
يمكن للمرء أن يتردد في مشاركة شغفه تجاه أوغست كونت. أعظم فيلسوف فرنسي بعد ديكارت (في نظر دوبريه)! لدي الرغبة في أن أعارضه بالقول بأنّ باسكال هو أعظم فيلسوف فرنسي قبل ديكارت. لكن، مفكرنا الفائق الوضوح لا ينخدّع تماماً بهذا ((العبقريّة التأمليّة)). يقول دوبريه عن باسكال: ((هذا العبقري التأملي، المجنون قليلاً كما أن ينبغي أن يكون، والمُصاب بجنون العظمة الاكتئابي)). ومع ذلك فإننا سنحيي معه ((أول داعية للحياة الحيوانية)) وبالخصوص، وقبل كل شيء، الشخص الذي لاحظ الوجود المؤلم للموتى بين الأحياء.
بالمقابل، كنا نحب تحيّة أكثر وديّة لماكلوهان (8)، والذي يدعوه دوبريه: ((النبيّ الكندي لوسائل الإعلام الجماهيريّة))، وهو أيضاً ـ حسب المحاور ـ الولد المشاغب والجد الفعلي للميديائيّة الغاليّة على ريجيس دوبريه، أليس كذلك (9).
عصرنا الحالي ـ حسب دوبريه ـ ((يقيم الشعائر الدينيّة في عبادة الطبيعة))؟ وبصراحة، لا نرى أي شيء يأتي من هذا الجانب، لا غايا (10) ولا السلة الكبيرة (10). يا للخسارة؟ وكن دوبريه نفسه لا يؤمن بذلك إلا بصورة جزئيّة: ((نحن نقدّس الكلوروفيل، وكذلك اصطناع أو تخليق الكاربوهيدرات في الطبيعة عن طريق ثاني أوكسيد الكربون))، نوع من السخرية التي تنزلق لتصبح تدنيساً للمقدسات.
إن الرقمنة، هي نظام من الاتصالات والتواصل بين البشر مغلقة على عملية (النقل) ـ بحسب دوبريه ـ؟ (12). ومع ذلك، يبدو لنا أن ويكيبيديا تعمل جيداً في هذا الجانب، وليس في جانب التواصل، حتى لو كان نيكولاس كار (عالم الوساطة الروحانيّة الأمريكي) يصفها بأنها ((الثقب أسود للمعرفة البشرية))!
المتشائمين يكتبون بصورة جيّدة
المعروف أن ريجيس دوبريه يشارك أستاذه فاليري الاعتقاد المثبّت بالتجربة بأنّ ((المتفائلين يكتبون بصورة سيئة)): مفكر من اليسار مقابل كاتب من اليمين، مع الاستثناءات المطلوبة لتأكيد القاعدة، ودوبريه ذاته كهجين أو خلاسي، مقتنع بأن ((الفكرة تكتسب احترامها في السياسة ليس وفقاً لقدراتها المنطقية، ولكن لقدرتها الوجدانيّة والشعريّة)) (13).
كتاباته التي نتوقعها كلاسيكيّة هي تميل ـ بصورة غزيرة ـ نحو الأسلوب الباروكي في الكتابة، وتضاعف الشقوق والأقواس، والمراجع العلمية غير المعترف بها (نحن نثق في القارئ)، والفروق الدقيقة وغيرها من القيود المعادية للعقيدة ... ولكن إذا كنت مغرماً بمكمل الفاعل والفعل والمفعول به، فأنت تخاطر بالحرمان من الحلوى في نهاية الطعام، وهذه الصيغ في شكل مكافأة بعد التفكير. "الشيء" الخاص به هو الطريق المختصر المنير: فيدل كاسترو في مكان ما (المتمسك بالإقامة في وطن ما)، تشي غيفارا في أي مكان (هو الماركسية العالميّة وحتى المعولمة، التي لا ترتاح إلى أن تصبح عالميّة) ... لا نعرف الجغرافي السارتري (من سارتر) ... هناك نوع من العقاب في المكان ووعد في الزمان ... في نهاية المطاف، هي المواجهة بين الهمجي وحارس المتحف. وهذا الاقتباس الرائع من بسمارك (الدبلوماسية بدون أسلحة هي موسيقى بدون آلات) أو من لغة التبخيس البريطانية: (الملائكة غير موجودة؟ أنا لا أستبعد هذه الفرضية المحزنة) (14).
ومن وقت لآخر، فإن دوبريه يكتب كلمات فظة وخبيثة في حق زملاؤه الفلاسفة والمفكرين، لكن بإخلاص: وبمودّة ومحبة (مع فوكو)، ولكن ليس مع جان مونيه (علينا ألا نبالغ أيضاً ...) (15). وكرجل مُهذب جداً، وهذا لا يزعجه، يحب دوبريه استهداف نفسه أو أقرانه: المثقفين والفلاسفة وأهل اليسار ورجال الأدب، وغيرهم من ((المتمردين عن الموائد التلفزيونيّة)) و ((المتشدّقين النرجسيين)).
في هذه المقابلة الحوارية الثريّة بدا لنا دوبريه ناعماً فيما يتعلق بشهادات الإيمان الجمهوريّة والعلمانيّة، ونوع من الحكمة أيضاً لشغف هذا الابن بأم غالباً ما تكون غائبة، أو مخيبة للآمال، الابنة الوفيّة للكنيسة المربيّة للجنس البشري (والمقصود هنا المدرسة الجمهوريّة) (16).
إن ريجيس دوبريه يجمع المتناقضات في كتاباته وتصريحاته، لكنه يديرها ببراعة شديدة. فهو ((رجعي من أجل التقدّم)) و ((وطني متزمت ومواطن عالمي)) و ((كاثوليكي جمهوري)) و ((متذّمّر وعطوف)) و ((فوضوي ومحافظ)) (على طريقة جورج أورويل الاشتراكي المحافظ) وأخيراً مُعاد لليبرالية، ومحتقر للسوق، ويعجب بالإنكليز، أمّة أصحاب المتاجر، نوع من تاريخ التوفيق بين فيكتور هوغو وستيندال؟ (17).
إذا كان ريجيس على اليسار (دانتون) ودوبريه على اليمين (ديغول)، فإن صاحب ((نقد العقل السياسي)) و ((الثورة على الثورة)) يعرف كيف يهرب من الفصام ويبقي الجانبين متعايشين بهدوء وسلام، فربما يكون الأمر ببساطة أن كلا الجانبين متخصص في الوسائطيّة الروحانيّة، وأن الوساطة الروحانيّة تفهم العمل على القدمين.
الهوامش
(1) ريجيس دوبريه ((من قرن إلى آخر)) (من منشورات دار النشر الفرنسيّة غاليمار، نوفمبر/ تشرين الثاني 2020).
(2) من المعروف أنّ ريجيس دوبريه كان قد سجن في بوليفيا عام 1967 في بوليفيا لمدة ثلاث سنوات وثمانية أشهر. ففي عام 1965 غادر إلى كوبا، ومن ثمّ رافق تشي غيفارا والثوار البوليفيّين في المقاومة ضد الحكومة البوليفيّة. وقد نظّر دوبريه إلى اشتراكه في الثورة البوليفيّة مع تشي غيفارا في كتابه ((الثورة داخل الثورة)) (1967). حيث طوّر في هذا الكتاب نظريّة تقول بتعدّد بؤر التمرد الثوري المسلح في أمريكا اللاتينيّة.
(3) الالتزام السياسي لريجيس دوبريه في فرنسا: في أعوام 1981، 1988، 2002، كان من بين المفكرين اليسار الذين دعموا فرانسوا ميتران وجان بيار شوفنمون للترشح للانتخابات الرئاسيّة. وبعد وصول ميتران إلى قصر الإليزيه تمّ تعيّين دوبريه مستشاراً للرئيس للعلاقات الدوليّة (1981 ـ 1984)، واستمر يعمل في الرئاسة الفرنسية إلى عام 1992 حيث قدّم استقالته وتفرّغ للكتابة.
(4) ما يقصده ريجيس دوبريه بالقول: ((التفكير دون زيادة))، هو التفكير دون زوائد العقائد والأيديولوجيّات.
(5) يشير دوبريه بالانقسام الحاصل بين تصويت المراكز (المدن الكبرى والمدن الساحليّة) التي تزدهر فيها اقتصاديات العولمة ومراكزها الحيويّة ومؤيديها، بينما صوتت الأطراف ضد العولمة ومستتبعاتها الثقيلة (نقل الصناعات، تهميش الطبقات الوسطى الصغيرة والمتوسطة، إلخ)، وكذلك مستتبعاتها المفهوميّة (إزالة الحدود، الهجرات الكثيفة، وتنازع الهويّات، إلخ). وهذه الخريطة الانتخابيّة كان أول من لاحظها هو السوسيولوجي والجغرافي الفرنسي كريستوف غيليوي.
علينا أن ندرك بأنّ المجتمعات الغربيّة في طريقها إلى التصدع والانقسام بطريقة خطيرة جداً، وعندما نلاحظ مخططات نتائج الانتخابات الأمريكيّة الأخيرة جغرافياً، نلاحظ أن الأصوات الديموقراطيّة تتركز في المدن وهي في أغلبيتها صوتت عن طريق الرسائل البريديّة، بينما الأصوات الجمهوريّة تجمعت في الأرياف والبلدات الصغيرة، وهو المخطط الذي أوضحه عالم الاجتماع والجغرافي الفرنسي في كتابيه ((التصدعات الفرنسيّة)) (2010) و ((فرنسا الأطراف: كيف ضحينا بالطبقات الشعبيّة)) (2014). وخلاصة كتابه الأول، تشير إلى أنّ ضغوط العولمة التي توسع الانقسامات الاجتماعية والثقافية قد تؤدي إلى تفجير النموذج الجمهوري في فرنسا. أما في الكتاب الثاني، فهو يضع فرنسا المراكز وفرنسا الأطراف وجهاً لوجه (أي في حالة مواجهة ومجابهة)، فالأولى متعولمة ومتعددة الثقافات وجماعاتيّة، والثانيّة مؤلفة بشكل خاص من مواطنين فرنسيين يعيشون بعيدين عن المتروبوليتات المتعولمة، وتحملوا كل مساوئ العولمة.
(6) يقصد به دوبريه، تحت تأثير التقدّم السريع، وبالخصوص في المجال التكنولوجي، لأنّ دوبريه لا يعتقد بأنّ الإنسانيّة قد حققت تقدماّ كبيراً على المستوى الأخلاقي والسياسي.
(7) لدى دوبريه تعريف مختصر وعميق الدلالة للعولمة: إنها تنميط اقتصادي وتكنولوجي وبلقنة سياسيّة وثقافيّة.
ونجد لدى السوسيولوجي الفرنسي ميشيل ميفوزولي أطروحة مشابهة تقول بتحوّل المجتمعات الغربيّة في مرحلة ما بعد الحداثة إلى قبائل أو القبائل الجديدة في كتابه ((زمن القبائل: تراجع النزعة الفرديّة في المجتمعات ما بعد الحديثة)) (1988).
(8) مارشال ماكلوهان (1911 ـ 1980): أستاذ وفيلسوف وكاتب كندي أحدثت نظرياته في وسائل الاتصال الجماهيري جدلاً كبيراً، فهو يرى أن أجهزة الاتصال الإلكترونية ـ خاصة التلفاز ـ تُسيطر على حياة الشعوب وتؤثر على أفكارها ومؤسساتها.
زعمّ ماكلوهان أن كل حقبة زمنية كبرى في التاريخ تستمد شخصيتها المميزة من الوسيلة الإعلامية المتاحة آنذاك على نطاق واسع. فهو مثلاً، يُطلق على الفترة من القرن الثامن عشر إلى العشرين عصر الطباعة، ففي ذلك الوقت كانت الطباعة الوسيلة الرئيسية لنقل المعرفة بين الناس. وأعلن ماكلوهان أن الطباعة شجعت على الفردية والنزعات القومية، والديمقراطية، والنزوع إلى الخصوصية، والتخصص في العمل، والتمييز بين العمل ووقت الفراغ.
ووفقًا لرأي ماكلوهان فإن عصر الالكترونيّات قد حلّ محل عصر الطباعة. فالوسائل الإلكترونية تجعل الاتصال سريعاً، لدرجة أن الشعوب ـ على اختلاف مواقعها في العالم ـ تنصهر في بوتقة واحدة، وتشارك بشكل عميق في حياة الآخرين. والنتيجة كما يرى أن الوسائل الإلكترونية تقضي على الفردية والقومية، وتدفع نحو نمو مجتمع عالمي جديد.
لذلك، يعتبر ماكلاهون هو الملهم الرئيسي لدوبريه في مفهومه الجديد عن الميديائيّة أو الوسائطيّة. وكاتب المقالة ينتقد دوبريه على عدم وفاءه لماكلاهون الذي تأثر به في كتابه: ((الميديولوجيّا: محاضرة في علم الوسائط)) (1991).
(9) الميديائيّة: هي علم الوسائط الإعلاميّة.
(10) غايا هي إحدى آلهة الأساطير الإغريقيّة، وهي ترمز إلى الأرض.
(11) السلة الكبيرة، من بين أشهر المطاعم الباريسيّة التي تقدّم الأطباق التقليديّة الشهيّة المؤلفة بشكل أساسي من اللحوم، وهو ما يثير قرف الإيكولوجيّين أنصار تأليه وعبادة الطبيعة.
(12) هناك جدال كبير اندلع في الغرب منذ ظهور العالم الرقمي (الإنترنيت)وتزايد دوره في التواصل المعرفي والإعلامي، حيث يجري الحديث بين تواصل المعارف الإنسانيّة عن طريق الشفوي (النقل) في المدارس والمعاهد والجامعات، وحتى في كليات الشريعة واللاهوت والكنائس والجوامع، وعن طريق الأقاصيص الشعبيّة والمهارات والخبرات العمليّة التي يتم تناقلها من الأجداد إلى الأحفاد مباشرة في النطاق العائلي.
ويعتبر ريجيس دوبريه وآلان فينكلكروت من كبار الفلاسفة في فرنسا المدافعين عن بقاء النقل (الترانسميسيون) طريقة أساسيّة في نقل المعارف والخبرات إلى جانب الوسائل الجديدة للتعليم.
(13) ومن المعروف أنّ ريجيس دوبريه من المعجبين كثيراً بكتابات الشاعر والفيلسوف بول فاليري (1871 ـ 1945)، وقد كتب عنه مؤلفاً هو ((صيف مع بول فاليري)) (من منشورات دار النشر الفرنسيّة خطوط متوازيّة، باريس 2019).
(14) الاستخفاف هو نوع من الكلام يجعل فيه الكاتب أو المتحدث موقفاً ما يبدو أقل أهمية أو خطورة مما هو عليه. على النقيض من المبالغة.
(15) كان جان مونيه (1888 ـ 1979)، موظف مدني فرنسي دولي، ومصرفي دولي، ومؤيد كبير للنزعة الأطلسية والتجارة الحرة، وأخيراً، يعتبر من آباء الاتحاد الأوروبي الحالي، أي كل ما يكرهه دوبريه.
(16) المعروف أنّ والدة ريجيس دوبريه جانين ألكسندر دوبريه (1910 ـ 2000)، التي كانت محامية وامرأة سياسيّة ووصلت إلى مجلس الشيوخ (1976 ـ 1977)، وشغلت سنوات طويلة منصب عضو في المجلس البلدي لمينة باريس (1947 ـ 1971).
(17) المعروف أن فيكتور هيجو (1802 ـ 1885) صاحب رواية ((البؤساء)) الشهيرة كان اشتراكي الميول بينما ستندال (1783 ـ 1842) كان ليبرالياً. وكان هيجو يكره ستندال وينتقد بقسوة كتاباته.
يعتبر ريجيس دوبريه أنّ ستندال يعبّر عن الأسلوب والنمط الفرنسي، بينما هيجو يعبّر عن الروح الفرنسيّة. وقد كتب دوبريه عام 2019 كتاباً عن هذين الروائيين الفرنسيين الكبيرين وعنونه بـ ((العبقريّة الفرنسيّة)) (غاليمار، 2019)، حيث قارن بامتياز بين عملاقين من عمالقة الأدب الفرنسي. يقول دوبريه في كتابه: في الظاهر كل شيء يجعل هاتين الشخصيتين متعارضتان، لكن كلاهما يجسد جزءاً من العبقريّة الفرنسيّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في زلة لسان جديدة.. بايدن يطلب من إسرائيل ألا تقتحم حيفا


.. اعتصام أمام البرلمان في المغرب للمطالبة بإسقاط التطبيع مع إس




.. ما طبيعة الرد الإسرائيلي المرتقب على هجوم إيران؟


.. السلطات الإندونيسية تحذر من -تسونامي- بعد انفجار بركان على ج




.. خيمة تتحول لروضة تعليمية وترفيهية للأطفال في رفح بقطاع غزة