الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجماهير في الأدب

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2020 / 12 / 4
الادب والفن


لقد لاحظ أورتيغا في كتابه " تمرد الجماهير ": " هناك واقعة من أهم وقائع الحياة العامة في الوقت الراهن، سواء كانت خيراً أو شراً. وهذه الواقعة هي وصول الجماهير إلى سدة السلطة الاجتماعية ". ويرى أن الأفراد الذين يشكلون هذه الجموع كانوا موجودين من قبل، لكن، ليس كجمع، كانوا موزعين في العالم في فرق صغيرة أو معزولة، ويملكون حياة، كما يبدو، متباينة ومتباعدة وغير مترابطة. لكنهم اليوم يظهرون فجأة تحت سمة التجمهر، وترى عيوننا جموعاً في كل مكان؟ لا، ثم لا. وإنما تحديداً في الأماكن المثلى، المكرسة من قبل لمجموعات صغيرة وإلى أقليات في نهاية الأمر.
وأورتيغا لا يقصد بالحياة العامة الحياة السياسية فقط، وإنما هي في آن واحد ومن قبل، حياة فكرية وخلقية واقتصادية ودينية، وهي تشمل العادات الاجتماعية كلها حتى الطريقة في الملبس والمتعة. وفي هذا البحث سوف نحاول أن نتعرف على ظهور تلك " الجماهير " في الأدب.
معروف أن القصة تتعامل مع الصوت المنفرد، صوت شخص بطل في لحظة زمنية ويرسم وضعاً اجتماعياً أو نفسياً، وأن الرواية تتعامل مع تعدد الأصوات، أصوات عدة شخصيات تتضارب في طريقها نحو خلق حياة اجتماعية. ويوجد أيضاً شكل آخر خارج الصوت المنفرد أو تعدد الأصوات، إنه صوت الجماهير، وهناك أعمال أدبية اهتمت بالجماهير (كتلة من الناس تتحرك معاً وتتكلم بصوتها الخاص كجماعة)، وبذلك كسرت الصوت المنفرد (أوكونور)، كما كسرت تعدد الأصوات (باختين).
والجماهير ككتلة واحدة تعود إلى " الملحمة " حيث يكون الفرد في توافق مع المجتمع، ويعبر عن صوت المجتمع ككتلة، وكما يقول لوكاتش " إن عمل الملاحم الهوميرية هو معركة يخوض غمارها المجتمع، المجتمع بوصفه متحداً موحد الفعل ضد عدو خارجي ". لكن الرواية هي الفرد في مواجهة المجتمع، والجماهير المقصودة في هذا البحث ليست هي المجتمع بالمطلق، لكن هي جماعة، فئة، كتلة، طبقة.. تجمعها أهداف اجتماعية موجهة ضد قضية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو فكرية، وتعبر عن هذه الأهداف ليس عبر شخصية نموذجية، إنما عبر وجودها ككتلة متراصة ومتحدة لتحقيق تلك الأهداف.
في القصة
كمثال، قصة يوسف إدريس " الطابور ": التي تتكلم عن جماعة من الفلاحين يقصدون كل يوم سبت السوق لبيع منتجاتهم الزراعية وشراء ما يلزمهم من أغراض. وحتى يختصر الفلاحون الطريق إلى السوق كانوا يفتحون دائماً فجوة في السور الخشبي الذي أقامه صاحب الأرض التي يقوم عليها السوق. وهذا المقطع من القصة يعطي فكرة عن الجماعة في قصة الطابور " ومع أن الشركة قد أقامت بدلاً من الخشب سوراً من الحديد.. ومع أنها استعانت بالمركز.. إلا إنك إذا وقفت في الصباح الباكر من أي سبت فسوف تجد المشاية تحفل بالطابور الذي لا تعرف كيف يبدأ ولكنك تراه ينتهي في السوق من خلال السور.. ودائماً ستجد هناك حديدة مكسورة ".
وكمثال آخر، قصة ايتالو كالفينو " هناك من يقنع ": التي تتكلم عن شعب بلد يجتمع في بعض السهول ويلعب لعبة العصا لأنها الشيء الوحيد غير الممنوع. ومضت السنوات، وقرر قادة ذلك البلد أنه لم يعد هناك من سبب يكون فيه كل شيء ممنوعاً، فأرسلوا الرسل لإعلام الشعب بأنهم أحرار ويمكنهم أن يفعلوا ما يريدون. لكن الشعب استمر يلعب لعبة العصا رافضاً كل الألعاب الأخرى المفيدة والجميلة. فغضب القادة وقرروا منع لعبة العصا، فقام الشعب بالتمرد وتخلص من قادته وعاد يلعب لعبة العصا.
في الرواية
لقد تكلم بريستلي عن زولا " إن أقوى مناظره تأثيراً هي تلك التي يصور فيها كتلاً لا أفراداً، كتلاً بحالها من الجماهير في حركة دائمة، كما في الأفلام السينمائية الهائلة ". وهذا التركيز على الجماهير، الجماعة، الكتلة، وجد الصدى له في الرواية الشيوعية، ويضيف بريستلي " إنه _ زولا_ يمثل أكثر من أي كاتب آخر نموذج الروائي الذي يحاول الشيوعيون دائماً أن يصنعوه بواسطة التوجيهات الحزبية وقرارات اتحاد الكتاب ". وكمثال، رواية سيرافيموتش " السيل الحديدي ". ويقول الكاتب: " في السيل الحديدي أقدم صورة عملية النضال الجماعية.. ليس هذا فصلاً من حياة بطل معين أو حياة جماعة صغيرة من الناس.. لقد قدرت أنه من الضروري تصوير حياة الجماعة الهائلة من الناس". ويقول بوريس سوتشكوف عن الرواية "هذه المجموعة من الرجال، غير المنضبطين وغير المنظمين في البداية، والمتحولين شيئاً فشيئاً، مع تقدم المعارك الطاحنة، إلى مجموعة متلاحمة بإرادة واحدة، هي البطل الحقيقي لرواية سيرافيموفيتش السيل الحديدي ".
وكمثال آخر، رواية باربوس " النار ". ويقول ستيفان زفايغ عنها: " بين طريقتي التصوير اللتين وجدتا في الأدب حتى ذلك الحين، وهما الطريقة الموضوعية والطريقة الذاتية، اختار باربوس طريقة ثالثة هي الطريقة الجماعية.. فال " أنا " المراقب والمعاش.. يكتب ويتحدث لا باسم الفرد، بل باسم السبعة عشر رفيقاً، الذين صبهم في قالب مرصوص، مائة أسبوع من الآلام المشتركة في جحيم الحرب.. أنه لم يعد يستطيع، وقد انصهر في جماعة أخوية، أن يدرك أي شيء بوصفه فرداً، وكل ما رآه، إنما رآه بسبع عشرة روحاً ".
وكذلك ثاكري في رواية " سوق الغرور" التي يقول عنها بيرسي لوبوك في كتابه: صنعة الرواية " إن الموضوع لا يكمن هنا وإنما الشعور بعالم معين، مجتمع، زمن، وسلوك معين في الحياة. الكتاب ليس حكاية واحد منهم، بل إنه القصة التي اتحدوا من أجل سردها أو فصلاً من سيرة لندن الثرة ".
وفي الرواية العربية هناك رواية القطار للكاتب صلاح حافظ، التي تحكي عن مجموعة من المساجين _ أربعة وخمسون سجيناً سياسياً، تبعدهم الدولة من سجن القاهرة إلى أحد سجون الصحراء بعربة قطار حتى ترتاح منهم، إنهم يشكلون مجموعة من الشعب منهم المحامي والفلاح والطبيب والشاعر والطالب، وهي في الرواية شخصيات روائية تشكل " الجماهير " لا شخصيات فردية. كما استخدم الروائي عبد الرحمن منيف الجماعة البشرية بعد أن وعت نفسها ككتلة فاعلة، بعد فشل الحلول الفردية في مواجهة الجفاف في روايته " النهايات "، حيث يتجمع أهل القرية في مواجهة ذلك الجفاف لتحقيق حلمهم ببناء سد يعتمدون على مياهه في أيام الجفاف، وينزلون إلى المدينة كتلة متراصة وقد وعت ما تريد للمطالبة ببناء السد.
في المسرح
إن هوبتمان في مسرحية " النساجون " استطاع على رأي لوكاتش حسب كتاب " الواقعية في الإبداع الفني "، أن يدخل في روع القراء أنهم ليسوا بمحضر أفراد معينين، بل أمام كتلة رمادية لا حصر لها من النساجين. فقد اختار هوبتمان أبطال مسرحيته وحدد خصالهم ووضعهم في مواقف وربطهم بعلاقات فيما بينهم بطريقة كتلة بشرية. وقد حاول هوبتمان في مسرحية أخرى أن يصنع الكتلة البشرية ولكنه لم يوفق إلا بشكل نسبي.
وفي الشعر
يمكن الإشارة إلى قصيدة ماياكوفسكي " 150 مليون "التي يقول عنها تروتسكي: " كان المفروض ب 150 مليون أن تكون قصيدة الثورة. وما هي بذلك. فهذا العمل العظيم في مرماه، ملغوم بضعف المستقبلية وعيوبها. أراد المؤلف أن يكتب ملحمة عن ألم الجماهير، عن بطولة الجماهير، ملحمة الثورة اللاشخصية ل 150 مليون إيفان ".
كما يمكن الإشارة إلى قصيدة ألكسندر بلوك " الاثنا عشر ":
يمضي اثنا عشر
لبنادقهم أحزمة سوداء
ومن حولهم النار، النار، النار
إن بلوك يجعل الجماهير بطل قصيدته التي تحكي بشكل رمزي حكاية ثورة 1917 في روسيا، الجماهير بوصفها قوة تصنع التاريخ. والاثنا عشر هم مجموعة من جنود الثورة يمضون بدون خوف من قوى النظام القديم، يمضون واثقين من أنفسهم نحو المستقبل.
إن الجماهير: الجماعة_ الكتلة هي بطل قصة " الطابور " و" هناك من يقنع " ورواية " النار " ورواية " السيل الحديدي " ورواية " القطار " ورواية " النهايات "، ومسرحية " النساجون "، وقصيدة " 150 مليون "، وقصيدة " الاثنا عشر "، الجماهير التي هي الجماعة ككتلة صماء أو كنهر هادر لا يقف شيء في طريقه، إنه الجماهير _ الكتلة التي تخلق التاريخ الاجتماعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق