الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ميناتا ساو فال: رائدة الكاتبات الفرانكفونيات

رويدة سالم

2020 / 12 / 7
الادب والفن


أميناتا ساو فال: رائدة الكاتبات الفرانكفونيات
نظرة من الداخل
كريستين شولي عاشور

الأدب الإفريقي على أهميته ظلّ مجهولا للكثير من قراء العربية رغم تنوعه وثراءه ثيميا وفنيا ولغويا وتعتبر السينغال إحدى أهم البلدان الإفريقية التي قدمت للعالم تجارب أدبية راقية من بينها شعر الرئيس سيدار سنغور والنصوص الروائية لأيقونة الإبداع الأدبي الإفريقي السينغالية "أميناتا ساو فال" التي أُطلِق اسمها على الدورة الأولى "للمنتدى الدولي للإبداع" بمدينة العيون في المغرب في شهر ديسمبر سنة 2017 وسبق وأن ترجم لها المترجم التونسي جمال الجلاصي رواية "اضراب الشحاذين". وبمناسبة إعادة نشر دار "الثعبان المجنحle serpent à plumes " للروايتها " الثامنة الموسومة بـ"مملكة الكذب"، نقدم لكم هذه الجولة الذي تحملنا عبرها، أستاذة الأدب المقارن والكاتبة كريستين شولي عاشور، إلى العالم الإبداعي لهذه الكاتبة الإفريقية التي استطاعت نسج مسار أدبي مشرف ودعت منذ سبعينات القرن الماضي، إلى تجاوز مرحلة إعادة تأهيل الإنسان ذي البشرة السوداء مؤكدة على وجوب:" التمكن من خلق أدب يعكس بكل بساطة أسلوبنا في الحياة ويكون مرآة لروحنا ولثقافتنا".
تقول كاتبة المقال إن "مملكة الكذب" عنوان لافت يضع تحت المحك سمة تشجبها الرواية كما في أغلب النصوص السابقة لهذه الكاتبة ألا وهي النفاق السائد في المجتمع السينغالي الذي يمجِّد شخصيات غير شريفة دون أن ينأى بنفسه عن احتيالها. كما أن الإطار العام، في هذه الرواية، والذي هو من الأطر المفضلة لدى اميناتا ساو فال ويتوافق مع جزء مهم من تربيتها الأولى ضمن أسرتها، هو أيضا فضاء لقاء ودي وعائلي، تترأس، خلاله، امرأة تدعى "ياسين" مأدبة هي بصدد إعدادها لأفراد عائلتها ولأصدقائها بمناسبة اجتماع يوم الأحد، أي طقس لمِّ الشمل والاحتفال الذي يحيلنا إلى صورة "الأفنية" بالغة التكرار في روايات أميناتا ساو فال الأخرى والذي تقول عنه:"ألِفت الفِناء، منبهرة بشجرة التمر الهندي العظيمة تلك التي لم أرى مثيلا لها أبدا في حياتي وتلك الضجة والحكايات والخرافات... وذاك الرجل المسن بطريقته الفريدة في شرح الأمثال وصوته المسكر والسحري بالغ الجمال حتى أنه يستحيل تخيّل قدرته على خلب الألباب بذلك القدر في سنه تلك عندما كان يشرع في إلقاء شعر الباك والمصارعين راقصا بخطى رشيقة رغم عاهته".
ينتهي الغداء، في ذلك اليوم، بتبادل صريح وحاد اللهجة للأراء فالابن "دييري" يعاتب أباه "سادا" على قيامه بمدح علني لوزير غير جدير بالتقدير وكان ضمن الحضور، أخت ياسين وصديقتها وأصدقاء الطفولة لسادا الذي ثار بسبب ملاحظة ابنه لكن، في الأخير، يسود المرح ويَلتَفُّ النص نحو الماضي لسرد حياة الشخصيات الأساسية. وأول فلاش باك يقوم به، يتعلق بحياة سادا الذي كان والده تاجر خردوات ثم ارتقى في السلم الاجتماعي بفضل مزاياه وفضائله وإصراره. تركز أميناتا في هذه الرواية، أكثر مما فعلت في نصوصها الأخرى، على ما دافعت عنه، دوما، ألا وهو إخراج البلاد من الأوحال التي أغرقها فيه كل من الفساد والاحتيال. ولتحقيق ذلك، تمنح أغلب البورتريهات للساردة فرصة التركيز على قوى السينيغال الكامنة والتي يجب أن تتسيد الموقف ممكنة كل فرد من أن : "يرتوي من نبع المواطنة المخفي منذ الأزل في أعماق الأرض" وتَختَتم قصتها بفقرة طويلة مخصصة لتمجيد عدة بطلات سينيغاليات. أمر يؤكده ما كُتِب على الوجه الأخير للغلاف: "عبر هذه القصة تبرز الكاتبة السينغالية الكبيرة للشباب السبيل الذي عليهم اتباعه والقيم التي عليهم الدفاع عنها لرسم أمل إفريقي جديد".
تُمكِّننا إعادة نشر هذه الرواية الثامنة من استغلال الفرصة لسبر عالم رائدة كاتبات جنوب الصحراء الكبرى الفرانكفونيات إلى جانب مواطنتها "مارياما با" وروايتها بالغة الشهرة: "رسالة واحدة طويلة جدا". ولدت أميناتا ساو فال في 27 افريل 1941 لأسرة تنحدر من سانت لويز في السينغال. درست هذه الكاتبة، التي وصفها "ألان مابانشكو" في محاضرته الافتتاحية في كولاج دو فرانس سنة 2016 ب"أكبر روائية إفريقية" (من كتاب :"نصوص السود الأدبية" من الظلمات إلى النور، فايارد) أثناء المرحلة الابتدائية والثانوية في مدينتها في معهد فايدهارب (صار فيما بعد معهد الشيخ عمر فوتيو تال) ثم التحقت بأختها في دكار لإنهاء دراستها الثانوية والحصول على الباكالوريا من معهد فان فولانهوفن (الذي صار معهد لامين غايي). انتقلت، بعد ذلك، إلى فرنسا وتابعت دراستها الجامعية، في اختصاص الآداب المعاصرة والترجمة الفورية وهناك التقت بـ"سمبا ساو" وتزوّجا سنة 1963. وعند عودتها إلى السينغال، قامت بالتدريس في روفيسك وفي دكار. وللتذكير هي أم لسبع أبناء من بينهم مغني الراب "عباس عباس" الذي "أعاد رسم المجتمع بألوان فنه الملتزم والثائر على الواقع دون عنف".
تقول أميناتا:"ولدت وترعرعت في سانت لويس في الجزء الجنوبي من الجزيرة على ضفاف نهر السينيغال بين حوضيه الكبير والصغير. كل صباح، عندما كنت أغادر غرفتي كان نظري يعانق النهر وكنت أرى، وراء حافته الجنوبية، البحر وكان ذلك المدى الفسيح ينفتح أمامي وذلك المشهد يسحرني، كل يوم، حد الافتتان. كان يسود منزلنا جو رائع فأبويّ كانا كريمين وكان الكثير من الناس يترددون علينا من كل مكان. يمكنني القول أن منزلنا كان بمثابة قبلة ثقافية يأتيه أناس من أصول وجنسيات مختلفة من بينهم قرويون كانوا يأتون للعمل فيه ومنشدون وقصاصون وتلاميذ يرتادون معهد فيدهارب والذين كانوا يجدون فيه، غالبا، مسكنا وطعاما لأنهم كانوا أصدقاء لإخوتي بالإضافة إلى أقاربنا من عائلتنا الكبيرة.
تعلمت الكثير من بعض الذي كانوا يترددون على منزلنا وخاصة حول الحياة في القرية والتاريخ والحكايات التقليدية والأغاني وبعض العادات التي كان يتخلى عنها سكان المدن. كل ذلك كان يجعلني حالمة.
ما كان رائعا في تلك الأسرة هو أنه لم تكن تقع تربية الفتيات ضمن شروط العقلية السائدة التي كانت تعدُّهن لدور زوجة مستقلبية وتجعلهن ينتظرن زوجا قويا وكريما. على سبيل المثال، جعلنا أبوانا، دون ضغوط ايديولوجية، ندرك معنى مسؤولياتنا كإنسان كامل الأهلية. وعلمانا، نحن الفتيات، ألا نكفي بالمرتبة الأخيرة في الفصل في انتظار الزواج بل علينا تحقيق نفس الإنجازات في المدرسة كالذكور حفاظا على الشرف والكرامة.
كنت أحتكّ باللغة والثقافة الفرنسية قبل الالتحاق بالمدرسة الفرنسية، بفترة طويلة، وكنت أعدّ وأقول بعض الأشياء بهذه اللغة لأن إخوتي وأخواتي وأقاربنا الذين يأتون إلى منزلنا كانوا يقرؤون بصوت عال ويتبادلون بعض الكلمات بها. رغم ذلك كانت اللغة اليومية في المنزل هي الوولوف.
أسعدني جدا إلتحاقي بالمدرسة الفرنسية (بعد عام من بداية دراستي في المدرسة القرآنية) لأنه مكَّننِى من اتباع خطوات إخوتي الأكبر مني. وفي وقت لاحق، فَتحَت لي المطالعة أفاقا أوسع. كان لدى أبي خزانة مليئة بالكتب وكان إخوتي وأقاربي يجلبون معهم في آخر السنة الدراسية الكثير من الجوائز التي كانت ثمارا مستحقة لما بذلوه من جهود وكان مرآى أذرعتهم مثقلة بالكتب يجعلني فخورة جدا بهم ورغم انبهاري بألوان الأشرطة كان نهمي لمعرفة محتوى تلك الكتب الوفيرة يسعدني أكثر.
بعد المدرسة الابتدائية ومعهد فايدهارب، أنهيت المرحلة الثانوية في معهد فولانهوفين (يطلق عليه اليوم لامين غايا) الذي حصلت فيه على الجزء الأول ثم الثاني من الباكالوريا". (مقتطف من حوار أجراه معها مع جيمس غاحاش/غاعاش Gaachفي "السينيغالية الجديدة: نص وخلفية" منشورات XAMAL 200).
يذكر هذا النص السير-ذاتي الموضوعات المتكررة في روايات أميناتا ساو فال والتي تتمحور حول أهمية النهر ومركزية المنزل الأسري باعتباره مركزا للّقاء واقتسام الغذاء بكل أنواعه والارتباط بالثقافة الشفوية والحضور المهيمن للغة الوولوف. ويركز أيضا على التربية غير الاعتيادية التي تتلقاها البنات في تلك الأسرة بما أنها قد غرست فيهن معنى المسؤولية والتضامن وفي الأخير عشق الكتب.
إذا كان من المؤكد أن أميناتا ساو فال كاتبة محورية في الأدب السينيغالي فهي أيضا ممثلة للثقافة من الدرجة الأولى إذ أنها عضو من 1974 إلى 1979 في اللجنة الوطنية لتعليم الفرنسية في السينيغال وشاركت في إعداد الكتب المدرسية. ومن 1979 إلى 1988 شغلت منصب مديرة الآداب والملكيّة الفكرية في وزارة الثقافة. وأسست سنة 1987 المركز الإفريقي للتنشيط والتبادل الثقافي (CAEC) في داكار والذي يحتوي على مكتبة وقاعة اجتماعات ودار نشر "كوديا" من أجل دعم الكتاب الشبان وقد موّلته أساسا من عائداتها من حقوق التأليف ومن محاضراتها حول العالم ثم أسست المركز العالمي للدراسات والبحوث والتنشيط حول الأدب والفنون والثقافة (CIRLAC) في سانت لويس كمركز محاضرات وفضاء للجامعات الصيفية.
تلقت أميناتا ساو فال، المشهورة على الصعيدين الوطني والدولي، أوسمة (فرنسية وسينغالية) وجوائز أدبية عديدة حيث حصلت سنة 1980 على الجائزة الأدبية الكبرى لإفريقيا السوداء من أجل روايتها الثانية وفي 1982 حصلت على الجائزة العالمية للآداب الإفريقية من أجل روايتها الثالثة. كما تحصّلت على تكريم في ملتقى دكار الدولي في أفريل 2005 :"اميناتا ساو فال أديبة إفريقية ذات مستوى عالمي". وفي سنة 2015 أسندت إليها الجائزة الكبرى للفرانكفونية من طرف الأكاديمية الفرنسية. ولقد كان الاستفتاء الذي قامت به دور النشر التي رحبت بنشر روايتها بالغ التعبير عن إنجازاتها المذهلة الأكثر تميُّزا في فرنسا بما أن إبداعها كان غالبا يُقيَّم على أنه "شديد المحلية" وهو أمر لا يخلو من متعة بالنسبة لسينيغالية ترسم السينيغال. بالفعل، كتاباتها بعيدة كل البعد عن النظرة الغرائبية لمجتمعها ويرسمه من الداخل. وقد نشرت روايتها في داكار في دار المنشورات الإفريقية الجديدة ثم في منشورات كوديا. كما نشرت أيضا في منشورات سيبيا المخصصة حصريا لنشر الكتب الإفريقية لجنوب الصحراء الكبرى. وقد أعيد نشر بعض كتبها حاليا في دار الثعبان المجنح Serpent à plumes. كما أنها شاركت بأقصوصات في بعض التعاونيات وقد نشر واحد فقط من روايتها مباشرة في دار النشر الفرنسية الـ" Harmattan ".
ومع ذلك، وقعت ترجمة روايتها إلى أكثر من عشر لغات من بينها الانجليزية والروسية والألمانية والفنلندية والسويدية. ووقع اقتباس روايتها "العائد من الموت" لصالح التلفزيون السينيغالي وقام شيخ عمر سيسوكو باقتباس روايتها "اضراب المهزومين" للسينما ونفس الشيء قام به شيخ ندياي سنة 2005 مع رواية "نداء الحلبات". كما أقتبست نصوصها في برامج المعاهد والجامعات الفرانكفونية والانجلوساكسونية. إن اعمالها الأدبي ذات أهمية كبرى فمنذ 1976 وإلى اليوم تتوج ثمان روايات مسيرتها الأدبية إضافة إلى أقصوصات ومقالة حول الطعام ومسرحيات وقصائد، غير مسبوقة.
نُشِرت روايتها الأولى الموسومة بـ"العائد من الموت" سنة 1976 وتحكي خدعة "بكار" بعد أن غرق في الديون التي راكمها ولم يقدر على سدادها. فأقنع الجميع بأنه غرق ثم رجع ك"عائد من الموت" أثناء جنازته. تؤكد هذه القصة ما هو ثابت في روايات أميناتا ساو فال ألا وهو الغوص في الحياة اليومية للسينغالي من أجل تخليد بعض مظاهرها وادانة السوس الذي ينخر البلاد تحت اغراء المكسب. عن أنه لا يمكن للفنان، حسب هذه الروائية، أن يوجد ما لم يتورط بشكل كامل في مدينته.
تَأكَّد الطابع الاجتماعي لكتابتها بقوة مع ظهور روايتها الثانية سنة 1979 والتي منحتها الشهرة وهي "اضراب الباتو"- النفايات البشرية. لو أن الباتو هو الإناء الذي يقدمه المتسولون لتقبل الصدقة فيجب الاعتراف أن الكلمة لها رمزيتها في اللغة الفرنسية. وقع مور ندياي، مدير دائرة الصحة في الفخ الذي نصبه، لأنه أراد القيام بما طلبه منه أصحاب السلطة –أي تخليص المدينة من المتسولين- في سبيل الحصول على ترقية يحلم بها وفي نفس الوقت رغب في أن يكون أيضا تحت تصرفه متسولون من أجل تلبية مقتضيات مزاره. لكن هؤلاء المتسولون يقومون بالإضراب وذلك باختفائهم من المدينة. يعلق المدير في تناقضاته ولا يحصل على الترقية الحلم لأنه بطرده المتسولين من المدينة لا يقدر أن يفي بمتطلبات المزار.
تصور رواية "نداء الحلبات" المنشورة سنة 1982 صراع الأجيال بين مراهق يدعى "نالا" وأبويه نديوغو ودياتو وهو نزاع يتفاقم وتغذيه القطيعة الثقافية فالمراهق لا يجذبه إلا "تام تام" المصارعين الذين يدعوهم إلى قتال ترافقه الرقصات وأغاني المنشدين ووالداه يريدان أن يكون مثلهما غارقا في الثقافة الغربية ومنفصلا عن التقاليد. وهو أمر يتجلى في التناقض بين البورتيره المؤثر للمصارعَيْنِ "اندري" و"مالاو" بورتريه الأم المنغمسة في رفضها الهستيري للتقاليد.
تعالج رواية "الاب السابق للوطن" سنة 1987 بطريقة أصيلة موضوعا شائعا في الادب الافريقي إلا وهو نقد الرؤساء. مادياما هو رئيس سابق للبلاد ودكتاتور مخلوع. والرواية هي استجواب طويل له في السجن حيث يحتجز منذ ثلاث سنوات حول تحول حلمه في التغيير إلى عهد قمع ودم. يتذكر مادياما الأشهر الأولى له في الحكم حين كان مدعوما من السلطة الاستعمارية القديمة وحجج معارضه ديكو. تعطي الروائية الانطباع فعلا بأنه يدرك فقط في صمت السجن أنه كان دمية حين يقول:"في الحقيقة لم أكن أحكم. الجيش والدفاع والشؤون المالية وكل القطاعات الأساسية كانت ما تزال تحت سيطرة السلطة الاستعمارية في زمن الحكم الذاتي. كان ديكو، معارضي السياسي الوحيد، يصيح نظام عمالة ".
تصور رواية عناب الباتريارك الصادرة سنة 1993 زوجين يدعيان "ياللي" و"تاكو" مشبعين بقيم الأجداد الأرستقراطية ولا يعرفان كيف يتكيفان مع واقع البلاد الحالي ويغرقان في الفقر. يصف تاكو ذات يوم الشابة نارو التي رباها مع ابنيه بأنها خادمة. وليجد السلام يجب عليه أن يقوم بالحج إلى قرية الأجداد ويقف فوق قبر الباتريارك حيث تنمو شجرة عناب ذات قوى سحرية وتربط بين الاحياء والاموات والجد بابيسالي. تُدرج الرواية بشكل مستمر أساطير وملاحم كانت تُغنَّى قديما وتحتل ثقافة الأسلاف مركز الصدارة في المشهد الروائي.
تنقسم رواية "عذوبة الموطن" الصادرة سنة 1998 إلى زمنين أحدها صدى للأخر وإن كان نقيضا له. تصل "أستا" إلى مطار فرنسي في إطار بعثة لحضور مؤتمر دولي ومعها كل الوثائق التي تبرر مجيئها إلى فرنسا. بعد سلسلة من الظروف الكابوسية تجد نفسها ضمن مسافرين مطرودين ومرحَّلِين إلى بلدهم وتقضي عدة أيام فيما يطلق عليه "المستودع" وهو فضاء يجهله أغلب المسافرين في المطارات الباريسية لكنه موجود حقيقة. تنتظرها صديقتها "آن" دون جدوى. عند عودتها إلى بلدها ترفع "أستا" صوتها وترفض الإهانة. وبعد فقدانها لعملها تنطلق في مشروع عودة للأرض وللقرى مع ثلة من مواطنيها المرحَّلِين قسريا، بعيدا عن داكار في داخل السينيغال على ضفاف النهر العظيم وتردد:"لنحب أرضنا. سنسقيها بعرقنا وسنحفرها بكل قوانا وشجاعتنا. سيقودنا نور آمالنا وسنجني ونبني. حينها فقط سيمكننا أن نسلك الطرق التي تحملنا إلى السماء والأرض والماء دون أن يطردنا أحد مثل منبوذين."
شاركت أميناتا ساو فال سنة 2002 في تعاونية أرستها مؤسسة "بيلام" ونشرت، ضمن مجموعة تظمّ ستة أقصوصات تحمل عنوان "الملحمة الاطلسية (أعمال جنوبية) "، أقصوصة موسومة بـ"على الجناح الأيسر لبيلام". ويجدر في هذا الخصوص ذكر أقصوصتين متميزتين أخريين كتبهما كل من "آلان غيدي" و"ليونال ترويو". وتحكي هذه الأقصوصة مسيرة فرقة فنية صغيرة من داكار تنتظر الـ"مياومة" أي المنحة التي تسمح للممثلين وللمخرجين بالتنقّل في بلاد إفريقي مجاور لتقديم عروضهم. في آخر لحظة يعلمون أنهم لن يغادروا داكار بسبب إهمال المسؤولين فالبنك قد حصل متأخرا جدا على الإذن بالتمويل. لحسن الحظ، تظهر "راماتا" وتعيد ل"فودي" المسؤول عن الفرقة شهية خلق فني جديد. فتسرد عليه قصة "أماري" العائد إلى البلاد بفضل بيلام القارب السحري. وباخيارها ل"بيلام" كطوطم مجمتعي لا تتردد أميناتا ساو فال في زعزعة التمثل المعتاد للطوطم مع محافظتها على معناه كرمز مجتمعي:"قارب طوطم، ألا تجد أن هذا مبالغ فيه بعض الشيء؟"(...)
بطريقة ما شعر "فودي" بالارتياح لوجود الـ"راماتا" المجنونة وصعبة المنال والشاذة بالنسبة لأقاربه الذين يرفضون بعناد أن يفهموا أنها لم تخلق لتعيش الحياة بل لتحلم بها وتعيد تشكيلها على مقاس باقة ألوان متعددة تدور أبديا في خيالها وتمكنها، وفقا لرغباتها وتوهماتها ومزاجها، من تجاوز كل حدود الزمن والمكان والواقعي والماورائي بسعادة. وهكذا، ينسى "فودي"، مدفوعا بعمل ابداعي جديد، رغبته في الاستقالة بسبب تقصير المسؤولين.
تدور أحداث "رواية ولائم البؤس" المنشورة سنة 2005 في ساحة مضيافة ومفعمة بالحياة وتصوِّر قَدَر ابنيّ الأب "مار" المتقاعد ومصير بعض الشخصيات الأخرى. لا يتمكن الابنان رغم شهائدهما العلمية من الحصول على وظيفة فالبطالة منتشرة جدا بين الخريجين الجامعيين في حين أن المزورين والنفعيين يتكاثرون كالفطر. ينتاب الرجل المسن اليأس بسبب حيف الواقع، هو من اختار، على الرغم من دراساته المتقدِّمة، أن يبقى معلما لكي ينقل إلى تلاميذه بعض القيم. لكنه يعي أن لا مجال لليأس وعبر استغلال الإمكانات الموجودة فقط يتمكن من ايجاد الحلول في حين تظلّ مشاريع التنمية مجرد مزاحات مستهترة. ويمثل إمام ذلك المجتمع المحلي الحلقة الأساسية في تعاونهم المثمر.
تتركز روايات اميناتا ساو فال على جزء من المجتمع السينيغالي وتنظم حول بعض الشخصيات المؤثرة فسيفساء من الوجوه التي تنطبع لزمن طويل في عقل القارئ فمن الموظف إلى المدرّس ومن المتخرج العاطل عن العمل إلى المتقاعد ومن الرئيس السابق الدكتاتور المعزول إلى الحكيم المنعزل عن فساد الحاضر وشجع مالكي السلطة الجدد للترقيات. في الملتقى المخصص لبيلام المذكور آنفا كتب ليونال ترويو في "وصية دوار البحر" وهي أقصوصة شعرية ذات مستوى رفيع :"هناك طريقتان لبناء الأسطورة الشخصية. سائقو الشاحنات يركضون نحو خط الأفق خالقين بذلك أسطورة العبور في حين يفخر الآخرون بأن مسارهم عمودي يراقبون من خلاله ما يحدث وهم متمسكون بأصولهم". واميناتا ساو فال تنتمي دون شك إلى هذا الفصيل الثاني.
إن الثوابت الكبرى لعالم الروائية أميناتا تأكدت من إنجاز إلى آخر فهي قد صورت مجتمعها جاعلة من رواياتها "مرآة للثقافة السينيغالية". وساهمت أسماء الشخصيات أو الأماكن التي لا تتغير من أجل تبسيط القراءة على غير السينيغاليين في ذلك بشكل كبير. فالثيمات تتمحور حول التوترات بين الهويتين الأصلية والمكتسبة. تستقي كل واحدة منهما من أفضل ما في الأخرى خشية الغرق في وحل اغتراب يحطم الإنسان.
لقد اختارت تلك الواقعية في الكتابة التي تتخللها كتابة شعرية عند ذكر الطبيعة السينيغالية وفي المتعة المتخمة بنكهات الأطعمة واللقاءات. لقد منحت مكانا مركزيا للثقافة الشفاهية عى وجه الخصوص عبر الاغاني والحكايات والاساطير والخرافات المدمجة دوما بحنكة في المنطق الذي يحكم السرد. كما منحت الثقافة الشفهية مكانة ممتميزة خصوصا عبر الاغاني والحكايات والاساطير والخرافات المدمجة بطريقة ذكية ضمن منطقية الاحداث الروائية. وادرجت الوولووف في نصوصها خالقة بذلك العديد من التداخل اللغوي الذي يجبر القارئ على ان يعي انه رغم ان اغلب النص مكتوب بالفرنسية فالشخصيات التي يتتبع حركتها تتكلم لغتها الخاصة.


أعلن "بوبكر بوريس ديوب" في مارس من سنة 2017 في مجلة "العالم الديبلوماسي" أنه في مستقبل قريب سيكون هناك أدب مكتوب باللغات الإفريقية وبالنسبة للسينيغال سيكون بالوولوف وأضاف:"نظام الهيمنة هذا الذي فرضته آلية الفرنكفونية الثقيلة هو رغم كل شيء في طور الاحتضار. لقد فشل التطعيم وأدركنا فجأة أن الإنتاج الأدبي الإفريقي الناطق بالفرنسية كان دوما وبصورة قاطعة أدبا انتقاليا. في السينيغال، بإمكان الأدب المكتوب بلغة الوولوف أن يحُلَّ محَلّ ذاك الناطق بالفرنسية في وقت أقرب مما نتوقع. سيحدث ذلك خلال عشرين سنة أو ثلاثين؟ إنه أمر غير مهم فعلى مستوى التاريخ لا يُعدُ ذلك سوى طرفة عين. إن كان الأمر قد صار حتميا في هذه البلاد المحب لكل ما هو فرنسي أكثر من سواه فذلك يعني أنه عاجلا أو آجلا سيعم كل مكان في إفريقيا."
ليس هناك شك في أن العمل على اللغات في كتابة أميناتا ساو فال هو تجسيد لانتقال بالغ الخصب نحو أجيال أخرى من الكتاب السنغاليين مما يجعل منها نقطة الاتصال بين الأجيال الحالية والأجيال القادمة. أثناء قراءتها لا يمكن للمرء إلا أن يربطها بقراءات مهمة أخرى مثل حكايات أمادو كومبا لبيراجو ديوب (1947) ، وأطراف غابة الله (1960) لسيمبين عثمان ولكن أيضا روايته الأقل شهرة "يا بلاد شعبي الجميل (1957) وروايات فاتو ديوم ، بطن الأطلسي (2003) ، واللاتي تنتظرن (2010) والرجل العجوز على القارب (2010) وآخرون من الضروري الإشادة بهم.
تتميز روايات أميناتا سو فال بالسلاسة في القراءة لشدة دقة اللغة والتوازن بين الواقعية والشعر. ولا يتردد الصوت السردي، المباشر أو من خلال إحدى الشخصيات، في استعمال الفكاهة أو السخرية دون أن يملّ أبداً من شجب الانحرافات التي تطال البلاد عبر اتهامات غالباً ما تكون قاسية وغير مهادنة للمؤسسات القائمة ودون أن يتوقف عن لفت الانتباه إلى الثروة الثقافية والبشرية للبلاد وللقارة.






دمتم بخير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التواصل لطفا
منير الكلداني ( 2020 / 12 / 12 - 21:17 )
مساء السعادة والسلام برجاء التواصل على الفيس

منير الكلداني

مدير شبكة محررون

اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا