الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خانة الشواذي. . . رواية موقف الشخصيات. .

صباح هرمز الشاني

2020 / 12 / 7
الادب والفن


صباح هرمزالشاني
هذه هي المرة الثانية التي أقرأ فيها رواية يبلغ عدد صفحاتها (230) صفحة في جلسة واحدة. وهي الرواية التي أنا الآن بصدد التعرض لها، الموسومة (خانة الشواذي). أما الرواية الأولى التي قرأتها على هذا النحو، فقد كانت رواية (الياطر) لحنا مينا في منتصف السبعينيات للقرن الماضي، أي قبل نصف قرن تقريبا. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل، على أن مؤلفها عبدالخالق الركابي، صانع رواية بحرفنة، ويعرف كيف يشد المتلقي الى منجزه بجرة نفس تخلو من مطبة المحطات، أو التوقف بين محطة وأخرى للإستراحة فيها، وذلك من خلال قدرته في إرجاء المعلومة، وإعطائها على دفعات، أو جرعات متتالية كالتي تمنح للمريض. وندرة من الروائيين بوسعهم تحقيق هذا المنجز، وهو عدم قراءة الرواية في عدة جلسات، وإنما في جلسة واحدة. ذلك أن مثل هذه القراءة بغض النظر عن مذاقها الخاص ومتعتها النادرة، فهي الطريقة المثلى لإستيعابها والتفاعل معها بصدق.
وهنا يطرح هذا السؤال: ترى ما هي الأسباب التي دفعت بهذه الرواية لأن تقرأ كذلك؟ إن الإجابة على هذا السؤال ليس صعبا، لسبب بسيط جدا، وهو أن كل رواية تتوافر فيها العناصر والمقومات الفنية، كالتوتر والإثارة والتشوبق، قابلة لأن تقرأ كذلك، ولكن بالرغم من ذلك فإن هذه العناصر والمقومات غير كافية لوحدها، ما لم تقترنها أساليب السرد الحديثة، كما أن متنها الحكائي يلعب دورا جوهريا، إن لم يكن عاملا حاسما في شد المتلقي اليها، هذا فضلا عن حياكة بنائها الفني بشكل هندسي منتظم ومدروس بدقة في كل جوانبه، إبتداء من المكان، حيث تدور معظم أحداث روايتنا هذه في مدينة بدرة، لتتحول الى بيت واحد، أشبه بأسرة كببرة تعيش تحت خيمة واحدة، من خلال العلاقة المتينة التي تربط بين سكانها الطيبين، وهي على الأغلب المدينة التي عاش فيها المؤلف، ألأجدر مدينته تحديدا، ومرورا بالزمان، حيث تتعاقب ثلاثة أجيال فيها، وهي جيل طه ونزار من جهة، وجيل فيصل الأحمر ونادر وطلال من جهة أخرى، وجيل بشير وناظم من جهة ثالثة، لتتداخل وتتشابك هذه الأجيال مع بعضها البعض في تقاطع أشبه (بالكلمات المتقاطعة) التي من الصعب فك ألغازها، وإنتهاء بالأحداث غير المألوفة التي شهدتها أهالي هذه المدينة وقاست منها، بفعل تحويل بيوتها الى مأوى للسياسيين المنفيين، وأبرزها إيواء (ملاك) الفتاة الأرمنية في دار فيصل الأحمر، بوصفها سجينة سياسية منفية الى مدينة بدرة، من مدينة بغداد للتوقيع في مركز الشرطة، مرتان في اليوم. فمن هذا الحدث الغريب، يبدأ الصراع في هذه الرواية، بين فيصل الأحمر ونادر من جهة، وبين ملاك عيسى وفيصل من جهة ثانية، وبين أهالي المدينة وفيصل من جهة ثالثة، أي أن فيصل في الوقت الذي هو في صراع مع الجميع، في الوقت ذاته يرفضه الكل.
تتوزع الرواية على اربعة أبواب، الأول تحت عنوان (كلمات متقاطعة)، مجزءأ الى سبعة فصول، والثاني تحت عنوان (حب خلف الاسلاك)، مجزءا الى أحد عشر فصلا، والثالث تحت عنوان (نصف الحقيقة)، مجزءا الى ثمانية فصول، والرابع تحت عنوان (الماضي حاضرا)، مجزءا الى ستة فصول، وبذلك يبلغ عدد فصول الرواية (واحد وثلاثين) فصلا، لا تتعدى طول كل فصل أكثر من ست صفحات وأحيانا سبع صفحات، بينما يفوق عدد صفحات الأبواب على الفصول. إذ يبلغ عدد صفحات الباب الأول ست عشرة صفحة، والباب الثاني، أثنتي عشرة صفحة، والثالث والرابع سبع عشرة صفحة لكل واحد منهما.
تستمد هذه الرواية قوتها، مثلها مثل رواية (ملوك الرمال) لعلي بدر من قدرة المؤلف في تحويل قصة بوليسية الى رواية، تتوافر فيها كل المقومات الفنية، وذلك من خلال لجوء السارد الضمني (نزار) المكلف بسرد الأحداث بدلا عن المؤلف بالتعويل على الضمير (أنا) في حياكة بنية الرواية على العناصر الفنية المكونة للرواية، وهي: الإيحاء والتناص والتواتر والإرتجاء والتماثل. وكذلك الأحداث الكبيرة والمفاجآت غير المتوقعة التي تقع فيها، فضلا عن تحوير المنحى السياسي المفروض أن تتوجه نحوه، بأعتبار المدينة التي تجري فيها الأحداث مأوى للسجناء المنفيين السياسسيين، سيما أثر نفي ملاك اليها وإستقرارها لفترة فيها، الى أقرب الى المنحى البوليسي، والكشف عن الظلم والإضطهاد الذي يتعرض له الشعب الأرمني، من خلال الدفاع عنه، سواء كان في بلده الأم (أرمينيا) أو العراق. وهذه هي الرواية الخامسة على ما أظن تنحو هذا المنحى، وقد سبقتها الروايات التالية في تعرضها لمأساة المسيحيين واليهود، وهي رواية: يا مريم لسنان أنطوان. عمكا لسعدي المالح. طشاري لإنعام كججي. وفرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي.
تفيض الرواية بتقنية الإيحاء، وتكاد لكثرة توظيفها البالغة تكرارها أكثر من عشرين مرة، أن تطغي على التقنيات الأخرى. وتشرع هذه التقنية من التحول الذي يطرأ على شخصية (فيصل الأحمر)، بإتجاه إنخراطه في سلك الأمن السيء الصيت، من خلال إصطحابه معه في السيارة التي تقل المسافرين من الكوت الى بدرة، أحد السياسيين المنفيين، بفك الأصفاد المربوطة زنده بزند المنفي، مقيدا إياه الى أحد مقاعد (خانة الشواذي). نافذا هذا الإيحاء من لدن (نادر)، عبر إبداء عدم رضاه لسلوك فيصل: (وهو يطالعه بعينين خضراوين غاضبتين مدينا إياه على قسوته مع هؤلاء المنفيين.). في إشارة الى عكر صفوة علاقة الصداقة التي كانت تجمع بينهما منذ طفولتهما.
وإذا كان الإيحاء الأول لفرط هذه العلاقة بين الصديقين، يبدأ من غضب نظرات نادر، فإن الإيحاء الثاني يأتي بعكس توقعات والد نادر، الذي نصح أبنه أن يقيد (فيصل) في السفرة القادمة الى أحد مقاعد خانة الشواذي، ذلك أن (فيصل) هو الذي يقيد (نادر) الى أحد مقاعد خانة الشواذي في نهاية الرواية. وعلى أثره يموت الأثنان، وينجو (طلال) باعجوبة، ولكن يعتقل، وفي أعقاب تمرد سجناء سجن بغداد المركزي، يختفي كل أثر له.
لكي لا يبقى الخلاف من طرف واحد، ويأخذ منحى آخر، لإرتقائه الى مستوى الصراع، يعمد السارد الضمني الى بث روح الغيرة في نفس فيصل تجاه نادر، عبر عدم القدرة على منافسته بالتودد ليس الى البنات المقاربات لهما في السن فحسب، بل الى النساء المتزوجات أيضا. لتوحي هذه الغيرة، بأنه سينافس (فيصل) لاحقا وسيدخل معه في صراع محتدم على الفتاة المنفية الى مدينتهما (ملاك). وهو بهذا الإيحاء، أستجد تقنية أخرى، وهي تقنية التماثل، من خلال وضع الصديقين في موقفين متقابلين. أي أنه جعل من خلافهما السطحي هذا، تمهيدا لما سيخلفه من خلافات أشد منه.
كما في روايته:(أطراس الكلام)، يلجأ الركابي الى عمليتي الإستحضار والتمهيد للحدث ، كذلك فإنه في هذه الرواية يستخدم الأسلوب ذاته، وذلك من خلال الإيحاء الى وقوعه في الماضي، كما في حديث ناظم لبشير عن السيارة التي ضلت سبيلها في طريقها غير المعبد والصحراوي بين الكوت وبدرة: ( ولم يعثر عليها إلآ بعد مرور أسابيع أو أشهر تحول خلالها المسافرون المنكودون الجثث أجهزت الذئاب عليها.).
إن هذا الإيحاء بقدر ما هو مكرس لمصرع (ناظم) والد فيصل الأحمر، بالقدر ذاته إمتداد لما يحدث من نهاية مأساوية لنادر وفيصل. وتتكرر مرتان الجملة التي توحي الى صعوبة أجتياز المنطقة الصحراوية الممتدة بين الكوت وبدرة في فصل الشتاء، أثناء هطول الأمطار، في الحوار الدائر بين ناظم وبشير، وهما يقلان سيارتهما القديمة في تلك المنطقة. في المرة الأولى في الصفحة (47) والثانية (49).في الأولى: المشكلة في الصيف هينة، بيد انها تتعقد في الشتاء وهطول الأمطار حيث تغمر مياه الفياضانات هذه الصحراء الممتدة على مدى البصر، فتتحول الى أهوار لا سبيل الى أجتيازها إلآ بمشحوف!
الثانية: ففي فصل الشتاء لا تكاد تنهمر زخة مطر حتى يستحيل على السائق مهما أوتي من مهارة وفطنة الإطمئنان الى خط سير شاحنته، ذلك لأن مياه المطر تغطي الأرض وبذلك لا يسعه التمييز بين الحفر والبرك التي تنتشر أمامه مثل أي فخاخ مهيأة للإيقاع بسيارته في أية لحظة.
وهذا ما يحدث لناظم، إذ بعد ثماني صفحات من الإيحاء الأول، وست من الإيحاء الثاني، تحديدا في الصفحة (55)، تشاهد: (عشرات النسور محلقة تاركة خلفها جسد ناظم وقد أحرق البرق قميصه تاركا وشما داميا على إمتداد وجهه وصدره الساكن الى الأبد).
إن إلقاء نادر بنظرة حذرة الى المسدس الذي أخفاه فيصل تحت طية سترته، توحي الى أن هذا السلاح سيستخدم في يوم ما، بالأحرى أن مجرد ظهوره حتى كقطعة أكسسوار، سواء كان ذلك في الرواية أو الشاشة الكبيرة والصغيرة على حد سواء، أو المسرح، يشي بأنه لم يأت عبثا. وثمة هدف من وراء ذلك. كما في مسرحيتي تشيخوف مثلا (الخال فانيا)، وإحدى فودفيلاته، وهي على ما أظن (الخطوبة). ففي الخال فانيا، يظهر المسدس في المرة الأولى، ويطلق الرصاص في المرة الثانية الذي لا يصيب الطبيب، أما في الخطوبة فبالرغم من كون الخريطة المعلقة على الجدار هي واحدة من أكسسوارات المسرحية، إلآ أنها لم تستخدم إلآ للتعبير عن طبيعة المنطقة القاسية التي تجري فيها الأحداث، وهي أفريقيا.
أما في روايتنا هذه، يظهر المسدس مرة واحدة في الصفحة (58)، ويستخدم مرتان. يستخدم في المرة الثانية، في الصفحة (98)، أي بعد مرور أربعين صفحة من ظهوره الأول، وفي الثالثة في الصفحة (222)، بعد مروره أربع وستين صفحة على ظهوره، وأربع وسبعين صفحة على إستخدامه.
جاء إستخدامه في المرة الثانية، مقرونا في إستهداف نادر، في أحد مضارب الغجر، مبررا فيصل فعلته هذه فيما بعد، أنه كان ثملا: (وقد رفع مسدسه وأصبعه على الزناد ليخفضه بحركة مفاجئة مستهدفا بإطلاقته نادر الذي قفز بدوره مع إنفجار الدوي الأصم وقد شحب لونه غير مصدق أن الرصاصة أخطأته.).
بينما جاء إستخدام المسدس في المرة الثالثة من قبل طلال، أثر إختطافه من بين يدي فيصل للحد من إقتراف حماقة توجيهه الى نادر، وتحريره من الأصفاد التي قيد بها في مؤخرة أحد مقاعد السيارة، لئلا يموت غرقا، وتبين فيما بعد أن فيصل لقي مصرعه غرقا، وليس بالطلقة التي وجهها نحو طلال: ( ذلك في اللحظة التي ضغط فيها طلال على زناد المسدس، في اللحظة نفسها التي شعر بضربة صاعقة تنصب على رأسه أفقدته الوعي على الفور.).
كما أن الحوار الجاري بين (كريستينا) والدة نادر، و(آمنة) زوجة طلال ووالد (طه) حول قلق الأولى من عودة أبنها سالما الى البيت، لإنقطاع السبل الممتدة بين بدرة والكوت، وطمأنتها الثانية بالعودة، يوحي الى مصرع فيصل ونادر في نهاية الرواية.
كريستينا: وكيف ستتم هذه العودة والسبل الممتدة بين بدرة والكوت قد تنقطع في أية لحظة بفعل غضب الله الذي لم يكف عن إنصبابه فوق الرؤوس؟
آمنة: أستغفري الله يا أختي، فهي ليست أول مرة يتم فيها السفر في يوم ممطر، فذلك هو شأننا في أغلب أيام الشتاء.
وتكشف الرواية في عدم تناصها مع مسرحيتي الخال فانيا والخطوبة لتشيكوف فحسب، وإنما مع رواية (نور) ليوسف زيدان أيضا، وذلك من خلال توظيف صلاة الجامع لما يحل بشخصياتهما من يأس وقنوط. ويتكرر هذا التناص أربع مرات . في الصفحة (12) و(14) و(20). في المرة الأولى أثناء ما أطل السارد الضمني نزار من إرتفاع أثني عشر طابقا على شارع حيفا، ليبدو كل ما لاح له من جامع الشيخ صندل وجامع عطا وجسر باب المعظم ونهر دجلة، في ضوء الغروب، يبعث على اليأس والقنوط. وفي المرة الثانية أثناء تبدد أمنيته لرؤية عملية دفن صديقه طه في بلاد الغربة، لينطلق تكرار صوت المؤذن من جامع الشيخ صندل. وفي المرة الثالثة أثناء إحتراق مركز بغداد للفنون، إذ ما عاد الى الشقة بعد تفقده للمركز، حتى: ( أستقبله صوت المؤذن من جامع الشيخ صندل.).
بالرغم من أن الهدف من صوت الجامع جلي في كلا الروايتين، وهو الهدف نفسه، بيد أن نبرة توظيفهما يختلفان. فإذا كانت نبرة رواية خانة الشواذي خافتة وغير مباشرة، فإن نبرة رواية نور عالية ومباشرة.
ولتتضح صورة الإختلاف بين توظيف النبرتين أكثر، أنقل ما يخص هذا الجانب فقط عن المقال الذي كتبته عن هذه الرواية، علما أن هذه النبرة مثل رواية خانة الشواذي قد تكررت فيها أكثر من مرة:
(ولنفور المتلقي من هذه العادات والتقاليد البالية، أو بقصد لفت إنتباهه الى هذه المثالب الشائعة في المجتمع العربي يلجأ السارد، شروعا من إستهلال الرواية الى التصدي لظاهرة إطلاق أصوات المساجد، بما دفع المشرفون عليها على أقتناء أعلى مكبرات للصوت لنشر الأجش في المنطقة المحيطة بالشقة التي تسكنها نورا. لذا وتجنبا للإزعاج وقبل أن تنتهي الأصوات المتداخلة من تكرار تأكيدها عبارة لا إله إلآ الله، تتجه نورا وتغلق الضلفة الزجاجية المغبشة بكوة المطبخ. في إيحاء الى رفض هذه الأصوات. . ).1
وإذا كان السارد قد لجأ الى تقنية الإيحاء، تمهيدا لمواجهة المتلقي لنهاية الأحداث، وشده لها، والتناص للتخلف الذي يعاني منه المجتمع، فإنه عمد في حمل ملاك، وهو حبكة الرواية، الى أن تأخذ الرواية منحى بوليسيا، لخلق نوع من الغموض لدى المتلقي، عن الشخص الذي حبلت منه هذه الفتاة، هل هو فيصل، أم نادر؟ ذلك أنها تعيش مع الأول، ولها علاقة عاطفية مع الثاني. مع الأول لكونه متهورا من جهة، وفاقدا للمباديء من جهة ثانية، والأهم من السببين السالفي الذكر، أن ملاك بنفسها أعترفت لوالدة نادر، بأن فيصل: (بدأ يلاحقها، في الآونة الأخيرة بنظرات متشككة. ..). والثاني لممارسته الجنس معها في الصفحة (111) :( في حين مضى جسديهما يواصل إيقاعهما المتناغم الذي أنتهى بتلك اللحظة التي فقد خلالها الشعور بكل ما حوله خلا جسديهما في توحدهما الخارق.).
يبدأ الغموض في حمل ملاك في الصفحة (111) وينتهي، ليعرف المتلقي أنها حملت من نادر في الصفحة (219)، أي بعد (108) صفحة، وملاك تقول لنادر: (أمر واحد سيبقى مبعث حزني يتمثل بأن القدر لم يسعدني بأن أراك أبا لطفلنا.).
إن عملية إرجاء الحدث من السمات البارزة في هذه الرواية. ذلك أن السارد يقر على عظمة لسانه بأن شخصياته، ترجيء الحدث، من خلال قوله: ( هكذا عرفت طه يرجيء الأمر طول مدة ممكنة في إنتظار أن تحل اللحظة المناسبة.). فالسارد بقدر ما أستخدم هذا الأسلوب في تضليل سيارة الباص الخشيبة في الصحراء الممتدة بين الكوت وبدرة، وغموض حمل ملاك عيسى. بالقدر ذاته أستخدم هذا الأسلوب في إختفاء والد طه (طلال) في سجن بغداد المركزي، مستهلا الرواية بمراسم دفنه ومتذكرا معاناته لعدم إحاطته بالأسباب التي أدت الى إختفائه، بإعتبار أن هذا الحدث، وإن كان إمتدادا لحدث تضليل السيارة، في تزاوج كلا الحدثين ليصبحا حدثا واحدا، الى جانب الحدث السالف الذكر، فالأحداث الثلاثة، المختزلة في حدثين، تشكل الركيزة الأساسية للمتن الحكائي للرواية، ولغزها الذي يصعب فك رموزه. إن ما أود أن أقوله بهذا الصدد، هو أن السارد أثار لغز إختفاء طلال من مطلع الرواية، ولم يفكه إلآ بعد مرور(196) صفحة من إثارته لهذه القضية، عبر عثور المحامي نجيب بك على الملف الخاص بسجناء بغداد المركزي، لتنكشف كل الأسرار، من سر إختفاء نادر وملاك الى سر الجريمة التي حصلت في سيارة الباص الخشبية. وبهذا فقد كانت الأحداث الثلاثة المختزلة في حدثين، بوصفهما لغزان، تمثلان لطه، نصف حقيقة ما حصل، ولكنه مات دون أن يحصل على نصف الحقيقة المتبقية، مجسدا نصف الحقيقة التي أطلع عليها من رسائل المقربين اليه، في لوحته التي أستطاع من خلالها أن يدنو الى حد كبير مما حصل في الباص، وهو يصور: (الباص غارقة الى منتصفها في الماء. تظهر فيها جثة منتفخة، وقد قيدت إحدى ذراعيها الى أحد مقاعد السيارة، في إيماءة واضحة الى (نادر)، وثمة شخص مضطجع على سطح السيارة نفسها يبدو بدوره أشبه بجثة ميت، في إشارة واضحة أخرى الى (طاهر)، ولم تظهر صورة فيصل في اللوحة، ربما لأنه ليس الضحية كطلال ونادر، وإنما هو الجلاد بعينه، بقصد عدم تعاطف المتلقي معه. أما بقية اللوحة فقد كرسها للمتظاهرين السجناء في سجن بغداد المركزي، أثر حصول المجزرة في هذا السجن، وإختفاء والده بسببها.
مثلما يلجأ السارد الى إرجاء الحدث، كذلك يتبع في إيصال المعلومة، بالطريقة نفسها، كما في الحوار الدائر بين السارد ونجيب بك المحامي، حول لغز إختفاء طلال في سجن بغداد المركزي، إذ يعمد السارد الى إعطاء أكبر قدر ممكن من الحرية في الكلام لنجيب بك، بهدف خلق التوتر لدى المتلقي. أو يجعله أن يخرج من الموضوع الرئيس ويدخل في موضوعات جانبية وفرعية لا علاقة لها بالموضوع الذي جاء نزار من أجله.
إلآ أن اللجوء الى إستخدام المونتاج القاطع بين فصلين والإنتقال من موضوع الى آخر، كما حدث في الفصلين الثالث والرابع من الباب الأخير، ولكونه قد جاء في ختام الرواية تقريبا، والمتلقي في توق لبلوغ نهايتها، فإن مثل هذا المونتاج لا بد أن يزيد من توتر المتلقي، ولهفته لمعرفة نتيجة إحتدام الصراع الناجم بين فيصل ونادر. والأمثلة بخصوص إرتجاء الحدث كثيرة، بقصد حفز المتلقي على التوتر والتشويق والترقب، غير أنني أكتفي بهذا القدر. ولعل قول السارد بنفسه: (وتركني لحظات أتحرق لمعرفة ما قام به.)، أثبت دليل على صحة ما أذهب اليه.
بالإضافة الى تقنية الإيحاء والتناص وإرجاء الحدث، فقد أستخدم السارد تقنية التماثل في ثلاث حالات، تتمثل الحالة الأولى في مضايقة نادر من التقرب الى فيصل ومصادقته، وذلك في بداية تعارفهما على بعضهما البعض، ولكن بتشجيع من أمه بمسوغ دفاع فيصل عنه من إعتداءات الصبيان الذين في سنه أو أكبر منه، أضطر أن يواصل صداقته معه لتستمر الى فترة شبابهما. مقابل الغيرة التي تدب في أعماق فيصل تجاه نادر، لتودد الفتيات وحتى النساء المتزوجات اليه، ليبلغ هذا التودد حد إحتضانه وتقبيله.
أما الحالة الثانية للتماثل، تتمثل في إخفاء فيصل مفتاح السيارة عن أبيه، كي لا يقوم مجددا بإحدى رحلاته الى الكوت، بيد أن والده أستغفله وخرج بشاحنته القجمة، وقد حصل على المفتاح من أم فيصل التي كانت تحتفظ بنسخة منه. وبعبارة أوضح أن الأب أستغفل فيصل. مقابل إستغفاله من قبل نادر، بهروب ملاك عيسى مع نادر وهو حارسها وتسكن في داره.
والتماثل الثالث، يكمن في تماثل مصير لوحة طه، مع عدم معرفته لنصف الحقيقة المتبقية من إختفاء والده. ذلك:(لأن تلك اللوحة كانت تمثل لطه الكثير ليس لأنها كانت سبب ذيوع صيته فحسب– فقد أختيرت ضمن الأعمال الفنية التي تزدان بها إحدى قاعات المركز الخاصة بأعمال الرواد وكبار الفنانين المشهورين – بل لأنه جسد بها مصير أبيه الغامض الذي كان سبب تعاسته.).
تتكرر مفردة (المصباح) أربع مرات في الرواية، إبتداء من الصفحة السادسة الى الثانية عشرة، تأتي في المرة الأولى بإعتبار أنه يشع بضوئه الأحمر فوق باب سلم بيت فيصل المجاور، وقد أصطبغ بلون الدم، وفي الثانية بوصفه إشارة للقائهما، وعدم مجازفة نادر بالتسلل نحو السياج الفاصل بين السطحين إلآ حينما يكون المصباح مضاء، والثالثة بإنصباب الضوء الأحمر على خالة فيصل نصف العمياء، والرابعة بإشعاع المصباح بضوئه الأحمر، ليتحفز كل عرق فيه.
ولو أعدنا قراءة هذه الجمل، لوجدنا أن السارد يركز على جملة المصباح الأحمر، لتأتي، مرتين للدلالة على الخوف، ومرة للدلالة على ممارسة العملية الجنسية، ومرة بوصفها إشارة للتأكيد على وجود ملاك فوق سطح المنزل، حيث يلتقيان، في المرة الأولى من خلال إستعادة نادر وهو عند السياج، ذكرى تلك اللحظة المرعبة حينما كاد فيصل يرديه بإطلاقة مسدسه وسط صراخ الغجريات، والثانية، مشبها ضوء المصباح الاحمر الخافت بلون الدم، للإيحاء الى ما يؤول هذا اللقاء بينه وبين ملاك في النهاية الى مصرع الأثنين. والثالثة لتنفس ملاك الصعداء، ظنا منها أن المتسلل هو فيصل، بينما كان خالته. والرابعة من خلال رغبتهما التقلب في وسط المفارش والوسائد، مغترفين لذتهما من إلتقاء جسديهما.
إن توظيف ضوء المصباح الأحمر من منظورين مختلفين ومتضاربين، أحدهما يبث السعادة في دواخل العاشقين، والثاني بالعكس الشقاء. الأول في اللحظة التي يعيشان فيها، والثاني للحالة التي ينتهيا بها، لا يشي بالقدرة التي يتحلى بها السارد في توظيف الرمز فحسب، وإنما مد جسر من الترابط المبني على التناقض بين مؤدى هذا الرمز وبين الأسم الثاني لفيصل الذي هو (الاحمر) القائم هو الآخر على التناقض، أو كما يقول السارد: (تلك كانت مهنة فيصل التي لقب بسببها بكنية (الأحمر)، وهي كنية تنطوي على ضرب من مفارقة. أن يحمل – وهو شرطي الأمن – صفة ضحاياه من السياسيين المناوئين للسلطة!).
بالرغم من أن الرواية تعول على السرد الذاتي، بيد أن المتلقي يترآى له، أنها تعتمد على السرد الموضوعي أيضا، ما عدا في بداية ونهاية الرواية، ذلك لنأي السارد بنفسه من الأحداث، مع أنه يشترك فيها، ليسمح لشخصياتها أن تعبر عن صوتها بكامل حريتها، لذلك فهي شخصيات بوليفونية. بعكس إشتراك السارد في أحداث رواية (نور) ليوسف زيدان مثلا الذي تتصدر صورته أمام المتلقي، لأنه يبحث عن الشخصية القوية، بينما السارد في هذه الرواية يبحث عن موقف الشخصيات، فكل شخصيات هذه الرواية بما فيها فيصل الأحمر لا تخلو من موقف. وإذا كان موقف نادر يتحدد برفضه وإدانته لإنخراط فيصل في سلك الامن، وسعيه إنقاذ ملاك عيسى من منفاها، فإن فيصل كان الحارس الامين لنادر في طفولتهما.
إن وفاء السارد لمدينته بدرة، أنتج أناسا كلهم أوفياء عبر مواقفهم، وأعتقد هذا ما أراد أن يقوله عبدالخالق الركابي في روايته البائزة هذه.
المصادر:
1-تحكم المكان بالشخصية المحورية في رواية نور ليوسف زيدان. (حياكة السرد في الرواية العربية). تأليف: صباح هرمز. المزمع إصداره عن إتحاد الأدباء والكتاب في العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا