الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر وتراثه

حكمت الحاج

2020 / 12 / 8
الادب والفن


.. قد يكون من الصحيح إن الحياة غير مرضية، وفيها الكثير من المنغصات والإحباطات، لكن، وعن طريق العقل، يستطيع الإنسان أن يغير من واقعه. لا ينبغي للإنسان أن يستسلم. الإنسان بعقله ومخيلته عملاق لا قزم. أما "تقزمه" فيظهر عندما يتهيأ له انه كذلك. ومن هنا، يقول والاس ستيفنز، فإن أفضل طريقة للتعامل مع الحياة هي أن نعيشها ولكن، خارج إطار التصورات الموروثة. يجب أن يكون الإنسان مستقلا في فكره وفي مواقفه، ويجب عليه أن لا يتقبل أفكار الآخرين ولا تصوراتهم، دون هضمها أولا. إن "ستيفنز" هنا متأثر دون شك بفلسفة "رالف والدو إمرسون" الذي يؤكد إن موطن القوة في الذات البشرية إنما يكمن في الجانب الروحي منها، وأنّ الإنسان إذا ما نظر الى العالم بمنظار عقلي أو روحي، فإنّه يستطيع تغيير عالمه بكل سهولة. يقول "إمرسون" إن للمحيط والبيئة تأثيرهما، ولكن، للعقل أيضا تأثيره. البيئة تقيدنا، والعقل يحررنا.
ومن هذه الزاوية يمكن النظر الى شعر "والاس ستيفنز" على انه تجسيد حي لقصة التفاعل بين العقل والبيئة. ذلك التفاعل الذي يطوع البيئة ويظهرها لنا "بالصورة التي نرغب". ولكن شاعرنا كان يحس بالإحباط والفشل والمعاناة والمأساة الذاتية والإنسانية. غير أننا يجب أن لا ننسى -وربما كان هذا هو ما يميزه في النهاية- إن في نظرته الى الحياة الكثير من التفاؤل والأمل. الإنسان في نظر الشاعر قد فقد الكثير، لكنه لم يفقد كل شيء. هنالك قدرته على خلق عالم خاص مستقل يغنيه عن العالم المعاش، العالم الخارجي. وهذا ليس بالأمر السهل على الإطلاق.
النقطة الأخرى التي تهمنا في مسيرة الشاعر "والاس ستيفنز" وهي نقطة تهمنا دون غيرها بالتحديد وذلك لمساسها بشعريتنا العربية الراهنة، هي إن نصوص هذا الشاعر هي "تصحيحية" في معظم جوانبها. فماذا نعني بهذه اللفظة؟
يعرف عن " ستيفنز" أنه كان يقرأ الكثير، وأنّه كان قارئا بعين فاحصة ناقدة. يضاف إلى ذلك إن قراءاته كانت تشكل في الغالب نقطة البداية للمشاعر والآراء التي يبلورها فيما بعد في قصائده. وتكمن أهمية أعماله التي تنتمي إلى هذه الطريقة ليس فقط في مضامينها، بل في طريقة كتابتها ذاتها، إذ أنّ "ستيفنز" يفتح هنا، أمام الشاعر المعاصر، بابا مهما يفضي الى مملكة الكتابة. كذلك يعطينا منهجا مفيدا في التعامل مع التراث عموما، التراث الذي يعني في هذا السياق، كل ما سبق من تدوين. فلقد عاش الشاعر في زمن ظن فيه معاصروه أن كل ما يمكن أن يـُكتب قد كُتب، وأنّ كل ما يمكن أن يُقال، قد قيل، وأصبحت قضية التعامل مع التراث تشغل بال الكثيرين. وإذا كان الشاعر " ت. س. أليوت" قد قدم لنا طريقة في معاملة التراث تتلخص في أن نأخذ ما يناسبنا منه، وأن نترك جانبا ما لا يناسبنا، فإن "ستيفنز" يقدم لنا طريقة أخرى تقوم على تدعيم بعض جوانب التراث وإبراز ملامحه وإعادة تقديمه للقارئ في تعابير وأشكال جديدة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه يجب في نفس الوقت مخالفة هذه الملامح وهدمها وطمس معالمها. ولا شك إن ستيفنز يخالف ويهدم، أكثر مما يعزز ويبلور. ويقول في هذا الصدد: "لربما يكون أكثر فائدة أن نغضب الفلاسفة من أن نُـمـالـئهم". وهذا هو الطابع المميز لقصائده. فكل عمل أو نص جديد، كليا أو جزئيا، يعتمد في بنائه على هدم عمل أو نص قديم، كليا أو جزئيا.
ومن هذه النقطة نقول بأن القارئ المؤهل لفهم قصائد "ستيفنز" فهما جيدا هو القارئ واسع الاطلاع، الذي عندما ينظر الى نص من نصوص "والاس ستيفنز" يستطيع أن يسترجع في ذهنه، أو أن يتذكر في الأقل، ذلك النص الأصلي الذي بنى الشاعر قصيدته على أنقاضه. فمثلا، قصيدته العظيمة "إمبراطور الآيس كريم" ما هي إلا قصيدة قد كتبت لتكون هيكلة جديدة لبناء شعري قديم تم تشييده قبل ما يقارب الثلاثمائة عام من تاريخ كتابتها عبر قصيدة للشاعر الميتافيزيقي "جون دون". وكلتا القصيدتين تتحدثان عن موضوع واحد، هو الموت. ولكن، شتان ما بين طريقتي التناول، وهذا طبيعي جدا إذا ما وضعنا في الحسبان ما يفصل من زمن بين العملين والرجلين، تغيرت خلاله كثير من الأشياء، ويضمنها طبعا، الموقف من الموت، وأسلوب مواجهته، عبر الشعر والحياة.
ونحن إذ نحاول أن نقدم للقارئ الكريم ترجمة للعملين الشعريين الكبيرين، نلفت انتباهه الى إن القصيدة، موضوع حديثنا في التأثر والتأثير، هي للشاعر الإنكليزي الشهير "جون دون" بعنوان "لا تكن متفاخرا يا موت". نقول إن هذه القصيدة قد لا يجمعها جامع، في الظاهر على الأقل، مع قصيدة "إمبراطور الآيس كريم"، ولكن هذا الرأي سيكون انطباعا أوليا فقط، وبإمعان التفكر والتفكير وإعادة القراءة، لا بد أن يعثر المرء على ما يؤيد الفرضية النقدية القائلة بوجود "تداخل نصي" بين القصيدتين، علما إن هذه الفرضية ليست من عندياتنا، بل هي من معروفات ومسلمات التاريخ الأدبي الأنجلوأمريكي المعاصر.
ولنبدأ بالأقدم زمنا وهي قصيدة الشاعر الإنكليزي "جون دون"، والتي تعرف أيضا بالسوناتة المقدسة وقد أتم الشاعر كتابتها عام 1633. الخطاب الشعري هنا مكرس لتجسيد شكل الموت وتجريده من ميتافيزيقيته. لذلك فإن الشاعر طوال الوقت، يستخدم الاستعارة لوصف كيف أن الموت أمر زائل، وليس شيئًا للخوف. بل هو في الواقع كائن عاجز يحرر الأرواح البشرية بدلاً من تدميرها:

لا تكن متفاخر يا موت..
أيها الموتُ
لا تتباهَ بنفسكَ
وإنْ سَـمّـاكَ البعضُ الجبارَ المرعبَ
لأنك لست كذلك
وأولئك الذين تظن أنك تقهرهم
لا يموتون البتة
أيها الموت المسكين
بل إنك حتى لعاجز عن قتلي.

الراحة والنوم،
وما هما إلا صورتان منك
لنا منهما مسرة كبرى
إذن،
لا بد من مسرات أكبر تفيض منك
لذلك فإن أفاضلنا يتسابقون الى رفقتك
من أجل الراحة لعظامهم
والخلاص لأرواحهم

أنت أيها الموت
عبد للقدر والصدفة
وللملوك اليائسين
أنت والسم والحرب والأمراض
صحبة ووفاق

إن الخشخاش أو الأدعية
يمكنها أن تجعلنا ننام مثلك
بل أحسن منك ومن وقعك
فلماذا إذن أنت تزهو بنفسك؟

إنْ هي إلا نومة واحدة قصيرة تمضي
ثم نصحو نهائيا
ولن يكون بعدها موت
أيها الموت
بل انك أنت حينئذ،
ستموت.

والآن، إلى قصيدة "والاس ستيفنز":

إمبراطور الآيس كريم..
ادعُ لفَّاف السيجار الكبير
ذلك الفحل
واطلبْ إليه أن يخفق في أواني المطبخ
زَبَدَ الشهوة
دعِ الغانيات يتبذلن في ملابسهن المعتادة
ودعِ الشبان يأتون بالأزهار ملفوفةً
في صحف الشهر الماضي
ضعْ حداً لكلّ ادعاءٍ عقيمْ
فإنَّ الإمبراطور الوحيد
هو إمبراطور الآيسكريمْ

خُذْ من خزانةِ الخشبِ التي
تنقصها أُكَرٌ زجاجيةٌ ثلاثُ
ذلك الشرشفَ الذي
قدْ طُرِّزَتْ عليه مرةَ
حمائمُ بذيولٍ مروحيةٍ
وافرشهُ حتى يغطي وجهَها
وإذا ما بانتْ قدمُها التي
تشبهُ القرونَ
فإنها إنما تُظهرُ كَمْ هي باردة وصماء

دعِ المصباحَ يركزُ نورهَ العميمْ
فإنَّ الإمبراطور الوحيد
هو إمبراطور الآيسكريمْ

والآن، وبعد الاطلاع على القصيدتين يبقى السؤال ماثلا للعيان: فيا هل ترى، ما هي السبل الكفيلة بإقناعنا بأن ثمة تشابه بين القصيدتين. وكيف تسنى للشاعر "والاس ستيفنز" أن يبني قصيدة جديدة على أنقاض قصيدة أقدم.
هذه الأسئلة وغيرها، مما يعترض القراءة هي موضوع الفاعلية النقدية التي يجب أن يقوم بها كل قارئ على حدة. وسيكون النقد الأدبي هو المرشد والدليل. وفي الحلقة المقبلة من هذه الدراسة سيكون لدينا مشروع جواب.
---------------------------------
* فصل من كتاب سيصدر قريبا بعنوان "والاس ستيفنز القصيدة والحياة" دراسة ومختارات.
* القصيدتان المتضمنتان هذا المقال من ترجمة كاتبه، وقد تم نشرهما منفصلتين في مناسبات وأماكن مختلفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق