الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في القصة القصيرة -تحت المظلة- للكاتب نجيب محفوظ

اخلاص موسى فرنسيس
(Eklas Francis)

2020 / 12 / 14
الادب والفن


انعقد السحاب، وكأنّي به في جلسة طارئة هو والمطر الذي بدأ بالتساقط رذاذاً، ثمّ اجتاح الطريق هواء مفعم بالرطوبة. عناصر الطبيعة تلعب دوراً كبير في مدخل القصة، لقد هيأت لنا المسرح التي ستدور عليه الأحداث ليطلق العنان لخيالنا.
لا بد من المطر، لأنّ مكان القصة تحت المظلة. شارع ومارة حثوا خطاهم، ليتقوا شر انعقاد الجلسة الطارئة بين عناصر الطبيعة، المظلة التي ضمّت مجموعة من الأشخاص الغرباء الذين لا يعرفون بعضهم، واستولت عليهم الرتابة.
اندفع رجل كالمجنون مخترقاً صومعتهم، تتبعه مجموعة من الرجال، هو اختفى في شارع آخر، لكن الصياح تعالى: "لصّ، أمسكوا اللصّ". ما لبث أن خفّت الضجة ليعود المطر إلى الواجهة، والطريق مقفر إلّا من بعض المارّة الذين نكاد لا نراهم بسبب المطر، لقد اجتمعوا مصادفة، منهم من ينتظر الحافلة، وآخر هربا من البلل. فجأة يعاود اللصّ الظهور، وكأنّ هذا المكان قد أعجبه، وأراد أن يثير فضول المنتظرين برتابة تحت المطر. المشهد مليء، والحوار في تصاعد مستمرّ، واللوحة أكثر ضبابية مع المطر الذي وظفه الكاتب الكبير محفوظ ليكون حاجب البصيرة عن رؤية الأشياء بوضوح مع تصاعد الأحداث وغرابتها التي بدت وكأنّها مشهد سينمائيّ، ولشدّة غرابتها تتأرجح ما بين الواقع والخيال، وما بين التصديق والتكذيب، وما بين الفوضى المنظّمة والفوضى العارمة. صور تتلاحق، وأشخاص يأتون من حيث لا ندري، وجثث تتساقط، وسيارات تتصادم، وأشخاص لا يحرّكون ساكناً لمنع ما يحصل، وشرطيّ يقف بباب العمارة، يدخّن سجائره، وكأنّ هذا المشهد برمّته لا يعنيه، "يا لها من ضربات قاسية عنيفة" لا يحرّكون ساكناً "لقد نال الإعياء من الرجال، وكفّوا عن تبادل الضربات" أمام أعين الشرطي الذي أزاح نظره بلا مبالاة. هناك جرائم ترتكب، وهناك حقوق تنتهك، وهنا لصّ يسرق، وهناك من يستغيث، وهناك متفرّجون وشرطيّ لا يعنيه الأمر، من إذن يعنيه الأمر؟
أليس الشرطيّ هو رمز الحكومة المحامية عن المظلوم؟
الجميع تحت المظلّة استساغوا الشكّ أكثر من يقينية المشهد وحقيقته ويرونه مشهداً سينمائيّاً، وبالتأكيد ستتضح الصورة. يتناقشون في الأمر، لكن دون تحريك ساكن. مطاردة حامية، وسيارة تفرمل، وأخرى تصطدم بها، ونيران تشتعل، وآدميّ يزحف تحت إحدى العربات ملطّخ بالدم، يحاول الخروج والوقوف، لكنه سقط سقطته الأخيرة.
ما زال الحوار تحت المظلة وخلف المطر قائماً على حاله، لقد حجب ضباب اللامبالاة الرؤيا، وبهتت عزيمة الواقفين تحت المطر. هم في مأمن من المطر، يشاهدون المشهد ولا يحرّكون ساكناً، بل هم في انتظار المخرج الذي سوف يفسّر لهم هذه المشاهد التي تكاد تكون رغم صدقها لا تصدق.
اللص يخلع ثيابه ويتحوّل إلى راقص يتأمّل جسده في إعجاب شديد أبهر مطارديه، فتشابكت الأذرع، وراحوا يدورون في حلقات راقصة وسط ذهول الذين استعادوا برغم فظاظة المشهد أنفاسهم وكأنّ شيئا لم يكن. في اللحظة التي يتساءل الناس عن المخرج الذي سيشرح كل شيء، نقبض أنفاسنا نتوقع ظهوره في اللحظة ذاتها في العمارة المقابلة تُفتح النوافذ حيث يطل منها رجل ينادي على امرأة، المرأة هنا كما في كل الكتابات الأدبية لم تغب في قصة محفوظ بل كان هناك إشارة واضحة وللمجتمع العربي الذكوري حيث ان كل من في المشهد هم رجال وذكور اللص المتفرجون الموتى الراقصون ولم نسمع اي رأي او تعليق من امرأة ولكن حين ظهرت الرجل كان المبادر، فتح النافذة ونادى عليها فانصاعت له ونزلت وقادها إلى حيث يريد وفي وضح النهار وأمام كلّ العيون تتعرّى تمارس الحبّ معه طارحة رأسها على رأس الميت، يتبادلان القبلات ضاربين عرض الحائط كلّ الأخلاقيات لكلّ المجتمعات، لم نسمع صوتها هل هناك مشكلة ما بالصوت وإبداء الرأي ورغبتها فيما يجري؟ ومن ثم تدفن حيّة دون ان يحرك أحد ساكناً مسلوبة الإرادة، في هذه القصة نرى تهميش وتهشيم المرأة في المجتمعات العربية هي مجرد إناء لإفراغ رغبات الرجل متى وأينما أراد، أين الرجل ولماذا لم يذكر انه تعرى أيضاً ولماذا كانت العيون مصوبة على المرأة فقط ؟ العيون تنظر، الأفواه تتكلّم، ولا أحد يحرّك ساكنا لمنع هذا الفحش في منتصف النهار. لعلّه مشهد سينمائيّ آخر تحت المطر. يتركنا أشد دهشة وحيرة من الواقفين تحت المظلة تجتاحنا حالة من الغضب والاستياء،
سرعة الأحداث وغرابتها من لصّ عارٍ إلى حوادث سير واندلاع النيران، إلى مشهد حب، إلى شرطي غير مبالٍ.
نعود إلى الواقفين تحت المظلة الذين احتجّوا، وتساءلوا واحتاروا، وقبضوا على أنفاسهم لبرهة ثمّ استعادوها دون أن يحرّك أحد ساكنا بل الكلّ غرق في تحليل المشاهد وعزوها إلى مهارة المخرج الذي كانوا ينتظرونه، علّه يطلّ من مكان ما شارحاً لهم ما يجري تحت المطر.
لم تخلُ فقرة من الفقرات من كلمة المطر، وكأن الكاتب يريد منّا ألّا ننسى هذه الموسيقا التصويرية الضبابية من المطر والرعد حيث يجري كلّ شيء مستخدماً المطر، ليكشف لنا هشاشة الإنسان أمامه، وخوف البعض من البلل.
إنّ العتمة تزول أمام النور، والنور حين ينطفئ تعمّ الظلمة، ولكنّ المطر كيف لنا أن نرى من خلاله؟ هذا المشهد الذي جعلنا ندخل في عالم سرياليّ غير واقعي، يرسم أحداثه بطريقة عفوية. أحداث لا تحدث إلّا في عالم مضطرب مليء بالفوضى واللامبالاة. كانت مصر آنذاك والأمة العربية كلّها خارجة من هزيمة حرب ٦٧ حيث لم يتوقّعوا الخسارة، فأتت أكبر ممّا تخيلوا، ولم يكتفِ الكاتب بتصوير الهزيمة فقط بل عمل على تصوير حالة عامّة، وآفة تصيب الحكام الذين يجلسون تحت المظلة والشارع العربيّ كله القابع تحت مظلة اللامبالاة ممعن في غيّه، يتفرجون دون أن يحركوا ساكناً، لكن في النهاية موقفهم لا يتعدّى موقف المتفرّج، يشهدون أبشع الفظائع تجري أمام أعينهم، فالموت ينتشر من حولهم، والحياة رخصت، والقيم الأخلاقية تلاشت، وأصبحت في خبر كان.
لقد جمع في لوحته السريالية يقينية الحياة والموت والرقص الذي يشير إلى الفرح، والتعري الذي يشير إلى ذهاب العقل والجنون فلا يمكن لعاقل في أيّ مجتمع كان أن يمارس الحبّ في وضح النهار وفوق جثث الموتى حيث تفوح رائحة العفن.
لقد جمع نجيب محفوظ هذه الأطراف كلّها مع المطر في قالب غير منطقيّ، مطاردة لصّ تافه بينما النيران تشتعل في السيارات، والمعارك دائرة بين البدو الذين ظهروا فجأة على خشبة المسرح مع سواح أجانب، عائداً بنا إلى عصر داحس والغبراء. دماء وأشلاء رأس تتدحرج وعمال يبنون قبراً يضعون به العاشقين وهم على قيد الحياة، ويصنعون سريراً يضعون عليه الجثث، وهنا براعة الرمز حيث إنّ من يوضع بالقبر هم الموتى، والأحياء على السرير، لكن العمال عالجوا التعدّي والحماقة بحماقة أكبر منها، وما هذه الكوابيس التي أضرمت المشهد إلّا نتيجة لهذه الكارثة والإحباط العام والألم على ما حدث.
مازالت الأنظار تتجه نحو الشرطي الواقف دون مبالاة هو الآخر يشاهد الظلم والجنون، يدخّن سيجارته ولا ينبس ببنت شفة، مع أنّه الوحيد الذي يمثّل السلطة القادرة على إيقاف كلّ شيء، لكن تجمدت هذه السلطة، وأشارت بإصبع الاتهام نحو المتفرجين المتخاذلين، وراح يتفحّصهم، ويلقي اللوم عليهم معنفاً إياهم.
ما قيمة الإنسان المجرّد من هويته في داخل وطنه؟ هو ميت لا محالة.
إنّ القصة تقع في إطار الرمزية الصادمة من اختراق القوانين حيث يجسّد فيها نجيب محفوظ تخبّط المجتمع العربي آنذاك من كبيره إلى صغيره وانعدام الرؤيا والمسؤولية، والمفهوم الفكريّ الاتكالي وفساد السلطة والنظام العسكريّ الذي من المفترض أن يقوم على حماية الضعيف فكان في موقف المتفرّج يرى من بعيد ما يحصل، وفي النهاية يجرّد الكلّ من هوياتهم، ويتحول إلى سلاح موجّه ضد الداخل. ما أكثر أعداء الداخل والواقفين تحت المظلة. وهذا الفساد ما زال يستشري في الوطن العربي الآن فالساحة العربية متخمة به والسلطات القمعية في مواجهة شعب مفكك البنية اساسا من كل فئاته، من مثقفين وعسكريين وعاديين، يرزح تحت مظلة الاستعباد والتغيب زرعوا الفتن الطائفية والدينية التي هي سهلت عليهم السيطرة على عقول البسطاء وحتى الطبقة المثقفة فقبعوا تحت المظلة لا يتجرؤون على الخروج والمواجهة ومن هم تحت المطر أعمى التناحر بصرهم وهد عزيمتهم وانشغلوا بالان والقوت اليومي والفقر وكيفية تأمين ادنى متطلبات الحياة البسيطة اليومية دون المحاولة للخروج من المأزق بل حين أتى حافروا القبر وبناؤا السرير اختلط الحابل بالنابل واصلحوا الفوضى بفوضى أكبر وفي النهاية هذه السلطة الممثلة بالشرطي اللامبالي اصدر حكمه على الجميع وبقي هو الوحيد في المشهد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن