الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرية الشخصيات في رواية -ولو بعد حين أو موت مؤجل- بسام أبو شاويش

رائد الحواري

2020 / 12 / 16
الادب والفن


حرية الشخصيات في رواية
"ولو بعد حين
أو
موت مؤجل"
بسام أبو شاويش
أن يفتتح السارد الرواية بصفحتين ثم ينسحب ليترك المجال أمام الشخصيات لتتحدث بحريتها، فهذه تعد (ديمقراطية)/حرية قليلا ما نشهدها في الأعمال الأدبية أو الروائية، وما يحسب للسارد أنه افتتح الرواية بالحديث عن "ديفيد بن أهارون" الذي سيشارك في مجازة دير ياسين وكل المعارك التي خضتها دولة الاحتلال ضد العرب، بمعنى أنه لم يمنع حتى عدوه من الحديث، وتركه يتكلم بحرية مطلقة، في البداية كان "ديفيد" أحد ضحايا النازية، يحدثنا عما جرى لعائلته بقوله: "لم يجد رجال الجستابو شيئا في منزلنا يمكن أن يديننا... واقتادوا أمي وأبي إلى غرفة مجاورة... يهوديت حاولت التشبث بأمي لكن جندي الجستابو دفعها بعنف فتراجعت وارتطمت بالجدار... الضابط يتقدم متمهلا لكن بإصرار باتجاه شقيقتي... مزق الضابط الألماني ثياب شقيقتي .. عراها تماما.. ألقاء على الأريكية وانقض عليها.. المسكينة.. كانت عاجزة عن الدفاع عن نفسها في وجه رجل يمتلك قوة ثور... هرعت أمي إلى يهوديت تحاول أن تسترها بجسدها... لكن مسدس ضابط الجستابو كان أسرع.. رصاصة واحدة في ظهرها .. في منتصف ظهرها تماما.. خرجت من صدرها لتنبعث نافورة من الدم.. ترنحت وسقطت أرضا وهي تفغر فاها محاولة عبثا أن تلتقط أنفسها... ألصق الضابط فوهة المسدس الباردة برأس أبي.. أطلق رصاصة استقرت في جمجمة والدي.. ثم التفت بسرعة إلى حيث يهوديت ممدة وأطلق رصاصة إلى صدرها...رأيت كل شيء من مخبئي في السقيفة" ص7و8، هذه الفاتحة القاسية والتي جاءت على لسان "ديفيد بن أهارون" تعطي اشارة إلى أن السارد يمنح الحرية حتى لأعدائه، فيتركهم يتحدثوا بحرية، وحرية مطلقة، حتى سمح ل"ديفيد" ليحدثنا عن مشاعره وما شعر به من خوف وغضب وقهر: "ما حدث بعد ذلك كان مرعبا ومروعا، كلما تذكرت المشهد أتقيأ ويكاد يغمى علي ... رأيت ما حدث بعيني وأنا في مخبئي بالسقيفة" ص7، هذا ما يجعلنا نقول أن السارد لا يتقمص الشخصيات أو يفتعل وجودها، بل هي شخصيات مستقلة تماما عنه، فهو لم يتدخل في ما تقوله ولم يلجمها، حتى لو كانت شخصيات مجرمة وقاتلة، فالسارد محايد، لا يتدخل في ما ترويه شخصيات الرواية، وكأنه يقول لعدوه أنا تركتك تروي حكايتك بحرية، فدعني اروي حكاتي بحرية، وهذا ما يجعل الرواية موضوعية ومقنعة للمتلقي.
تأكيدا على أن السارد كان محايدا، ولم يتدخل فيما تقوله الشخصيات، يقول "ديفيد" بعد ان وجد رفيقه "ثيودور" في معسكر العمل الألماني: "قررت إلا أهرب وحدي هذه المرة .. سآخذ ثيودور معي... شعرت بالمسؤولية تجاهه... هو أصغر مني ربما بسنتين أو ثلاث، كان ولدا مدللا.. مترفا" ص19، فالشخصية تتحدث بحرية وأيضا بإنسانية، وهذا ما كان ليكون لو أن السارد أقحم نفسه في السرد، فشخصية "ديفيد" ملتزمة ومنتمة، وتتحمل المسؤولية بإرادتها وطوعا، حتى لو كان العمل خطرا ويؤدي به إلى الموت، بمعنى أنه رجل ملتزم أخلاقيا واجتماعيا تجاه الآخرين.
يحدثنا "ثيدور بولانسكي" عن "ديفيد" كبطل شهم: فبعد أن يقوم بحماية المومس من "جورج الزنجي"، تحدث بينهما معركة، يصاب بها "ديفيد" بجرح في وجهه بينما يقتل "جورج" برصاصة من مسدس "ديفيد"، يصفه لنا بقوله: "لأول ومرة يتحدث ديفيد.. سمعته يقول بغضب: لن أجري أي جراحة تجميلية .. ليبقى الجرح على وجهي مدى الحياة .. لست خجلا منه" ص61، فهذه الصورة الإيجابية تبين (نبل وشهامة) "ديفيد"، وهذا دليل آخر على حيادية السارد.
يحدثنا "ديفيد" عن موقفه الشخصي من "عبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر بقوله: "...فكرت إن البكباشي خصم شريف... ثم إن قناة السويس قناة مصرية.. لماذا تغضب حكومتنا من تأمميها؟ ثم لماذا تندفع لحرب لا ناقة لنا فيها وجمل..؟؟"ص110، هذا التفكير يشير إلى أننا أمام شخصية (تحترم) عدوها، بمعنى أنها غير متطرفة و(موضوعية) في الحكم على الآخرين، لكن وقع السارد في خطأ عندما جعل "ديفيد" يستخدم مثل عربي" لا ناقة ولا جمل"، وكأن الأجدر أن يستخدم مثل آخر من ثقافة أخرى قريب من معنى المثل العربي.
ونجده (إنسانيا) في تفكيره ومعادي للحرب: "وماذا بعد؟ لماذا لا نكاد نخرج من حرب حتى ندخل في أخرى؟ ... هل هذا هو الوطن الذي قاتلنا من أجله؟ لقد أقمناه على شلال من الدم وجبال من الجثث... ومع هذا لا يكتفون... يحضرون لحرب جديدة.. وضد من؟ ضد مجموعة من المخربين الذين يمكن إنهائهم بعدة طلعات جوية مركزة" ص163، تنامي شخصية "ديفيد" العسكرية ووصوله إلى مرتبة عالية في الجيش "جنرال" وقائد منطقة، وحدثه بهذه الموضوعية، يشير إلى أننا أمام شخصية لم يعبث بها السارد، وهي مستقلة تماما عنه، لهذ تحدثنا عما تفكر فيه وتشعر به من مشاعر ومواقف لا تنسجم مع طبيعة تفكيرها.
ويحدثنا عن المقاتلين الفلسطينيين بقوله: "...في الحقيقة كانوا يمتلكون جرأة عجيبة... بل كانوا أقرب ما يكون للجماعات الانتحارية.. عملياتهم الفدائية كانت شديدة التعقيد.. كانوا يعبرون القناة ويتغلون بين المواقع الإسرائيلية ويشتبكون وينسحبون دون أن تفلح قواتنا في الإمساك بهم .. في إحدى المرات تمكنوا من أسر جندي وأخذه حيا إلى الضفة الغربية للقناة" ص208، إذن نحن أمام شخصية عسكرية تحمل
(أخلاق ومبادئ) العسكر، لهذا عندما تتحدث تكون موضعية وتحترم عدوها عندما يستبسل في القتال".
يقع "ديفيد" في أسر المقاتلين الفلسطينيين، ويكون "مايكل" ابن "جورج" الزنجي مع الفرقة التي أسرته، يحدثنا عن مشاعره بقوله: "كنت عاجزا عن النطق.. هل يعقل هذا؟... ابن جورج!! ذلك الزنجي الذي قتلته قبل أكثر من ثلاثين عاما؟؟
... وذلك الشاب.. هل تراه .. الملتحي... نعم .. إنه من دير ياسين... والده رآك وأنت تطلق النار على عائلته... هذا الشاب هو حفيد تلك العائلة... أرأيت كم هي صغيرة هذه الأرض؟
تمتمت .. نعم .. بكل تأكيد.. هي صغيرة جدا... أن نجتمع نحن الثلاثة هنا.. في هذا المكان وفي هذه الظروف" ص24.
ولم يكتفي السارد بإطلاق المجال أمام "ديفيد" بل هناك شخصيات صهيونية أخرى مثل: "ثيدور بولانسكي، فجعله يتحدث في ثلاثة فصول كاملة، و"إستر غولدمان" في ثلاثة فصول أخرى، لكن السار يظهر من جديد عندما يتم الحديث عن عبد الناصر، على النقيض من "الأمير الكويتي" الذي جعله يتحدث في فصل خاصة، وكأنه وجد نفسة لا (يقدر) على إحياء عبد الناصر من جديد، ففضل إن يكون الحديث عنه من خلال السارد نفسه.
هناك شخصية "صلاح الياسين" وهو ماركسي/شيوعي، وقدم وجهة نظر الحزب من الصراع في فلسطين، فهو يتحدث بمنطلق الصراع الطبقي متبني وجهة نظر الحب: "...عمي يتحدث عن الاتحاد السوفيتي وعن الثورة الشيوعية... فوجئت به يقول أن يعودا انضموا لهذا الحزب، وعم ضد حكومة الاحتلال وضد اليهود الذي يقولون أنهم سيقيمون دولة في فلسطين... حتى هؤلاء المثقفين الذين تعلموا في مصر وبريطانيا يتحالفون من العائلات الاقطاعية التي طوال الوقت تتعامل مع حكومة الانجليز وتحمي مصالحه في المدينة" ص29، دور الحزب الشيوعي الفلسطيني كان له وجهة آخر سلبي، تمثل في تفريغ فلسطين من الكوادر القادرة على العمل ومواجهة الاحتلال الانجليزي والهجرة الصهيونية، وذلك من خلال إرسال (قادة) وكوادر الحزب العربية النشيطة إلى الدراسة في الاتحاد السوفيتي في جامعة كادحي لشرق، تحت شعار التثقيف وتعلم الماركسية، السارد أبدع في الإشارة إلى هذه المسألة ـ هجرة الكفاءات العربية الفلسطينية من فلسطين، وقدوم المهاجرين اليهود إلى فلسطين، عندما جعل نهاية الفصل "7" والذي جاء على لسان "ديفيد" وقال فيه: "، ألقت الباخرة مرسالها وبدأنا نهبط إلى رصيف الميناء.. العمال العرب يرمقوننا بغضب شديد... خلال أيام كنت أعمل في نعسكر الهاجاناه قائدا لأحدى الوحدات الخاصة التي اقتصر عملها على مهاجمة القرى العربية وإرغام سكانها على الفرار ثم الاستيلاء عليها... كنت قد وضعت قدمي على أول الطريق" ص86و87، وجاء في لفصل التالي مباشرة "8" والذي جاء على لسان "صلاح الياسين" في السطر الثالث: "عدت إلى القرية لأودع العائلة قبل السفر إلى عمان بأيام... كنت أمضي معظم الوقت وحدي، أقرأ كتابا أو أستمع للمذياع .. لعل الشيء الوحيد الجديد هو هجرة بعض شباب القرية إلى أميركيا اللاتينية" ص89، التقارب بين الحركة العكسية بين الفلسطيني الخرج من فلسطين والهجرة الصهيونية إلى فلسطين، بهذا الوضع ـ نهاية فصل وبداية فصل ـ وبين شخصية "صهيونية "ديفيد" ومثقف ثوري "صلاح" تبين الخلل الذي وقع به الحزب، الذي ساهم بطريقة (خبيثة) بإزالة الكوادر المثقفة والنشطة من المواجهة، بمعنى أنه فرغ فلسطين من شبابها كما هو خطط الصهاينة.
ومن جمالية الرواية تماثل مقتل عائلة "ديفيد" حسب ما رواها لنا ومقتل عائلة "صلاح الياسين: "كان أبي ـ المختار ـ الذي جاوز الستين .. شاهدته يتوسل للضابط أن يرحم النساء والأطفال... تأملت وجه الضابط متفحصا.. ثمة جرح غاثر بامتداد خده الأيمن.. بدأ شديد البشاعة ..وجه رشاشه إلى صدر والدي وأطلق صلة كانت كافية ليتكوم والدي على الأرض جثة هامدة.. أمر جنوده بإطلاق النار على الجميع... سمعته يقول بعبرية ركيكة أعرف بعض مفرداتها ...اقتلوهم جميعا ...لا نيد أسرى" ص91، "ديفيد" الضحية أصبح جلادا، بمعنى أقدم على نفس عمل رجال الجستابو، وهذا ما جعل جريمته جريمة مضاعفة، فهو الذي ذاق طعم القهر والفقدان، ها هو يمارس القهر والقتل بحق الأبرياء، فكان مقتلة على يد ابناء ضحاياه "مايكل ابن الزنجي جورج، ونضال ابن صلاح" قصاص عادل.
اعتقد أن التوزيع السرد بين الشخصيات الصهيونية والفلسطينية جعل الرواية متوازية، فبدت عادلة وموضوعية في تقديم الشخصيات، وهذا ما جعلها تجذب القارئ وتجعله يتابع الأحداث بشوق ولهفة، فالمكانة التي وصل إليها "ديفيد" والدعم الذي حصل عليه من الماسونية ـ جعل القارئ يعتقد باستحالة قتله، لكن أصرار "مايكل ونضال" جعله موته حقيقة.
الرواية من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، الطبعة الأولى 2020.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في


.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/




.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي