الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد المدني واسس البناء العقائدي الجديد

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 12 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


ما أن أستقرت الأمور جزئيا لمحمد النبي وجماعته وبدأت تظهر في الواقع المدني علامات التغيير ونتائج الإخراج القسري له ولأصحابه، حتى باشر في تأسيس مفهوم مجتمع مغاير يعتمد في علائقه وأرتباطاته على مفهوم مجتمع التكامل لا مجتمع التنافس التقليدي، في خطوة قد تكون الأولى تأريخيا حيث تحولت مهمة النبي من مجرد ناقل رسالة إلى مؤسس منظومة أجتماعية حداثية قياسا لما موجود وراهن في النظم الأجتماعية التقليدية في الجزيرة أو في خارجها، هذا المنجز المغيب عن الدراسات الأجتماعية الحديثة والمهمل في تسجيله تاريخا بسبب طغيان الرواية المهتمة بتاريخانية الحدث أكثر من أهتمامها بدراسة عوامل التغيير وعلله، والأهتمام المفرط وبظاهرة الصراع المركز عليه بين محمد وأعداءه ناصرا أو صاحب موقف ما.
كتب الرواة والمؤرخون ألاف الأطنان من الورق ليثبتوا أن محمد النبي عندما وصل يثرب شرع في بناء دولة الله أو دولة الدين، وسايرهم وشايعهم عموم جمهور المسلمين في التنظير والنشر والأعتقاد، ولكن لا أحد سأل هؤلاء ما هي مواصفات دولة الله أو دولة الدين؟ وما يفرقها ويميزها عن دولة الإنسان؟ السؤال كان ليس مهما ولا ضروريا عند الكثيرين طالما أن دولة محمد المقامة في يثرب زعيمها وقائدها نبي ودستورها الإسلام، هذا كلام مرسل بلا دليل ولا حجة لا من كتاب ولا من فكرة الدين أصلا.
أولا قامت دولة يثرب المدينة على مبدأ أساسي وهو وحدة التعايش أو العيش الموحد تحت نظام يحترم خصوصية الفرد ويقدس وجوده ككائن أساسي لا تقوم للمجتمع قيمة بدونه، وكان شعارها (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ومترجما بنص صريح (لكم دينكم ولي دين)، ففكرة التزاحم لم تكن موجوده ولا ممنهجة في النص الديني، خلا أن هناك محددات أساسية وبدية لا يقوم لمجتمع قائمة دون مراعاتها وهي أسس الدفاع عن المجتمع، فلا عاقل ولا قائد ولا منظومة تقبل لا اليوم ولا أمس ولا غدا أن تكون معرضة ومكشوفة لعوامل التمزق والعدوان والهدم، فكان النظام هو عنوانها والنظام يحتاج لتسلسل تنفيذي وأخر يضع هذا التسلسل (تشريعه)، هذه الفكرة بشرية سابقة لعهد النبي محمد وما زالت عاملة وضرورية، إذا ما جاء به النبي من قواعد تنظيم لم تكن قواعد دينية بل هي أساسيات المجتمع الإنساني تعلمها وطبقها وقننها بالتجربة والممارسة.
الجانب الأخر هو أحتجاجهم بكون الدستور العامل والنافذ في المدينة كان القرآن الكريم، وبالتالي الدستور هو من يعطي صبغة الدولة ويصنفها، وحجتهم في ذلك النص التالي (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) دون أن يكملوا النص وهو في الأخرة من الخاسرين، هنا نلاحظ نقطتين مهمتين هما معنى الإسلام وقد أفضنا في شرحها بمؤلفاتنا السابقة وهو ملة إبراهيم وبنيه من بعده وصولا إلى دين محمد، فيكون هنا الدستور شامل لكل أديان بما فيها دين محمد الخاتم، وبلك يصلح العمل بأي نص ديني حقيقي مهما كان أنتماءه طالما يستهدف خيرية وأحسنية النتيجة، والدليل أننا نؤمن كمحمديين بكل الأديان والرسل وكتبهم ولا نفرق بين أحد منهم، هذا ليس أجتهادا إنما نص حاكم ومحكم.
النقطة الثانية في الأخرة تكملة النص وما تعنيه أن الله لا يقبل التدين بأي دين خارج إسلام إبراهيم وملته ومن يأت الله بأي دين أخر لا يتوافق معه يكون من الخاسرين، أي أن الحكم بالقبول والرد أولا مؤجل ليوم الأخرة وثانيا الله وحده من يقرر ذلك وبمضيه ولا علاقة للبشر في تطبيق القبول ولرفض، وهذا ما يخرج النص من الدلالة التي أشاروا إليها كون القرآن والإسلام هو دستور المسلمين.
النظم السياسية في العالم قديما وحديثا تبنى على شكلين محددين من أشكال بناء الدولة وعلاقة السلطة بالشعب، هناك النظام الجمهوري الذي يتيح لأي مواطن وفق محددات خاصة بالوصول إلى رأس هرم السلطة، والأخر النظام الملكي القائم على حق محصور بفئة أو مجموعة من الأشخاص تربطها رابطة قوية بالنسب أو السبب لتولي القيادة، فنقول هذا نظام جمهوري وهذا نظام ملكي بناء على ما يتفق عليه أجتماعيا بعقد مكتوب أو معروف ولكنه ثابت ومحترم، لو رجعنا للقرآن الكريم والذي يعتبره البعض دستور دولة محمد الناشئة في المدينة لا نجد لا إشارة ولا تلميح ولا حتى عن فكرة في كيفية تداول السلطة، وهذا يعني أن الدستور هذا ترك أمر الإدارة للمجتمع وأعتنى فقط بالقيم العمودية للإيمان به ومن خلال تلك القيم سينجح المجتمع في بلورة صورة الدولة وشكلها.
إذا كيف أمكن للمؤرخين والفقهاء والعقائديين من أطلاق صفة الدولة الدينية أو الإلهية على جمهورية محمد التي أسس أركانها النبي على أنها كذلك، أو أن وجود نبي على رأس قيادة المجتمع يعطيها هذه الصفة ونحن نعلم أن النبي كبشر معرض وبالواقع للزوال والهلاك كأي بشر أخر، فهل كان وهذا هو السؤال الأهم شكل دولة النبي فقط دولة الله والدين في حياته؟ وبعدها تغيرت أو تحولت إلى شكل أخر، إذا كان الجواب نعم فهذا لا يكفي لنصف دولة المدينة الناشئة بأنها دولة دين، وإن كان الجواب بالنفي ما دليلهم على بقاءها كذلك مع غياب النبي وسلطته؟ البعض يربط من وجه عبثي بأن وجود القرآن والعمل به يكفي لأن نصفها كذلك، وهذا ما ثبت خطله وعدم صحته حتى في حياة النبي، فمحمد الزعيم مارس السلطة كحاجة وليس فرضا من القرآن مكتوب ومستوجب الإتباع مطلقا مع إقرار الجميع وعدم أتفاقهم على الإقرار بذلك حتى في مسألة خلافته من بعده.
إذا لم تكن دولة محمد النبي في المدينة دولة الله ولا دولة الدينولا حتى دولة القرآن وإن كنا لا ننكر أن وجود القرآن الكريم ونزول الوحي قد ساهما بشكل أو بأخر في صياغة علاقات المجتمع البينية، ولكن نجزم بالنفي أنه كان دستورا سياسيا أو صانع منظومة حكم بقدر ما كان مشروعا أخلاقيا لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان وربه، بهذا القدر أمكن للنبي أن يشيد مجتمعا جديدا قادت المتابعة والتمسك بالأخلاقيات الدينية الضابطة إلى نشوء دولة وكيان سياسي ذو ملامح بشرية وإن كانت دوافع تلك الملامح هو الطاعة والموافاة للنص الديني حتى ظن البعض أنها دولة القرآن.
الدولة المدنية في تعريفنا اليوم لها هي الدولة التي تجعل القانون ومؤسساته ومصلحة الشعب وعلاقة السلطة به تتم من خلال نص ملزم للجميع، وليس في بنائها ولا في فلسفتها أن تنحاز بدواع دينية للبعض وتخرق القانون والدستور، دولة النبي في المدينة أسست على مواثيق وعهود ومعقود بين أطرافها أولا *، ولم يشهد تاريخها النبوي فقط أن تم خرق هذه القواعد لأعتبار خارجها، حتى في المعاملة مع من هم خارج الإسلام كدين وأقصد به دين النبي محمد لم يكن هناك مجال أو حدث يؤشر خروجا عن تلك القواعد، بما فيها من أحداث كبرى مثل أخراج اليهود منها نتيجة إخلالهم بتلك العهود وليس تطبيقا لفكرة أن الدولة دولة دين محمد ولا يجب أن يتواجد فيها من هم غيرهم، ولولا تلك الخروقات لم تكن هناك نصوص أمرة بذلك ولم يكن التصرف خارج قاعدة من شاء فليؤمن، إذا العلاقة بين السلطة والشعب كانت علاقة مدنية صرفة وإن كان رأس السلطة نبي أو خليفة.
بذلك نؤكد أن دولة النبي محمد في المدينة هي النموذج الأول والفريد في إقامة جمهورية مدنية تستحكم للقانون وتلزم السلطة أولا بأحترام تعهداتها وميثاقها الأجتماعي، دون أن تجعل من الدين مبرر للطغيان أو التفرقة بين المؤمن الديني الإسلامي ومن يخالفه، بعيدا عن روايات المؤرخ الإسلامي الذي أساء لفكرة دولة النبي بقدر ما أساء لله والدين وشخصية محمد حينما فسر الأحداث وكأنها إيعازات وأوامر من الله للنبي بأنه المسئول عن إقامة الدولة الإلهية وعليه واجب التنفيذ دون التقيد بضرورات الأجتماع والمواطنة وحفظ العهود.
البعض يستشكل من هذه النتيجة ويعتبرها مثل غسيل وجه التاريخ كي نبرر لنا نحن المدنيون فكرتنا بأستحالة وجود دولة دينية قامت أو ستقوم في يوم من الأيام في مكان ما على سطح هذا الكوكب، الحجة الدامغة التي يتمنطقون بها ويجعلونها الدليل الأوحد والعلامة الفارقة لدولة الدين، هي أن كل السلطات كانت بيد النبي ولا أحد يمكنه التصرف أو إبداء الرؤية أو فعل شيء قبل أن يتدخل عبر ما يوحى إليه أو عبر ما يستخلصه ويجتهد فيه بناء على ما عنده من نصوص، وبذلك يكون الله ومن خلال النص أو الوحي هو الحاكم المطلق وما النبي إلا لسانه الذي يتكلم به ويده التي تنفذ.
أعتقد بل أجزم أن هذه الخلاصة التي يركنن إليها ليست حقيقية ولا يمكن أعتمادها كقانون في ممارسة النبي للسلطة في المدينة، هناك فرق كبير بين أن يكون الله المشرع السياسي وبين أن يكون المرشد العقلي للناس ومن خلال النبي، عندما ما مارس النبي سلطته في المدينة كحاكم لم يمارسها من خلال منصب النبوة فقط، ولكن مارسها من خلال الثقة الممنوحة له من الناس بأعتباره قائدا قاد التغيير وأحتراما لهذه المنزلة وأتباعا لنص ديني حاكم في أن لا تخرجوا عن إرشاد المرشد في القضايا البرى والمجتمع في طريق التأسيس، فالنبي لم يكن دكتاتورا يتحكم بالمجتمع من خلال ما يراه هو، بل كان يتبع ضرورات الأحسنية والخيرية التي يستقيها من قربه من فهم النص الديني بصورة كاملة ومطلقة.
بهذه التوليفة من التصرف الممتزج بين الحكمة في النصوص والبشرية في التصرف خط النبي محمد سياسته، ولكن ليس بعيدا عن السؤال والمشاورة والمحاورة مع أهل العقل والمشورة والحوادث كثيرة التي تؤكد هذا التوجه، كما أن النبي لم يمارس كل السلطات بنفسه بأعتباره القائد العام الذي لا ينازع، بل مارسها كمعلم ومدرب لمن بعده ومن معه، والنص الديني واضح في بشرية ما كان يتحكم به (أنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، فممارسة القيادة كانت مسئولية مشتركة بين رؤوس المجتمع وعقلائه والرسول والنص ليؤسس منهج سيكون لاحقا هو الطريق لمن بعده، فالحجة المذكورة حجة عمومية يراد منها التشويش بقدر ما يراد منها أن تكون قاعدة باطلة لحق سيكون طريقا لمن بعده من حكام وقادة وهذا ما حصل فعلا وعليه تأسست كل الدول التي أتخذت من هذه القاعدة المزيفة أساسا للحكم ورسخت مفهومها بأعتبارها إرثا دينيا واجب الإتباع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*. فقد كانت تنصَّ تلك الوثائق علي:
إن يهود بني عوف هم أُمَّة مع المؤمنين، وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم.
إن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم‏.
إن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة‏، وإن بينهم النُّصح والنصيحة، والبرَّ دون الإثم‏.
لا يأثم امرؤُ بحليفه‏.
النصر للمظلوم‏.
أن اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين‏.
إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة‏.
ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مردَّه إلى الله –عز وجل، وإلى محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم‏.
لا تُجَارُ قريشٌ ولا مَنْ نَصَرَهَا‏.
إن بينهم النصر على من دهم يثرب‏ وعلى كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلَهُمْ‏، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم‏.
إن نصوص تلك الوثيقة التي أجراها النبي محمد مع اليهود تُثْبِتُ بشكل لا يدع أي مجال لأي شكِّ بما كانت عليه حينها فكرة الإسلام عن روحية الدولة وشكلها، وهي في مرحلة شديدة الأهمية من البناء والتأسيس ونشر الدين والحرية الكاملة للناس، والإفساح للناس للمشاركة والاحتكاك القائم على الاحترام والود، كما يظهر هذا الأمر من خلال ما كُتب في بنود هذه الوثيقة النبوية، فإن “قبول الآخر”، وأيضاً التشريع لأجله ولأجل كل من يقوم بتنظيم حياته بين كل أفراد المجتمع المسلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
مروان سعيد ( 2020 / 12 / 19 - 23:02 )
تحية للاستاذ عباس علي العلي وتحيني للجميع
يسلم فمك موضوع رائع وواقعي ومكشوف لكل من يفكر ايعقل نبي من عند الله ومؤيد بالروح القدس كما كذب علينا يقول
أنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
يعني مو عارف شيئ ويعني ان نزول القران والوحي كذبة وهذه هدية من اجرء امراءة تقول الحقيقة الدكتورة وفاء سلطان
https://www.youtube.com/watch?v=egsdL7Mv5UM
ومودتي للجميع

اخر الافلام

.. إسرائيل تنشر أسلحة إضافية تحسبا للهجوم على رفح الفلسطينية


.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس




.. إيران تحذر إسرائيل من استهداف المنشآت النووية وتؤكد أنها ستر


.. المنشآتُ النووية الإيرانية التي تعتبرها إسرائيل تهديدا وُجود




.. كأنه زلزال.. دمار كبير خلفه الاحتلال بعد انسحابه من مخيم الن