الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باقي صدقة … الذي مصرُ تعيشُ فيه

فاطمة ناعوت

2020 / 12 / 20
حقوق الانسان


لن يقرأ هذا المقال! علّه أولُ مقالٍ لي لا يزورُ عينيه منذ عشرين عامًا، رغم أن كلَّ حرفٍٍ في هذا المقال النازف يخفقُ بحبّه، وكلَّ خفقةٍ تشدو وجعًا لرحيله. ها هو هذا العامُ الحزين 2020 يأبى أن يحملَ عصاه ويمضي إلى حال سبيله؛ دون أن يفجعنا بفقد ما لا يُعوَّض، وقبل أن يختطف رموزًا مصرية مشرقة عزَّ أن تتكرر. شمعةٌ وطنية نادرة انطفأتْ ورحل رجلٌ عظيمٌ كان يحمل مصرَ في قلبه ولا ينطقُ إلا عشقًا لها. كان لي بمثابة الأب الروحي الذي يُنير دربي بمشعل الوطن. كان يقرأ جميعَ مقالاتي بجريدة "المصري اليوم" ويهاتفني من أسيوط، مهما كانت حالتُه الصحية، وبصوتِه الواهن يشدُّ على قلبي، ويقويني إن انكسرتُ؛ فاتعلمُ منه المحبة والوطنية والثراء الفكري والروحي. فقدتُ هذا السندَ الطيب وتمضي الحياةُ بي وقد خسرتُ ذلك الصوتَ المثقفَ الذي كان أعظم عطايا الله التي نعمتُ بها سنواتٍ طوالا قبل أن ألتقي به لأول مرة في ربيع العام الماضي في مدينة أسيوط. المفكر الوطني الكبير، القسّ "باقي صدقة"، راعي الكنيسة الإنجيلية بأسيوط وأحد كبار الرموز الوطنية والفكرية المصرية.
دعاني لزيارة مدينة أسيوط، قلب مصر، التي أطلق عليها الجدُّ المصريُّ اسم: "سَوْت"، وتعني بالمصرية القديمة: “الحارس"؛ لأنها حارسةُ حدود مصر العليا وصعيد مصر. ولأنها كانت الصخرةَ المنيعة التي ساندت مدينة "طِيِبة" في نضالها الباسل ضد الهكسوس الغُزاة، الذين دحرتهم مصرُ وطردتهم من أرضنا المباركة، لتتكوّن أقدمُ إمبراطورية عرفها العالمُ، ثم تحوّل اسمُها في اللغة القبطية إلى "أسيوط"، كما نعرفُها اليوم. قلبُ مصرَ النابضُ بالثقافة والحياة والأثر الطيب، وتضمُّ بين ثناياها عشرات المناطق السياحية الفرعونية والقبطية والإسلامية، أهمُّها "الدير المحرّق"، الذي سكنته السيدةُ العذراء مريمُ البتول المطهّرة مع طفلها السيد المسيح عليهما السلام، شهورًا طوالا، ومنها دير السيدة العذراء في درنكة، ومسجد "الفرغل" في أبو تيج، والمسجد الأموي وغيرها، عدا الآثار الفرعونية الخالدة.
وكان لقائي الثري بذلك الأستاذ الجليل، الذي خرجت من تحت يديه أجيالٌ من الوطنين الشرفاء الذين علَّمهم قيمة "مصر" الوطن، وقيمة "الإنسان" الذي يُحبُّ الوطنَ، ويفتديه بكل غال. بدأت علاقتي بهذا الرجل الجليل منذ سنوات. يهاتفني مرةً في الأسبوع أو مرتين، ليُعلِّقَ، بصوته العميق على مقالاتي، ويشدُّ على كفيّ مؤازرًا في المحن التي أتعرّضُ لها بين الحين والحين من الدوجمائيين الإقصائيين أعداء الحياة. في عهد الإخوان التعس، كان يطمئنني ويهدئ من وجلي قائلا: (مصرُنا ستعودُ لنا. فلا تخافي. فهي محميةٌ بأمر الله في الإنجيل والقرآن.) وبعد ثورة 30 يونيو 2013 حين طردنا الإخوانَ، تغيرت عبارتُه إلى: (مصرُنا عادت إلى مصرِنا.)
كان رجلا فريدًا؛ إنْ طابَ لك الحظُّ والتقيتَه، ستعرفُ أنك في حضرة إنسان عزَّ نظيرُه، نسجٌ وحده. إن تكلّمَ، تمنيتَ أن يتوقّف الزمانُ لكيلا يُنهي حديثَه. وإن صمتَ ليُفكّرَ؛ تمنيتَ أن تركضَ الدقائقُ سريعًا حتى يعاودَ الحديثَ. أحببتُه سنواتٍ طوالا قبل أن أراه. كانت المحادثاتُ التليفونية بيننا هي جسر الوصال الوحيد، إضافةً إلى محاضراته التي أشاهدها على الانترنت وكلماته في الصحف وكتبه وترجماته القيمة. ولهذا كنتُ في حال من الشغف لرؤياه رأي العين ومصافحته يدًا بيد بعد سنين من الانتظار لهذا اللقاء الثريّ. في الطائرة من القاهرة إلى أسيوط، كنتُ أعدُّ الدقائق حتى أصل إليه. وبعد مراسم الاستقبال الدافئة في مطار أسيوط بالحبِّ والزهور، كنتُ أسابقُ الجميعَ في الطريق إلى قاعة المناسبات في الكنيسة الإنجيلية الأولى بأسيوط، حتى ألتقي بتلك القامة الفكرية والوطنية الشاهقة: “المفكر باقي صدقة"، الذي أهدى المكتبة العربية قرابة الثلاثين كتابًا من عصارة فكرة ووطنيته وترجماته للفكر العالمي. وأخيرًا التقت عيناي بعيني ذلك الرجل الذي يقُطرُ رقيًّا وتحضّرًا وعشقًا لمصر ومحبةً لله ولجميع خلق الله.
من عطايا الله الطيبة لي كذلك، أن كلّف الأستاذُ "باقي صدقة" الأصدقاءَ في أسيوط بتنظيم عدة زيارات جميلة لي كان من بينها زيارة "دار لليان تراشر للأيتام"، وزيارة "الدير المحرّق" بالقوصية، وزيارة “مدرسة “السلام الحديثة” في أسيوط بمتاحفها: “الفرعوني والبيولوجي والكيميائي”. وكلٌّ من تلك الزيارات الثمينة كانت درسًا عميقًا لي لأتعلمَ أشياءَ لا يُحصّلُها المرءُ في آلاف الكتب وعشرات السنين.
رحمك الله يا أبي العزيز وألهمنا الصبر على فراقك الصعب. وطوبى لمصر برموزها الثرية مشاعل الوطن، وطوبى للمصرين بمصرنا العظيمة، وطوبى لكل من يحبُّ الوطن. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يعيشُ في قلبه الوطن.”
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة


.. كلمة مندوب فلسطين في الأمم المتحدة عقب الفيتو الأميركي




.. -فيتو- أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة


.. عاجل.. مجلس الأمن الدولي يفشل في منح العضوية الكاملة لفلسطين




.. رياض أطفال بمبادرات شخصية بمدينة رفح تسعى لإنقاذ صغار النازح