الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطبيع مع العِبرية في اليوم العالمي للغة العربية

المهدي بوتمزين
كاتب مغربي

(Elmahdi Boutoumzine)

2020 / 12 / 20
القضية الفلسطينية


يحتفل العرب كل عام باليوم العالمي للغة العربية , الذي يصادف الثامن عشر من كانون الأول , و هي مناسبة سانحة لتعزيز قيم الثقافة الوطنية و الإرث العربي , و تقوية الأواصر بين الأقطار و الشعوب المغاربية من عرب و بربر و أندلسيين و سودانيين . لقد لعبت اللغة العربية دورا حيويا في المنافحة عن السيادة الداخلية للدول العربية و أمنها الثقافي و الاجتماعي , حيث كانت عاملا حاسما في منع استلاب ثقافي و إستعمار لغوي يستهدف الدول العربية . إن اللغة أداة غزو ناعمة و حصان طروادة لسلب الرصيد الثقافي و الفكري للشعوب , حيث سرعان ما تبدأ المجموعات البشرية المنهزمة في تقليد المنتصرين عليها في اللغة, بمكوناتها البنيوية لفظا و نطقا و تركيبا , ظنا منها أن عامل الغلبة و الظفر يكمن في اللغة أو اللباس , و هذا تحليل نجده عند ابن خلدون .

فالإنسان كائن لغوي بإمتياز ,حيث يمكن التأثير عليه عن طريق توظيف اللغة لإشراك الجانب الواعي و اللاواعي ضمن منظومة واحدة تستهدف سايكولوجيته , و تروم المزاوجة بين المفردات الباطنية و التمثلات المسبقة و نظيراتها المستحدثة مفاهيميا و تصوريا . و إن التوظيف الذكي للبنية اللغوية كفيل بجعل العلاقات القائمة بين الألفاظ تضادا و تقابلا ضمن منوال و مدار واحد , حيث تضحى المصاحبة المعجمية خاضعة لقوانين أكثر عمقا و تأثيرا على الفرد , و هو السياق نفسه الذي تُعتمل فيه الدعاية الميديائية و التسويق التجاري و اللعبة النفسية بين الكيانات و الأمم أي إعمال القوة الحادة .
و كما تعد اللغة الوطنية و المحلية صمَّام أمان للأمن الثقافي ثم الاجتماعي , فإن الدول الغربية حاولت جاهدة توسيع مدارات تدريس لغاتها في البلاد الأخرى , الشيئ الذي تلقفه الطرف المستهدَف لإستثماره في العلوم و المعارف , لكن الشعوب العربية , تقوقعت في مأزم حقيقي , و أضحت تعاني من عقدة الدونية , حيث تتوهم أن قوة الغرب في لغته و أن العلوم لا تُدْرس أو تدَرَّس إلا باللغة الإنجليزية أو الفرنسية . و الواقع يثبت أن إسرائيل كأكبر قوة في الشرق الأوسط استطاعت فرض أقنومها عسكريا و علميا و معرفيا بناء على إعتزازها بلغتها العبرية , هذه الأخيرة مرت بمرحلة موت لغوي استمر لقرون طويلة من الزمن ,فصُنفت ضمن لائحة اللغات الميتة أو البائدة لسبب طبيعي, مرده إلى نقص عدد الذوات المفعِّلة لها , أي الأفراد المتكلمين بها . و حسب بعض الدراسات فإن ما يقرب من 90 بالمئة من اللغات الموجودة اَنيا مهددة بالإندثار مع حلول سنة 2050 م . بعد تأسيس إسرائيل سنة 1948 م , نهج اليهود الطريق القويم في بناء دولتهم اعتمادا على لغتهم الأم , و اليوم تعد إسرائيل من أهم الدول التي حصلت على جوائز نوبل , و حققت إنجازات علمية عظيمة .

في الجانب الاَخر و أمام ضعف المستوى العَملِي و العِلمي للدول العربية , فإن اللغة العربية مازالت رغم ذلك تتبوأ مكانة عظيمة , حيث تتميز بتعدد مفرداتها التي تتجاوز 12 مليون كلمة , و هي تتجاوز بذلك كل لغات العالم الحالية . كما يصعب تصور إنقراض لغتنا العربية لأنها لغة القراَن الكريم , و مادام العربي ملتزما بالكتاب فإنه على علاقة وطيدة مع اللغة العربية . و من الأمور التي لا تُعرف كثيراو لا يجري تداولها على الألسن , أن بريطانيا تعتمد اللغة العربية كأداة لأرشفة المعلومات و الأحداث و الأخبار المهمة و الحساسة و السرية ,كالتي ترتبط بالأمن القومي و الإستخبارات و المَلكية , لتمكين الأفراد الذين يملكون الصلاحية , بعد عقود و قرون من الزمن , من الإطلاع على هذه الوثائق التي حافظت على دلالتها اللغوية الوضعية , و لم يطلها التغيير اللفظي أو البنائي , كما يحدث مع باقي اللغات . فاللغة الفرنسية التي كتب بها موليير يصعب قراءتها من جانب الأجيال الحالية , و هذا هو التأثير نفسه الذي تخضع له باقي اللغات اللاتنية .

توظف إسرائيل اليوم اللغة , كوسيلة للتقرب من الشعوب العربية , و هذا ما يباشره المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائلي أفخاي اَدرعي , الذي يجسد تارة دور الإمام الديني و تارة أخرى دور منشط الحفلات أو معلم اللغات . في اَخر شريط مصور له , ظهر اَدرعي يشرح بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية , لفظ تطبيع , حيث قال في معرض حديثه , أن التطبيع هو جعل الشيئ طبيعيا و مناسبا للظروف , و على المستوى الدولي العام , جعل العلاقات بين إسرائيل و باقي الدول العربية مؤطرة بالسلم , من خلال خلق علاقات إقتصادية و سياسية و دبلوماسية بعيدا عن العنف السياسي و الرجعية القومية و الأصولية الدينية . و هو السياق اللغوي نفسه الذي سبق و أن تطرقتُ له , حيث اعتبرتُ أن التطبيع مع تل أبيب هو رافعة أساسية لتحقيق دمقرطة إعلامية و شفافية سياسة وطنية ,من خلال حيازة الحق في المعلومة . أي أن التطبيع هو قاطرة لنقل العلاقات الثنائية من المستوى الخاص إلى المستوى العام الميديائي والإعلامي .

إنه لا محيد من توثيق اللغة بسياقها الاجتماعي الإقليمي و الدولي , لتدارك الإنغلاق الأجوف الذي تعيش فيه عدد من الدول و الجماعات و الكيانات العربية , التي تحاول القفز على الواقع و التشبث بسراب تاريخي أو وهم حاضر أو تكهن باهت غير مفتوح على الأفق . فبعيد إعلان إسرائيل تطبيعها مع بعض الدول العربية , و رغم أن العلاقة بين البلدين متجذرة , بادرت بعض الأطرف المحسوبة على التيار الإسلامي , مدفوعة بغوغائيتها , إلى التصريح برفض تشهير هذه الأواصر المتينة , و بدأت تهديدها و توعدها بإقامة الدين و لو حساب الإنسان و الحرية و الحضارة و المدنية . فتحليل مكونات اللغة التي تعتمدها هذه الجماعات المحسوبة على مسيلمة بن ثمامة و ليس محمد بن عبد الله (ص) ؛ من أقل وحدة – مفردة- إلى أكبر وحدة – الخطاب- , نجد أنها تتخبط في الزندقة و المروق و الضلال .

و أما خطابنا إلى هذه المجاميع الملتزمة بالفُرقة و معاداة الإصلاحيين و الوسطيين , فإننا عزمنا عليهم أن يستأنفوا حراكهم الديني الميداني ضد إسرائيل و الناتو و يهدموا الأسوار و الحدود و السدود , و يغنموا مفاعلاتها النووية و أسلحتها العسكرية و التكنولوجية المتطورة , و التي لن يعرفوا كيفية استخدامها . أما الإستمرار في التنديد كلما سطعت مبادرة جادة لحل القضية الفلسطينية , فإنه ضرب من العبث و غياب لفقه توازن المصالح , فمعاهدات السلم في تاريخ الإسلام كثيرة , و يكفي لهؤلاء الإطلاع عليها . إن حل الدولتين هو السبيل الشرعي الأنسب للقضية الفلسطينية اليوم , أما معارضة ذلك , فيضعنا أمام رؤى سوداوية أو في الأفضل رمادية .

إسرائيل كيان محتل للأرض الفلسطينية , و أن القدس عربي إسلامي مسيحي , لكن لابد من تدبير هذا النزاع بسبل كفيلة بالحفاظ على أمن بلداننا العربية , أما التهور و الإندفاعية نحو المجهول فتظل رصيدا للجماعات الدينية و السياسية التي دمرت الوحدة العربية و الأمن القومي , وهي في غالبها مجرورة بالجهل أو مأجورة من الأطراف النقيضة .

أجدد القول أن التطبيع هو اَلية ديمقراطية و أداة قانونية لتحقيق النزاهة و الشفافية داخل الدول العربية , و إن من يرفض التطبيع و لا يعمل على إدانة العلاقات المتوارية , فكأنه يقبل العلاقات الغرامية المحرمة عرفيا و ثقافيا و التي تتم خلف الأبواب و يرفض إعلان الزواج .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نور الغندور ترقص لتفادي سو?ال هشام حداد ????


.. قادة تونس والجزائر وليبيا يتفقون على العمل معا لمكافحة مخاطر




.. بعد قرن.. إعادة إحياء التراث الأولمبي الفرنسي • فرانس 24


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضرباته على أرجاء قطاع غزة ويوقع مزيدا




.. سوناك: المملكة المتحدة أكبر قوة عسكرية في أوروبا وثاني أكبر