الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصغير يضحك - قصة

أحمد اسماعيل اسماعيل

2006 / 7 / 18
الادب والفن


أبداً،
لم يحدث أن ضحكت الأشجار والصخور والدروب للجندي (أوغلو) إثر مذبحة خلفها وراءه مع عناصر الجندرمة.
نهض المشهد مع إطلالة الفجر. لم يتسن لأحد من قرية (آل قمشة) أن يفر، بوغت الجميع بالخوذ الحديدية وفوهات البنادق والأنصال الحادة تطبق عليهم. ارتفعت أصواتهم المذعورة وهم يرون أنفسهم محشورين في صحون الدور وفناء الجامع، لم يحسوا بأشعة الشمس الهاطلة عليهم، كانت الخوذ قد حجبتها عنهم وشكلت سماء من عيون غضبى، فارتدت الأشعة مخذولة إلى الشمس الكسيفة، وانهمرت من الغيوم المتجهمة زخات من مطر ناري أسود، فسالت الدماء، وعلت أبخرتها في الجو واشتعلت القرية.. وتحول بعضها إلى رماد. اقتحم الجنود بعدها البيوت الطينية الواطئة. كان بعض العجائز والأطفال والدجاج قد لطوا بالزوايا وتواروا خلف الستائر والجدران، فامتدت الأنصال إليهم، وحول الرصاص أجسادهم الغضة إلى مزق لحمية.
كان الجندي أوغلو قد دخل أحد الدور هو أيضاً. طاف باحته بحذر شديد. تسلل إلى الغرف الطينية تسبقه فوهة بندقيته، جال ببصره في الغرفة الأخيرة التي دخلها، فلمح ثياباً ريفية جبلية تتدلى من مسامير مغروزة في وجه الجدار. وأوان مبعثرة، وفرش خالية.. وسرير خشبي احتوى رضيعاً، فخطا نحو السرير بتوجس وحملق في وجه ساكنه الغارق في سبات عميق، تفرسه ملياً فشع وجه الصغير كقمر عاشق، أحس الجندي بالدم يندفع ساخناً إلى رأسه، وبشيء ما يختلج في داخله، فمد مأسورة البندقية نحو الصغير، أولجها تحت قماطه ورفعه بغتة إلى أعلى، تململ الصغير قليلاً في مكانه ثم تمطى بحذر وفتح عينيه بهدوء وناغى وأشرق وجهه بابتسامة عذبة وهو ينظر في وجه الجندي الغاضب، فارتجت أعصاب الجندي واشتعل الدم في عروقه، فرفع الصغير في الهواء أكثر وهوى به إلى الأرض.
ندت عن الصغير شهقة قصيرة وهو يرتطم بأرض الغرفة وأنّ بوهن وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.. ثم همد، نعق طائر فوق سطح الدار ثم رفرف بجناحيه وفر، وقوقأت دجاجة بهلع وهي تضرب الهواء بجناحيها، وحمل الهواء ولولة امرأة من بعيد.. ثم غرق المكان في صمت لزج وكتيم، ألقى الجندي نظرة عجلى على الجثة الصغيرة فالتصق بصره بكومة لحم خرجت من القماط. ورأس مهشمة. وبقع صغيرة من سائل أحمر قان صبغ أرض الغرفة. اقتلع بصره من المشهد بقوة وخرج من الدار.
في الشعاب الجبلية سار الجنود تاركين خلفهم قرية أشبه بالمسلخ. ملأى بالجثث والدم والخراب، وفي المؤخرة كان الجندي أوغلو يسير وهو يجيل ببصره بين الأشجار والصخور المتناثرة على الدروب الضيقة، داعبت النسائم العليلة أجفانه، ولامست السطح المتيبس من وجهه. وصدحت من حوله الأطيار، وتمايلت أغصان بعض الأشجار وارتعشت أوراقها.. فأحس بالانتعاش وداخله إحساس سار ودافئ. حط أمامه حجل صغير على صخرة قريبة، تمطى الطائر بحذر ثم غرد وانطلق، تمعن أوغلو في الطائر وشيعه بنظرات زائغة وهو ينأى عنه ويغوص في الأفق شيئاً فشيئاً، حينئذ- وإحساس مبهم بدأ يشرئب من أعماقه- قفزت صورة ذلك الرضيع أمام ناظريه فجأة، تمطى الصغير بحذر في الهواء، ثم ناغى ونظر إليه وابتسم، دهش أوغلو وحول بصره إلى ناحية أخرى.. وراح يتأمل رتل الجنود الممتد أمامه. دقق النظر فيهم. تاهت نظراته وهو يحملق في خوذهم وبنادقهم وأحذيتهم وثيابهم الملطخة بالدماء، مرة ثانية قفزت صورة الصغير أمام عينيه، تمطى الصغير بحذر وناغى ونظر إليه وابتسم، هوم بيده أمام عينيه كمن يمسح صورة مرسومة، فلم تغب الصورة، وظل الطفل يتمطى بحذر وينظر إليه، يناغي ويبتسم.
ألم من نوع غريب بدأ يحتل روحه. ويعتصرها كخرقة عتيقة، زاغت نظراته وانعدمت ملامحه وبهت لونه وهو يحملق في صورة الصغير المرتسمة أمامه، عاد فهوّم بيده مرات عديدة، أدار وجهه هنا وهناك. فلم تغب الصورة، وظلت ماثلة قدامه، اتسعت عيناه أكثر، وزحفت الرعشة إلى أطرافه، وراح يتلفت حواليه بهلع، فنظرت إليه الأشجار وتمطت ثم ناغت وابتسمت.. وابتسمت الصخور وناغت وهي تتمطى بحذر.
وابتسم هو أيضاً، ثم ضحك بصوت عال، كانت أشياء عديدة تتداعى في داخله وتهوي إلى أسفل، تمتم لوحده، ثم صاح مقهقهاً (إنه يضحك، الصغير يضحك.ها ها ها..ها هو يضحك ها ها ها…) وظل طوال الطريق يصيح ويضحك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما


.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا




.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما


.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في




.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة