الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقاربة الماركسية لبناء الدولة القومية

عبدالله تركماني

2020 / 12 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


إنّ أول ما تنبغي الإشارة إليه أننا لا نتناول الماركسية كفلسفة متكاملة، وإنما ما يهمنا هو المقاربة الماركسية للمسألة القومية. مع العلم أنّ الماركسية تدور حول محور أساسي هو الصراع الطبقي، إذ تعتبره القوة المحركة للتاريخ. ومن هنا، فإنّ موقع المسألة القومية في الفكر الماركسي لا يخرج عن مراحل التطور الرأسمالي، فكل مرحلة من هذا التطور كان يقابلها تطور سياسي للطبقة البورجوازية، فتطور سيطرة رأس المال على الصناعة أدى إلى ظهور الدول القومية الأولى. ومع بداية هذه المرحلة ستتداخل، حسب التوصيف الماركسي، مصلحة الأمة مع مصلحة البورجوازي الصناعي، وتصبح مصالح البورجوازية هي نفسها المصالح القومية. فحسب البيان الشيوعي الصادر سنة 1848، فإنّ البورجوازية تمركز ملكية وسائل الإنتاج، وتأتي المركزية السياسية (الدولة القومية) كنتيجة محتومة لهذا التمركز.
لقد وضعت الماركسية لنفسها هدفاً رئيسياً هو تدعيم الوعي الطبقي، وتشجيع التضامن الأممي بين صفوف الطبقة العاملة في العالم. ومن هذا المنظور، عارضت الأيديولوجية القومية ومناورات الفئات الرجعية، التي وظّفت، في كثير من الأحيان، هذه الأيديولوجية من أجل تأخير إنضاج الوعي الطبقي.
وبالرغم من التغيّرات التي شهدتها الماركسية في المرحلة اللينينية، فإنها لم ترَ، على الصعيد الحضاري - الثقافي، سوى طريق واحد لخلاص الإنسانية، بما فيها الحضارات الشرقية " التأورب ". ويعود ذلك – أساسا - إلى أنّ مكوّنات الماركسية هي: الاقتصاد السياسي الإنكليزي والفلسفة الألمانية، والاشتراكية الفرنسية. أي أنها كانت تركيبة ضمت أكثر الأفكار ديناميكية وراديكالية في الفكر الأوروبي الحديث.
وبالنسبة للمسألة القومية، فقد انساقت الماركسية إلى الاعتقاد بأنّ التدويل المتسارع للحياة الاقتصادية في ظل النظام الرأسمالي، وخاصة في مرحلته العليا الإمبريالية، سيؤدي إلى الاندماج التدريجي للقوميات (1). لذلك، واجه الماركسيون بعد كارل ماركس وفريدريك أنجلز سؤالاً جوهرياً هو: هل يجب عدم التعاطي مع المسألة القومية وطرح مسألة سعي الطبقة العاملة إلى السلطة طرحاً طبقياً فقط؟ أم يجب توظيف المسألة القومية في خدمة الثورة الاشتراكية؟
لقد واجهت الأمميتان الثانية والثالثة المسألة القومية مواجهة مباشرة، فالأممية الثانية واجهتها في إطار الدولة المتعددة القوميات، خاصة الإمبراطورية النمساوية - المجرية، والأممية الثالثة واجهتها في إطار الإمبريالية وحقوق الشعوب المستعمَرة في تقرير مصيرها ونيل استقلالها القومي. وفي كلتا الأمميتين أثارت مسألة حقوق الشعوب المستعمَرة بوجود قومي مناقشات واسعة، وقد بلغت هذه المناقشات درجة عالية أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان لها دور كبير في انحلال الأممية الثانية وقيام الأممية الثالثة.
وقبل أن نتعرف على الاتجاهات الماركسية من المسألة القومية يجدر بنا أن نتوقف عند الرؤية الماركسية العامة لأهم القضايا التي تثيرها هذه المسألة، إذ تؤكد الماركسية على المنشأ الطبقي للأمة من جهة، وعلى ماهيتها الاقتصادية الاجتماعية من جهة ثانية، وعلى دورها كشكل لتطور المجتمع من جهة ثالثة. فعملية تشكّل الأمة بدأت قبل ترسّخ الرأسمالية، حين صارت السلطة المَلكية تلعب دوراً تقدمياً من الناحية الموضوعية، إذ كانت، في صراعها ضد التمزق الإقطاعي، تعوّل على الطبقة البورجوازية الناشئة.
أما التلاحم النهائي للأمة فيجري عندما ينخرط الريف في العلاقات الاقتصادية الرأسمالية، وبنتيجة القضاء على التمزق الإقطاعي لوسائل الإنتاج والمُلكية والسكان " غدت المقاطعات المستقلة، التي تكاد لا ترتبط فيما بينها إلا بعلاقات اتحادية، وكانت متباينة المصالح والقوانين والحكومات والضرائب الجمركية، غدت متلاحمة في أمة واحدة، لها حكومة واحدة، وتشريع واحد، ومصلحة طبقية قومية واحدة، وحدود جمركية واحد" (2).
إنّ الشرط الحاسم لتشكّل الأمة هو تذليل التمزق الإقطاعي للاقتصاد، مما يهيء لظهور الروابط الاقتصادية الرأسمالية بين جماعة كبيرة من الناس، تمثل وحدة الأرض واللغة أمراً ضرورياً لنشاطهم المشترك. وعلى ضوء هذا الشرط، فقد تشكلت الأمم في أواخر العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث، حين أضحت الرأسمالية تتطلب إقامة سوق داخلية ولغة موحَّدة كأداة رئيسية للعلاقات التجارية، وبالتالي لإقامة الدولة القومية.
لقد تأثر تشكّل الأمم بالصراع بين جميع طبقات وفئات المجتمع الإقطاعي
المحتضر، فكان الإقطاعيون يعارضون التلاحم الاقتصادي والمركزة السياسية، في حين كانت البورجوازية تتزعم عملية توحيد الأمة.
وهكذا، فإنّ تشكّل الأمة يغدو ممكناً بفعل وحدة الروابط الاقتصادية والأرض واللغة، أما العوامل الأخرى، مثل الدولة القومية والخصوصيات الثقافية، وإن كانت تلعب دوراً كبيراً في تشكّل الأمة وتطورها، فإنها ليست مؤشرات أساسية للأمة. وإذا كانت وحدة الروابط الاقتصادية المتينة مؤشر جوهري للأمة المكتملة التشكّل، فإنّ وحدة الأرض مؤشر ضروري لوجود الأمة ولنشاطها كعضوية إثنو - اجتماعية متكاملة. فالأرض تمثل القاعدة المادية لتشكّل الروابط الاقتصادية بين شعب الأمة، وميدان نشاطه وتطوره. وهنا تبدو أهمية مسألة الحدود الجغرافية للأرض، التي في إطارها تمارس الأمة وجودها ونشاطها. فإذا كانت للأمة دولتها فإنّ هذه الحدود تغدو حدوداً للدولة، ويصبح الدفاع عنها أمراً يمس الأمة كلها، مما يجعل النضال من أجل وحدة الأرض عامل تعزيز للوعي القومي، وعامل توحيد صفوف الأمة.
ومن الأهمية بمكان الأخذ بالحسبان أنّ الأرض القومية " ليست مجرد بقعة جغرافية، وإنما ترتبط عضوياً بالنمط الاجتماعي للأمة التي تعيش فوقها... وفي هذه الظروف تغدو الجوانب الاجتماعية الطبقية عوامل حاسمة في تحديد سمات الأمــــة "(3).
أما وحدة اللغة فتكمن أهميتها في تأمين الاتصال وفي التوحيد، بهدف السيطرة على السوق الداخلية وتأمين الحرية الكاملة للتداول الاقتصادي. وفي مجرى تلاحم الناس في الأمة تصاغ اللغة المشتركة كأداة في ترسيخ الصلات القومية الاقتصادية - الاجتماعية، وكشرط أهم في تطور الأمة، الاقتصادي والسياسي والثقافي، وتغدو اللغة مؤشراً للأمة.
أما عن الأمة والطبقة، فإنّ الماركسية ترى أنّ الطبقة القائدة للأمة هي الطبقة الحاملة لأسلوب الإنتاج المهيمن في صلب منظومتها الاقتصادية، وأنّ هذه الطبقة هي التي تتزعم النضال من أجل إنجاز المهمات التاريخية لتطور الأمة، وتلعب الدور الحاسم في تحديد معالمها السياسية والاجتماعية، وكذلك علاقاتها بالأمم الأخرى. وأنّ زعامة الأمة يمكن أن تنتقل من طبقة إلى أخرى، حتى في إطار الرأسمالية نفسها، ولكن مع استبعاد إمكانية قيام وحدة قومية حقيقية بين الطبقات المتناحرة، فـ" اللوحة الزائفة لوحدة الأمة، المرسومة عبر تشويه وعي الذات القومي لدى الكادحين، تسهّل على الطبقات الاستغلالية مهمة استبدال الصراع الطبقي بالتصارع بين الأمم، وعلى تحويل الكادحين إلى أعوان في العدوان الخارجي والرجعية الداخلية "(4).
أما عن علاقة الأمة بالدولة، فإنّ الماركسية ترى أنّ الدولة تتشكّل قبل تشكّل الأمة بوقت طويل، فهي، كأداة للسيطرة الطبقية، تظهر منذ قيام المجتمع العبودي، وتبقى كذلك في كافة التشكيلات الاقتصادية - الاجتماعية التناحرية. ولكن، مع ظهور وتطور العلاقات الاقتصادية الرأسمالية ظهرت لدى الدولة وظيفة جديدة هامة، تمثلت في تجميع شعب كل دولة في إطار أمة واحدة.
كما أنّ وجود الدولة، وإن لم يكن مؤشراً ضرورياً للأمة، يشغل مكانة هامة في الوعي القومي. ففي الأمم، التي لها دولتها، تنظّم الدولة وتوجّه تطورها الاقتصادي والسياسي والثقافي، فالدولة القومية كانت مرحلة ضرورية في تطور الرأسمالية. ومع مسألة الدولة القومية يرتبط حق الأمم في تقرير مصيرها، ففي حركة التحرر الوطني لشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية صار العزم على تشكيل وتطوير الدولة القومية المستقلة عاملاً في تشكيل الأمة لدى الكثير من الشعوب المستعمَرة والتابعة سابقاً.
وترى الماركسية أنّ الوعي القومي ينمو مع الظروف التي تلعب الدور الحاسم في ظهور الأمة وتطورها، فـ" وحدة الروابط الاقتصادية والأرض واللغة، وكذلك وحدة السمات الإثنية والقومية للنفسية وللثقافة، والعادات والتقاليد، تولّد لدى أفراد الأمة المعنية وعي وحدتهم القومية - وعي الذات القومي ". وينطوي الوعي القومي على (5): وعي الوحدة الإثنية والموقف من الإثنيات الأخرى، والولاء للقيم القومية (اللغة والأرض والثقافة)، ووعي الوحدة الاجتماعية، والنزعة الوطنية، ووعي الوحدة في النضال الوطني التحرري.
كما يرتبط الوعي القومي ارتباطاً وثيقاً بالمشاعر القومية، التي تلعب دوراً هاماً جداً في سلوك الناس. وتنطلق المادية التاريخية في فهمها للمشاعر القومية من أنّ هذه المشاعر حصيلة الممارسة الاجتماعية التاريخية للناس الذين يفعلون على أرضية وحدة الروابط الاقتصادية واللغة والأرض. فالناس، الذين تربطهم هذه الوحدة، يتفاعلون مع الوسط الطبيعي والاجتماعي، فتتولد لديهم مشاعر مشتركة، تسمى بالمشاعر القومية، وتشكّل لوناً من المشاعر الاجتماعية. وبما أنّ الإنسان لا يعيش في وسط اجتماعي مجرد، بل في وسط اجتماعي قومي، فإنّ متطلباته ومشاعره تتسم بصبغة قومية معينة.
ويعتبر أغلب المفكرين الماركسيين أنّ مفهوم الأمة أوسع من مفهوم القومية، ذلك أنّ القومية تدل على المواصفات الإثنية للأمة أو للشعب، أي على سمات لغتها وثقافتها وتقاليدها وعاداتها، بينما تدل الأمة عل مجمل روابطها الاقتصادية والاجتماعية. وتدخل اللغة ووعي الانتماء الإثني في تعريف الأمة والقومية على السواء، ولكنّ الفرق هنا يقوم في أنّ اللغة والوعي يحضران في تعريف الأمة كمؤشرين ملازمين لأية أمة، يميزانها عن الظواهر الاجتماعية الأخرى، كالطبقات مثلاً، أما في تعريف القومية فيحضران كمؤشرين يميّزان القوميات إحداها عن الأخرى من الناحية الإثنية.
فالقوميات " جماعات كبيرة نسبياً من الناس، تتميز فيما بينها باللغة وببعض سمات الثقافة والطبع وبوعي الانتماء الإثني " (6).
الهوامش
1 - انظر بصدد الماركسية والمسألة القومية:
- د. التيمومي، الهادي: الجدل حول الإمبريالية منذ بداياته حتى اليوم، ط1 – تونس وبيروت، دار محمد علي الحامي ودار الفارابي 1992.
- مرقص، الياس: الماركسية والمسألة القومية، ط1 – بيروت، دار الطليعة، كانون الثاني 1970.
2 - كالتاختشان، سورين: نظرية الأمة في الماركسية - اللينينية، الطبعة الأولى - موسكو، دار التقدم - 1988، ص 64. وقد لاحظنا أنّ المؤلف، الذي جاء كتابه في المرحلة الغورباتشوفية، تحاشى العودة إلى ستالين في مجمل معالجته لنظرية الأمة، بالرغم من أنه انطلق في كل تعريفاته من نظرية ستالين في الأمة.
3 - كالتاختشان، سورين: نظرية الأمة...، المرجع السابق، ص 78.
4-كالتاختشان، سورين: نظرية الأمة...، المرجع السابق، ص 213.
5 - كالتاختشان، سورين : نظرية الأمة...، المرجع السابق، ص 184.
6 - كالتاختشان، سورين : نظرية الأمة...، المرجع السابق، ص 228.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الماركسية قاصرة جدا في نظرتها للامة والقومية
منير كريم ( 2020 / 12 / 21 - 15:51 )
تحية للاستاذ المحترم
مقال رائع وقد وضحت بجلاء اسس الموضوع
دعني اميز اولا بين الامة ككيان اجتماعي وبين القومية كشعور ذاتي للامة
كما ذكرت حضرتك فقد ربطت الماركسية نشوء الامة بظهور الراسمالية واغفلت دور التاريخ والثقافة ومؤسسة الدولة وهي بذلك لاتستطيع ان تفسر نشوء امم عريقة عبر التاريخ كالامة الصينية والامة اليابانية وغيرها التي تشكلت قبل ظهور الراسمالية هذا من ناحية ومن ناحية اخرى اكدت الماركسية بسذاجة ان الامم في طريقها للزوال بالاندماج باممية واحدة بينما تفكك الامبراطوريات وتفكك الاتحاد السوفيتي بين عكس ذلك
ليس لدى الماركسيين من مصدر اساس في المسالة القومية غير كتاب ستالين الماركسية والمسالة القومية , هذا من الناحية النظرية اما في التطبيق الماركسي فكان حل المسئل القومية في الدول الشيوعية قمة الماساة
شكرا لك

اخر الافلام

.. الرد الإسرئيلي على إيران .. النووي في دائرة التصعيد |#غرفة_ا


.. المملكة الأردنية تؤكد على عدم السماح بتحويلها إلى ساحة حرب ب




.. استغاثة لعلاج طفلة مهددة بالشلل لإصابتها بشظية برأسها في غزة


.. إحدى المتضررات من تدمير الأجنة بعد قصف مركز للإخصاب: -إسرائي




.. 10 أفراد من عائلة كينيدي يعلنون تأييدهم لبايدن في الانتخابات