الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين

صباح هرمز الشاني

2020 / 12 / 21
الادب والفن


قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين

إذا كان ربيع جابر في روايته الموسومة (بيروتيس)، يسعى لإقناع المتلقي، لشده الى اللحظة المرتقبة التي يعلن فيها شروعه بكتابة الرواية، هذه اللحظة التي لا تحين الى النهاية، بوصفها رواية واقعية، وأحداثها مستمدة من صلب الحياة، كذلك فإن عبد الخالق الركابي في روايته هذه، يسير على النهج ذاته، في محاولة لإقناع المتلقي وبالطريقة التي أتبعها جابر، بأنه ما زال غير متهيء لكتابتها، مع أنه شأن السارد في بيروتيس، قد بدأ بكتابتها من أول سطر فيها الى آخره، وبالرغم من علمه بأن هذه اللعبة لن تنطلي على المتلقي، إلآ أنه يتواصل معها الى أن تشرف على نهايتها بقليل، حيث يعلن الشروع فيها، عقب آخر لقاء له مع (دنيا) في الصفحة ( 257) وهو يقول: (بعد إنتهائي من حضور مجلس الفاتحة لم يبق أمامي سوى الإستمرار في تنضيد صفحات روايتي التي شرعت فيها عقب آخر لقاء لي مع دنيا.). وقبل إنتهاء الرواية بصفحة واحدة يعود ثانية مشيرا في الصفحة 289، الى أنه بصدد وضع اللمسات الأخيرة عليها، باذلا جهده للوصول الى نهاية مقنعة تنسجم مع سياق الأحداث. ليختلف مع جابر في نقطة واحدة، وهما يمارسان هذه اللعبة مع المتلقي، وهي أن الركابي يقر بكتابته للرواية، بينما جابر لا يقر.

تتوزع هذه الرواية على ثلاثة فصول، ويبلغ عدد صفحاتها (290) صفحة. جاء الفصل الأول تحت عنوان (الخروج من المغارة)، والفصل الثاني (أفتح يا سمسم)، والثالث (كلمات كهرمانة الأخيرة). معبرا كل عنوان من عناوين الفصول الثلاثة عن فحوى الأحداث الجارية في كل فصل، من خلال صياغته بمفردات قريبة الى المفردات المستخدمة في قصص (الليالي العربية المزورة)1، إن لم تكن مستقاة عنها أساسا، وليس قصص (ألف ليلة وليلة) كما كان يظن البعض، بما فيهم أنا، لما أستجد عقب التاسع من شهر نيسان عام 2003، من أحداث مشابهة للأحداث التي وقعت لعلي بابا والأربعين حرامي، للتوكيد على أن التأريخ يعيد نفسه. بيد أن ثمة فارق بين نصبي القصتين، وهو أن نصب القصة القديمة عبارة عن كهف داخل شجرة، ونصب القصة التي نحن بصددها وسط أبرز شوارع العاصمة، كما أن اللصوص الأربعة والأربعين يلقون مصرعهم في الأول، بينما في روايتنا هذه يتكاثرون. والعنوان الأول والثاني يومئان الى قصة الليالي المزورة، والثالث الى روايتنا هذه، مستفيدا المؤلف من هذه القصة التاريخية، ليقوم في صياغتها بنكهة الحاضر. (عصرنتها).

إن العنوان الأول (الخروج من المغارة)، تقابل مفردته (المغارة) مفردة (كهرمانة) المنصوبة في بغداد، ويعبر أي العنوان عن عودة اللصوص والحرامية، أثر إختفائهم لسنين خلت، عبر وثوب أربعين منهم من جرار كهرمانة، ليتوزعوا تحت جنح الظلام في شتى أنحاء العاصمة بغداد، والعنوان الثاني (أفتح يا سمسم) عن إفتتاح بابي المغارة والكهرمانة معا، ذلك أن هذه الجملة هي مفتاح سر إنفتاح باب المغارة = (كهرمانة)، لإتاحة الفرصة للصوص عمليتي النهب والسلب، وإشاعة الفوضى المتمثلة بالقتل على الهوية والخطف والسيطرة على المنافذ الحدودية من قبل المتنفذين في الحكم، أثر سقوط النظام السابق. والثالث (كلمات كهرمانة) عن ما آل اليه سيطرة المتنفذين على الحكم من ضياع وهلاك ليس لما كان في العراق من ثروات طبيعية هائلة وآثار لا تقدر بثمن فحسب، وإنما بتدمير سايكولوجية الفرد العراقي وتحطيمها أيضا، سواء كان ذلك من خلال جره الى النهب والسلب بطرق غير مشروعة، أو إرغامه بشكل من الأشكال على الهجرة.

تخلو الرواية من السارد الضمني، فالسارد هو المؤلف بالتعويل على السرد الذاتي، ضمير المتكلم (أنا). تخلو الرواية منه، ذلك أن المؤلف يأتي على ذكر عناوين رواياته المنشورة التي سبق وأن أطلع عليها المتلقي، كروايتي الراووق، وسبع أيام الخلق مثلا.
ينزع الى إتباع هذا النهج الأقرب الى الوثيقة، لمضاعفة التوكيد على مصداقية إستيقاء أحداث الرواية من صلب الواقع، وتعزيزا للنهج الأول المتمثل في إرجاء كتابة الرواية. لقد عمد الى تكرار الجمل والعبارات التي توحي الى إرجاء مشروعه هذا، ست عشرة مرة. وتبدأ هذه اللعبة، أو الحيلة الفنية التي يستخدمها المؤلف من جملة: (مقنعا نفسي بضرورة إستثمار كل هذه الامور مادة لرواية مضت عليها سنوات وهي لا تزال أسيرة أدراج مكتبي. .). وتأتي في المرة الثانية في الصفحة ذاتها، ليقر أنه لم يكتب هذه الرواية إلآ عندما شارفت على نهايتها، ذلك أن (دنيا) تلتقي بالمؤلف في نهاية الرواية، وهي حبلى من (يحي)، في جملة: (كنت في إنتظار الومضة السحرية، تلك الومضة التي تذكي حرائق الإبداع على غير توقع دون أن يخطر لي أن ذلك لن يحصل إلآ بعد مرور ثلاث سنوات وعشرة شهور وتسعة عشر يوما على الإحتلال على وجه التحديد، وذلك أثر قدوم دنيا تلك المسيحية المحجبة الى بغداد). وهو بهذه الجملة يؤكد الى جانب عملية إرجاء مشروع كتابة الرواية، أن هذه الرواية مثل روايته ( أطراس الكلام)، تبدأ من حيث تأتي الى نهايتها. كما أنها توحي الى أن كل المسيحيات يرتدون الحجاب بدون رغبة منهن، أو خوفا من الأحزاب الإسلامية المتشددة، من خلال الإشارة الى حجاب دنيا المسيحية. وفي المرة الثالثة تأتي في الصفحة (36) مرتان باللجوء الى أرشيفها، بإعتباره في المرة الأولى مسودات موزعة، خرج بها من حواراته مع بدر فرهود الطارش، وفي الثانية ظنا منه بأنه سيفلح في إستثمار رحلته الى الأسلاف، بالرجوع الى ألأرشيف للإستعانة به في إستئناف العمل بروايته. وهكذا في الصفحة: 67، 113، 139، 159، 161، 163، 196، 197، 233، 257، 258، و 289.

إن الجملة الإستهلالية الموجزة، بخروج اربعين لصا من الجرار المنصوب في منطقة الكرادة، هي كل شيء في الرواية، بالأحرى أن هذا الإستهلال هو ليس حبكة الرواية فقط، وإنما تبدأ الرواية وتنتهي به، لا بل تتأسس كل الأحداث والشخصيات من خلاله، ذلك لأنه بقدر ما يفرز من شخصيات سلبية، بالقدر نفسه، يمهد لبناء أرضية خصبة لإنشاء أحداث أكثر سلبية، لما تكاد أن تخلو الرواية من شخصيات إيجابية، بما فيها المؤلف، بالرغم من سعيه الحثيث لمعالجة معضلة (دنيا)، ما عدا شخصيتي (دنيا) و(مي)، وقد بلغ الوضع حد السوداوية، لم يعد من تجد فيه خيرا في العراق، لأن الكل أصبحوا لصوصا، فإذا كان عددهم سابقا لا يتجاوز على الأربعين، فهو حاليا عشرات الآلاف. وإذا كان هؤلاء اللصوص في العهود الغابرة، أقرب الى الصعلكة منه الى إحتراف مهنة السرقة، فقد تحولوا في هذا العصر الى مجرمين وقتلة وسرقة أموال الأبرياء، ونهب وسلب ثروات البلاد.
يقول الناقد ياسين النصير: (الميزة الجوهرية للإستهلال الروائي الموسع أنه لا يكتفي بحجم الفصل الذي يحتويه، بل يمتد على شكل خيوط متشعبة الى مداخل الفصول الأخرى.)2.
وهكذا فإن الإستهلال في هذه الرواية، يلعب الدور الذي يوميء اليه النصير، بعدم تأثيره على أحداث الفصل الأول فقط، وإنما على أحداث الفصل الثاني والثالث أيضا، وذلك من خلال حضوره على إمتداد الفصول الثلاثة، ولعل هذا الحضور المؤثر في إنتشار اللصوص بالعاصمة بغداد، وما أدى من التحول الذي طرأ على طبيعة الشخصيات من الإيجاب الى السلب، كشخصية يحى مثلا، والتغيرات التي تحدث في بنايات وشوارع البلد، بما تؤدي الى تشويه ماضيه من ذاكرة ساكنيه، وفقدان هويته، هو السبب الأساس في تماسك البناء الفني للرواية، عبر التماثل الناجم بين التحولين في الشخصيات والبنايات من الإيجاب الى السالب من جهة، وإنشداد المتلقي الى الرواية لقرائتها بشغف من جهة أخرى، لما تمخض عن هذا التماثل من معطيات جديدة.
إن الهدف من توظيف هذا الإستهلال المتمثل في نصب كهرمانة وخروج الأربعين حراميا منه، إقترانا بكهف الشجرة، هو ليس للمقارنة بين لصوص الأمس ولصوص اليوم، بقدر ما هو إبراز قصدية المحتل بفلتان أمور السلب والنهب من بين يديه، وعدم قدرته السيطرة على الوضع القائم، لغرض عرض الوجه الاخر للعراقيين أمام العالم، لما يوحي الى الوحش والهمجية، وهو يظهر على شاشات التلفاز بسطوه على ممتلكات الدولة. هذه الوجوه التي تصلح قسما منها أن توظف في الرواية أبطالا، أمثال شخصية يحي وبدر وفرج ورياض وحمزة، ونجيب، وعبود مع لواطه، بوصفهم أنموذجا للأطراف المتصارعة فيما بينها التي ظهرت بعد الإحتلال، لتقسيم غنائم العراق. وهي بعرضها بهذه الصيغة، خروجا أو وثوبا لا فرق من رحم كهرمانة، إنما لا تكون قد أنجبتها هذه الأطراف متفردة، بل دفعها المحتل وساهم فيها الى حد كبير، إن لم يكن هو الرأس المدبر لكل الفوضى التي شهدها العراق أثناء الإحتلال أو بعده.

إذا كان المؤلف مثل روايته أطراس الكلام، بدأ بكتابة الرواية التي نحن بصددها من حيث تأتي على نهايتها، كذلك فإنه مثل ما أستخدم أسلوب التمهيد في أطراس الكلام، كذلك لجأ الى الطريقة نفسها في هذه الرواية، مستخدما شأن عملية إرجاء كتابة الرواية أكثر من خمس عشرة مرة. في المرة الأولى في مطلع الرواية، في جملة: (إن كهرمانة في نصبها القائم في منطقة الكرادة توقفت يوم التاسع من نيسان عن سكب الزيت في جرارها، حيث شوهد أربعون لصا يثبون تباعا مغادرين تلك الجرار ليتوزعوا تحت جنح الظلام في شتى أحياء العاصمة)، موحيا الى الفوضى التي ستعم في البلد. وفي المرة الثانية أثناء قيادة رياض للسيارة بتهور، وهو يقل المؤلف الى دار بدر، للتوكيد على أن هذا السلوك هو جزء من حياته. كما أن إيمان إلمؤلف بأنه سيلاقي حتفه جراء قيادة رياض للسيارة بسرعة، هو الآخر تمهيد لما سيواجهه أصنافا أخرى من هذا القبيل على يد رياض: (كنت أترجل من السيارة وأنا اتلمس ما حولي بحثا عما أستند اليه تلافيا لأن أنهار لفرط شعوري بالدوار. .). وفي المرة الثالثة عبر مخاطبة بدر لرياض بمفردة: (بومة). الدال بأن رياض للوصول الى أهدافه الخسيسة، يقبل بكل الإهانات. وهذه الإهانة قياسا بالقادمات لا شيء، ونقطة في بحر. وتتكرر مفردة البومة ثلاث مرات في الصفحة الثانية عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة، للبرهنة على مدى هشاشة هذه الشخصية ودنائتها. وفي الرابعة، والمؤلف يصف عيني دنيا الكبيرتين بأن: (ترتسم فيهما دائما نظرات مذعورة توحي بأن صاحبتها تتوقع الزجر في أية لحظة.). بقدر ما يمهد هذا الوصف الى ما تتلقاه دنيا من ظلم وإضطهاد على يد رياض، وتجاهل مستقبل طفلها ومصيرها من قبل يحي، توحي في الوقت نفسه بأن كل المسيحيين، وليس دنيا وحدها فقط لديهم هذا الهاجس من المعطيات الجديدة القادمة.
كما أستخدم المؤلف عملية التمهيد بالتعويل على جملة: (عدم قدرته على حسم الامور)، لإيجاد المسوغ لتهربه عن المسؤوليات الملقاة على عاتقه، لتخليه عن متابعة قضية إختطاف يحيي من جهة، وعدم إبرام عقد الزواج على دنيا من جهة ثانية، وتهربه الزواج من مي تحت غطاء أنه متزوج من جهة ثالثة، فضلا عن كونها زوجة صديقه. ليفضي المسوغ الأول الى مجهولية مصير يحي، والثاني والثالث الى هجرة دنيا ومي. في الأولى، والمؤلف يتذكر صوت مي وهي تعلق بمرارة يوم وجدته يتهرب من الحسم بين تعلقه بها وحبه لزوجته، وهي تقول: (مثل مستر جيكل وهايد لا تستطيع الحسم بينهما.). وفي الثانية ودنيا تقول للمؤلف: (هناك طريقة وحيدة تضمن لي الستر وسأعول على شهامتك لتحقيقها.). وفي الثالثة تقول له مي :( ستبقى كما عهدتك موزع العاطفة بيني وبينها وكأن ثمة مستر جيكل ومستر هايد يكمنان في أعماقك لا تستطيع الحسم أخص شؤونك.).

إن الأخوة الثلاثة غير الإشقاء من الأم: فرج، وبدر، ورياض، يمثلون ثلاثة أجيال، ممثلا كل واحد منهم لجيل معين للفترات التي مرت بالعراق، إبتداء من عهد تاسيسه عام 1921 الى يومنا. وأول ما يلفت النظر الى التناقض القائم في شخصيتهم، هو عدم تطابق أسمائهم مع سلوكهم وأفعالهم، ذلك ان الثلاثة تجتمع في دواخلهم صفتان لا تنسجم إحداهما مع الأخرى. ففي الوقت الذي لا يستطيع أحد فيه منازعة بدر ورياض على سرقة الآثار، في الوقت نفسه، إن
الأول ليس قارئا نهما فقط، وإنما مصدر إلهام للمؤلف، من خلال تزويده بالمصادر التي يحتاجها في كتابة روايته، والثالث ظاهرا يوفر الراحة لشقيقه، وفي الباطن ينتظر لحظة وفاته ليستولي على كل أملاكه. أما التناقض القائم في شخصية فرج، تكمن بقبوله العمل لدى الأنكليز من جهة، ومن جهة أخرى العمل ضدهم. كما أنه يغض الطرف عن العلاقة القائمة بين أمه وبين مستر تومسن، مع أنه يعمل ضده بالسر.
وتكاد شخصية (يحي)، لا تقل شأنا في تناقضها مع الشخصيات الثلاث الآنف الذكر. إذ بالرغم من أن علاقته بأبيه المبيضجي، تلعب دورا في حبه للمال وجمعه بطريقة غير مشروعة، إلآ أن الأرضية التي مهدتها الظروف المستجدة، أثر التاسع من نيسان، دفعته لأن يحقق الأمنية التي طالما كانت تراوده، ويتبناها ليمارسها بحرفنة، وذلك من خلال عمله في المنافذ الحدودية، وإدخال البضائع الفاسدة الى البلد، ما أثار هذا الموقف الذي تفوح منه رائحة خيانة الوطن إستغراب المؤلف في تحول شخصيته من قاريء نهم للروايات الى الكسب بطرق غير مشروعة. لذا فقد قرر التخلي عن متابعة مسألة إختطافه، وبالتالي المقاطعة عن صداقته.

ومثله شخصية (رياض) الإنتهازي الذي يستغل توجه النظام السابق في تبني الشباب من أمثاله الفاشلين في حياتهم، لتسخيرهم في كتابة التقارير، والإبلاغ عن الذين يعملون سرا في معارضة النظام، أو حتى تكليفهم بتعذيب السجناء السياسيين الموقوفين في دوائر الاجهزة الأمنية.
إن تكوين شخصية رياض الإنتهازية، لم تأت عن فراغ، وإنما أستندت بالدرجة الأساس على تربيتها ورعايتها من قبل شخصية، ربما هي أكثر إنتهازية من شخصية رياض، متمثلة بشقيقه من الأم (بدر) اللقيط الذي تربى في أحضان الأنكليز، ليكتسب عاداتهم وتقاليدهم، ويتعلم أساليب سرقتهم لآثار العراق. ليغدو ثريا.
مثلما تهيأت الظروف الملائمة للشخصيات الثلاث الآنفة الذكر لأن تغدو شخصيات سلبية، كذلك فإن الشقيق الأكبر لبدر ورياض يتحلى بالسلبية ذاتها. فإذا كان رياض قد تأصلت الإنتهازية في داخله بفعل تنشئته على يد بدر اللص، فإن بدر هو الآخر عاش في كنف شقيقه فرج الذي يتعامل مع بدر في كونه لقيطا.

تعيش شخصيات الرواية درجة من التناقضات بلغت حدا، قابلة كل شخصية من شخصياتها الآنفة الذكر، بما فيها الشخصية المحورية الذي هو المؤلف، قرائتها من منظورين مختلفين. إن شخصية فرج شخصية هاملتية، ذلك أنها مترددة علنا في إتخاذ موقف معين تجاه أمه وتجاه مستر تومسن، لذا تعويضا عن هذا النقص يلجأ الى العمل السري، مثل هاملت الذي عاش في أحلام وهمية، وهو يخاطب الشبح على أمل أن تحين لحظة إنتقامه من عمه وأمه: (وكان فرج من أشد المتحمسين لهذا الحدث: يبدو مأخوذا به وكأنه أصابه الحمى، لا تكاد الشمس تشرق حتى ينطلق خارجا ليختفي طوال ساعات النهار، حتى إذا ما آذن الليل بالقدوم أندفع داخلا بملابس مبللة بالعرق، وعيناه تتألقان حماسة، وثمة جريدة ملفوفة تطل برأسها من أحد جيوب سترته.).
لذا فإن شخصية فرج يمكن قرائتها من منظورين مختلفين، من منظور كونها سلبية، ومنظور كونها أيجابية، إيجابية لأنها تعمل ضد المحتل، وسلبية لترددها في حسم خيانة أمه. ومع هذا فإن الجانب السلبي يطغى عليها، لإشتغال فرج مع الإنكليز في تهريب الآثار العراقية.

والشيء ذاته يمكن أن نقول عن شخصية بدر، وذلك من خلال قرائتها من منظورين مختلفين، ولكن الفارق بينهما، فإن بدرا لا يعاني من التردد كشقيقه فرج، وإنما يعاني من عقدة أوديب، ذلك لأنه يعرف أن أمه أنجبته عن طريق الزنا، ليس لأن عينيه زرقاوين وبشرته بيضاء وناعمة، بل لأن شقيقه فرج يعيره بهاتين الصفتين بين حين وآخر، في إيماءة واضحة منه بأنه أبن زنا، تحديدا من نسل الأنكليز.
يمارس الركابي في رسم معالم وأبعاد شخصياته بحذاقة الراوي الذي يعرف كيف يتعامل مع الشخصيات الراسخة في ذهن المتلقي، كششخصية أوديب وهاملت لسوفوكليس وشكسبير للمقارنة بينها وبين شخصيات روايته، كاشفا عن تعالقها النصي معهما. فإذا كان أوديب قد فقأ عينيه لأنه تزوج من أمه دون أن يفقه بأنها أمه، فإن بدر تأويلا بالتماثل مع شخصية أوديب، بإعتبار ان كليهما يعانيان من المعضلة نفسها، وهي خيانة الأم، أصيب بالشلل النصفي. وهذه العاهة بدورها يمكن قرائتها من منظورين أثنين، من منظور التعاطف مع شخصية بدر، وعدم التعاطف معه، كون هذه العاهة رمزا لثرائه من خلال تعامله مع الأنكليز، وتهريب الآثار الى خارج الحدود العراقية. ولكن اللافت للنظر أن المؤلف يبدو كما لو كان منحازا الى جانبه، وهذا الإنحياز من لدن الشخصية المحورية تجاه إحدى شخصياته، حسب ميخائيل باختين، هو دائما منتج أيدولوجيا وكلماته دائما عينة أيدويولوجية، مقرونا هذا الإنحياز بجعل بدر مصدر إلهامه، عبر حثه على كتابة الرواية، وبالتالي مصدرا للمعلومات التي يحتاجها ليزوده بها: (لم أكد ألتقي بدر مجددا حتى بادرني عن سبب ترددي في ‘نجاز روايتي ما دمت متحمسا لها بهذا الشكل؟ فقد كان علي إثارة فضوله أطول مدو ممكنة، مستدرجا إياه ليسرد لي المزيد من ذكرياته قبل ان أشفي غليله.). بينما شخصية رياض ما هي إلآ نتاج عهد النظام السابق والعهد الحالي، ويكفي أن ينعته المؤلف في مكانين من الرواية. مرة بالعقرب، ومرة بالمسخ، ليعرف المتلقي مدى إنحدار هذه الشخصية الى الحضيض.
إن نهاية الرواية، بهجرة دنيا ومي الى خارج العراق، يكشفان هما أيضا عن تناصهما مع نهاية روايتي ( الأشجار وأغتيال مرزوق) لعبدالرحمن منيف، و(بغداد مالبورو) لنجم والي، لمغادرة الشخصية المحورية لكلا الروايتين في النهاية أرض العراق، لما تعرضتا له من ظلم وإضطهاد، الأول هروبا من النظام الشمولي الجائر في الدول العربية، دون تحديد هوية هذه الدولة، والثاني من مطاردة المليشيات المنقلتة في العاصمة بغداد.
ويمكن أيضا قراءة شخصية يحي من منظورين مختلفين، ذلك الى جانب تحلي هذه الشخصية بالطيبة ومساعدة الآخرين على تلافي العقبات التي تلاقيها، ويعد واحدا من المتابعين الجيدين في قراءة الرواية، إلآ أن الظروف المستجدة لجمع المال بطريقة غير شرعية، جعلته أن ينضم مع الكثير ممن أنضموا الى جمع المال، عقب التاسع من نيسان، جاعلا هذا الإغتنام نهجا لحياته. وهو بذلك أختار لنفسه أن يكون نموذجا سلبيا لهؤلاء الأثرياء الباعثين على الكراهية والإحتقار. أي أن الظروف المستجدة التي جاء بها الإحتلال والأحزاب السياسية المتطرفة، وربما فقره وطفولته البائسة وقسوة أبيه، وقسره على زواجه المبكر، كل هذه العوامل أدت أن تتحول شخصيته من شخصية إيجابية الى سلبية.
وهكذا شخصية المؤلف أيضا، من حيث رفضه لجمع المال بطريقة غير شرعية التي تعتبر في مفهومه خيانة للوطن، وبالمقابل عدم إستطاعته لحل مشكلة دنيا ومي ويحيي، بمسوغ إفتقاره القدرة على حسم الأمور، وجاءت هذه الجملة مرتين على لسان مي. في المرة الأولى في الصفحة الرابعة والثلاثين، وهي تقول للمؤلف: (فالتردد من شأنك، ليس من شيمي.). وفي الصفحة الثالثة والثمانين على لسان مي أيضا في هذه الجملة: ( ستبقى كما عهدتك مثل مستر جيكل ومستر هايد: لا تستطيع الحسم في أخص شؤوننا.).

كما لجأ الى عملية ربط الحاضر بالماضي، من خلال تذكيره الحاضر بالماضي والمقارنة بينهما، وجاءت هذه العملية ثلاث مرات في الرواية. في المرة الاولى عبر مقارنة عملية إنجاز مي بمهمة وضعيتهما الشاذة نيابة عنه، مع عملية اللواط في سجن مدينة الأسلاف:1- (ومضت في إمعانها في تحديها، فانجزت المهمة نيابة عني ونحن على وضعيتنا الشاذة تلك في ذلك الموضع البعيد عن الأنظار، غير آبهة لي وأنا أكرر تحذيري إياها متنبها، في ذروة اللذة، الى عينين تختلسان النظر من خلف إحدى أشجار الحديقة. . . عينين لم تكونا غير عيني زوجتي!).
2- : (وفجأة جفلت من حلمي على دوي إنفجار قريب، فأخذت أجول بعيني حولي وفي ظني أن عبودي شرع في الترفيه عن صاحبه، لكنني أبصرت الأثنين وقد أستسلما للنوم على دكتهما.).
وإن دلت العمليتان على شيء، فإنما تدل العملية الأولى على تحرر المرأة المسيحية، والعملية الثانية على الشذوذ المستشري أثر التاسع من نيسان، إتساقا مع كل التغييرات السلبية الجارية على قدم وساق.
أما الجملة الثانية التي تأتي على لسان المؤلف وهو يقول: (لا أعلم لماذا ذكرني ذلك اللون الصارخ (السيارة الحمراء) بملابس البالات المتنافرة التي آلف يحي إرتدائها في الماضي.). تدل على أن يحي وإن صار ثريا، غير أنه لم يتغير من الداخل، بل ظل الشخص نفسه الخاوي من الذوق، وكل ما تغير فيه أنه بدل القديم بالجديد. والمقارنة الثالثة تقترن بتذكر المؤلف لمي، وهو في طريق العودة الى البيت، بعد أن اوصلها الى منزلها، بإعتبارها مثل دنيا صريحة وجريئة: (فقد أعتادت أن تتحدث على مسمع زوجتي عن ماضيها، وكيف انها وبتأثير من تربيتها الاسرية، أنتمت في مراهقتها الى إحدى المنظمات الفلسطينية السارية العاملة في لبنان. .).
وبالمناسبة، ضمن سياق تعرضي لرواية (خانة الشواذي) للمؤلف الذي نحن الآن بصدد تناولنا لروايته، أشرت الى أن ثمة خمس روايات دافعت، أو تصدت لقضية المسيحيين في العراق، ولكنني بعد أن قرأت هذه الرواية، لا يسعني إلآ أن أضيفها الى الروايات الخمس، لتصبح هذه الرواية السادسة المدافعة بحق وإنصاف عن الظلم والإضطهاد الذي تعرضوا اليه في هذا العهد، أكثر من أي عهد آخر من العهود التي مرت بالعراق.
كما يعمد المؤلف الى سرد أحداث الرواية بالإعتماد على العملية السردية الإستعادية التي تنتج سردا في صيغة الماضي، هذه العملية السردية التي يعتمدها أغلب الروائيين، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر نجم والي في روايته (بغداد مالبورو) التي تنتج سردا في صيغة الحاضر، وهو يقول في مطلع روايته: (يوم عدت بأسرتي الى بغداد عقب رحلة كابوسية الى مدينة الأسلاف أنتهت بإعتقالي، فوجئت بالجيران يرددون كلاماغريبا غير قابل للتصديق. .). إلآ أنه ما أن ينتهي من خروج اللصوص من الكهرمانة، حتى ينحو السرد بأتجاه الماضي.
إن هذه الرواية لتصديها لشتى الانماط السردية، إبتداء من بناء الشخصيات التي تصف بأزدواجية الشخصية وقرائتها من منظورين مختلفين، الى لغة السرد وتبنيها لمنحى الميتا سردي ومظهر البوليفونية، يجعلها لأن تنضوي تحت لواء روايات ما بعد الحداثة، سيما أنها خرجت في سردها للأحداث من الأسلوب التقليدي، وأتبعت الأساليب الحديثة التي تتداخل فيه الأحداث، ليتقدم الحدث المتأخر على المتقدم، وهكذا في تشابكها مع بعضها البعض، مثلها مثل الحياة التي نعيشها وتكتنفها الفوضى، بالأحرى إتساقا مع أحداث الرواية العارمة بالفوضى، عبر خروج اللصوص من الكهرمانة، وإنتشارهم في شوارع وأزقات العاصمة بغداد. ولعل إرجاء المؤلف للأحداث، أثبت دليل على أن الرواية تنحو هذا المنحى.

المصادر:
1- الليالي العربية المزورة: حرره وقدم له محمد مصطفى الجاروش. منشورات الجمل.
2- الإستهلال فن البدايات في النص العربي. تاليف ياسين النصير. الطبعة الرابعة. دار نينوى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير