الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثالثاً: المنهج التجريبي التحليلي

فارس تركي محمود

2020 / 12 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


ذكرنا سابقاً أن المنهج الخطابي الوعظي كان هو المنهج السائد في المجتمعات البدائية والمسيطر عليها ، وكان هو الموجه والقائد لطرائق التفكير وكانت البشرية كلها خاضعة له بشكل أو بآخر . إلا أن الإنسان الذي ساعدته ظروفه الجغرافية على اقتناص فرديته وعلى خلق شخصيته المتفردة وأبعدته بالتدريج عن سيطرة العقل الجمعي ، والإنسان الذي مكنته بيئته من رفع سقف حريته ومن تحسس وإيجاد بداية الطريق نحو الديمقراطية كان لا بد له أن يبتعد ويتزحزح عن دنيا الوعظ والخطابة ويدخل عالم التجربة والبرهان العملي والمنطق التحليلي . إذ أن الجغرافية الخضراء الملائمة للنشاط الإنساني والمحفزة للفعل والإبداع والابتكار ، والتي لا يمكن استثمار واستغلال خيراتها والوصول بهذا الاستغلال إلى أقصى مدياته إلا ببذل الجهد وإلا بدخول الإنسان معها في عملية تفاعلية مستمرة ، ستعلم الإنسان عاجلاً أم آجلاً كيف أن السبب يؤدي إلى النتيجة ، وكيف أن هناك قوانين ونواميس ثابتة لا تتغير تحكم الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها ، وستضيف إلى خبراته خبرات ومعارف كثيرة من أهمها فكرة التجربة والخطأ ، وفكرة اختبار الأشياء والمقولات والمزاعم للتأكد من صحتها أو خطأها ، وعدم تصديق أو تكذيب أية فكرة قبل إخضاعها للفحص العقلي المنطقي وللتطبيق العملي ، وفكرة النسبية في النظر للأشياء والأحداث وأنه ليس هناك خطأ مطلق أو صواب مطلق بل كل شيء نسبي ويحتمل الخطأ والصواب اعتماداً على الزمان والمكان والمعطيات المحيطة به والزاوية التي ننظر منها إليه .
وهذه الجغرافية والنتائج المتمخضة عنها ستدفع قاطنها وستضطره إلى الدخول في مواجهة وحالة صدامية دائمة ويومية مع سمة العقل الجمعي المسيطرة على مجتمعه مما يعني التراجع في حجم ومساحة تأثيرها ، وانكماش درجة سيطرتها وانخفاض نسبة الأرباح التي تحققها وارتفاع نسبة ما تسببه من خسائر وبروز المنهج التحليلي التجريبي كبديل لها ، بديل ترتفع نسبة أرباحه وتنخفض خسائره وتزداد درجة ومساحة سيطرته وتأثيره يوماً بعد يوم إلى أن يتمكن في النهاية من طرد المنهج الوعظي ويصبح هو المسيطر والسائد .
إن الزيادة التدريجية في درجة سيطرة وتأثير المنهج التحليلي التجريبي - حتى إذا استغرقت زمناً طويلاً - ستترك أثرها بلا شك على المجتمع أفراداً وجماعات ، سلوكاً وعادات وتقاليد وتوجهات وتفاعلات بينية وعلاقات اجتماعية وصولاً إلى أدق الأشياء وإلى مفردات الحياة اليومية البسيطة كطريقة التحاور وأساليب الإقناع والذوق العام والمقبول والمفضل والمرفوض والمستبعد والصالح والطالح والنظرة إلى المرأة وإلى الآخر ، وعلى كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية . إن الأثر الذي سيتركه ظهور المنهج التحليلي أو بالأحرى بدايات ظهور هذا المنهج سيشكل منطلقاً أو أساساً للمزيد من السيطرة والانتشار لهذا المنهج لأن أفراد المجتمع الذين عرفوا وأدركوا الفائدة والربح والمنفعة المتأتية من استخدامه سيسعون إلى الحصول على المزيد منه ، وهكذا ستدخل العملية برمتها فيما يشبه الحلقة المفرغة حيث أن تيقُّن الأفراد من نفع المنهج التحليلي يدفعهم إلى تدعيمه وتعزيزه أكثر في بنية المجتمع وهذا التعزيز والتدعيم سيؤكد أنه نافع بالفعل وسيرفع من درجة اليقين بنفعيته وقدرته على تحقيق الأرباح وتجنب الخسائر مما يعززه ويزيد من درجة سيطرته أكثر وأكثر وهكذا دواليك .
إن المجتمع الذي تجبره ظروفه الجغرافية على إدراك فائدة المنهج التحليلي التجريبي المنطقي لن يتركه أبداً إلا بعد أن يستحوذ على كافة مفاصل حياته ، الأمر الذي سيجعله مؤهل تأهيلاً عالياً لإنتاج الدولة الحديثة ونقل هذه السمة – أي سمة المنهج التحليلي التجريبي - إليها لتصبح جزءً أساسياً من تكوينها من جهة ، ويصيبه بالعجز أو القصور عن إنتاج الدولة القديمة التي لا تعرف سوى المنهج الوعظي الخطابي ولا تزدهر إلا في ظلاله من جهةٍ أخرى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هجوم إسرائيل -المحدود- داخل إيران.. هل يأتي مقابل سماح واشنط


.. الرد والرد المضاد.. كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟ و




.. روايات متضاربة حول مصدر الضربة الإسرائيلية لإيران تتحول لماد


.. بودكاست تك كاست | تسريبات وشائعات المنتجات.. الشركات تجس الن




.. إسرائيل تستهدف إيران…فماذا يوجد في اصفهان؟ | #التاسعة