الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رابعاً: النضوج العقلي

فارس تركي محمود

2020 / 12 / 24
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


إن العقل أو العقلية بمعناها المادي - كعضو بايولوجي - ومعناها المعنوي - كطريقة تفكير وسلوك يومي ونظرة للحياة بكل تفاصيلها – تتأثر وتؤثر بمحيطها وبيئتها سلباً وإيجاباً ، وهي حالها حال بقية أعضاء الجسد تشتد وتقوى وتنضج بكثرة الاستخدام والمران المستمر والاستخدام الصحيح ، وتضعف وتتراجع وتسطَّح وتسذَّج وتصاب بالعطب إذا ما أهملت وقلَّ استخدامها أو استخدمت بطريقة خاطئة ، وهي لا تعرف حداً تقف عنده في حالة الارتقاء والتطور وكذلك في حالة الانحدار والتخلف ، وهي لا تخضع أبداً لمسار حتمي كما يعتقد الكثيرون بمعنى أنه ليس من المحتم إطلاقاً أن تنتقل العقلية البشرية من عقلية بدائية إلى عقلية متطورة ناضجة ، فعلى الرغم من أن كل الجماعات البشرية كانت تسيطر عليها عقلية بدائية خرافية ساذجة إلا أن هذه الجماعات لم تنجح كلها في تطوير وترقية عقليتها وصولاً إلى العقلية الناضجة ، حيث نجحت بعضها بينما فشلت أخرى اعتماداً على الظروف والعوامل والمؤثرات المحيطة بها .
إن الظروف الجغرافية تعد أهم هذه المؤثرات على الإطلاق فبعض المجتمعات البدائية لم تواجه ظروفاً جغرافية تساعدها على تطوير وإنضاج عقليتها البدائية لذلك بقيت خاضعة لهذه العقلية البدائية ومرتهنة لها ، بل إن حجم ومساحة سيطرة ونفوذ هذه العقلية ازداد واتسع وتنوعت تمظهراته وتعددت وسائله واساليبه وطرق ظهوره وتأثيره وعلى كافة المستويات . بينما هناك مجتمعات أخرى أجبرتها ظروفها الجغرافية على الانتقال من البدائية إلى النضوج العقلي ، حيث واجهت هذه المجتمعات طوال تاريخها بيئة معاكسة ومناقضة للعقلية السطحية البسيطة الساذجة ولأنماط التفكير البدائي ، بيئة محفزة ومتحدية ومشجعة على العمل والإبداع والابتكار ، بيئة يعد التفكير السليم بابها والمنطق مفتاحها والواقعية جواز دخولها ، بيئة تتطلب عقلاً وفكراً مبدعاً خلَّاقاً منطقياً ، عقلاً وفكراً واعياً رصيناً يعرف كيف يأخذ ويعطي وكيف يتفاعل بشكل إيجابي مع محيطه لاستغلال خيراته وإمكانياته بالشكل الأمثل ، ويعرف وسائل وفلسفة التجريب والتحليل والتعلم من الأخطاء ويدرك مفهوم النسبية ويفعِّله في نظرته إلى الحياة والتعامل معها ، ويعي ويعرف أن الأسباب تؤدي إلى النتائج وأن كل شيء وكل حركة وكل تغير وتطور تحكمه قوانين ثابتة لا تتغير ، ولا يعرف ويعي فحسب بل يمارس هذه المعرفة على ارض الواقع وبشكل يومي حتى تترسخ اكثر وتصبح جزءً لا يتجزأ من تكوينه العقلي والنفسي .
إن مثل هذه البيئة هي التي تستبعد وتقصي العقلية البدائية وتقضي عليها لصالح عقلية ناضجة متنورة ومنفتحة تعتمد مقاييس وقوانين العقل والمنطق في كل شؤونها ، عقلية بعيدة كل البعد عن السذاجة والسطحية والهشاشة والتفكير الطفولي ، عقلية لا تستسيغ الخرافات والأساطير والأفكار والمقولات غير المعقولة ولا تتفاعل معها ، عقلية تغلب المنطق على العاطفة ولا تتأثر بالشعارات الحماسية والخطب الجوفاء والادعاءات والمزاعم غير المثبتة ، ولا تنساق مع أو خلف حماسة القطيع ويزعجها ثغائه جداً ، عقلية قوية ومترابطة ومنسجمة ومنطقية لا يمكن اختراقها أو التأثير بها إلا باستخدام وسائل العلم والمنطق وقوانينه فهي لا تثبت ولا تنفي إلا ما يثبته أو ينفيه العلم الحقيقي التجريبي التحليلي وليس علم الخطب والكلام والكتب السردية وأساطير الأولين وخزعبلات الأقدمين .
إن هذه العقلية الناضجة المتمتعة بهذه المواصفات لم تظهر إلا في القرنين الأخيرين وكان ظهورها نتيجة لعملية صراع طويلة استمرت لآلاف السنين ما بين العقلية البدائية التي كانت مهيمنة على المجتمعات البشرية ، وبين الظروف الجغرافية المعاكسة لطبيعة وتوجهات وفلسفة تلك العقلية ، مما ساعد بل وأجبر بعض المجتمعات البدائية التي عاشت في ظل تلك الظروف الجغرافية على التخلص من العقلية البدائية والوصول إلى جنة النضوج العقلي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مراسلتنا: مقتل شخص في غارة استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأسود ج


.. مشاهد جديدة من مكان الغارة التي استهدفت سيارة بمنطقة أبو الأ




.. صحفي إسرائيلي يدعو إلى مذبحة في غزة بسبب استمتاع سكانها على


.. هجوم واسع لحزب الله على قاعدة عين زيتيم بالجليل وصفارات الإن




.. شمس الكويتية تسب سياسيي العراق بسبب إشاعة زواجها من أحدهم