الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حذاء أمّي

سعيد أولاد الصغير
كاتب من المغرب

(Said Ouladsghir)

2020 / 12 / 25
الادب والفن


بمدخل سوق مكتظّ بالباعة، وضعتْ فتاة رغيفها فوق قُماش أسود، وجلستْ كباقي نساء القـرية، تَعرضُ ما عندها من بضاعة... تقدّمتُ نحوها، وضعتُ قفّتي على الأرض وقلت: « أريدُ كلّ بضاعـتك، فاطلبي السّعـر الذي يناسبك...! ». كنتُ متلهّـفاً لأسمع من شفـتيها لفظة: « كلّ السّمع والطّاعـة ». غير أنّها تبسّمتْ وردّتْ بلطف: « بل خُذْ ما يكفيـك سيّدي، واترك الباقي لِمنْ يليك... ». فُوجئتُ بسذاجة هذه الفتـاة، وضحكت بلا حياء، في وقت كان يجب علي البكاء. قلتُ لها مستغرباً: « ألهـذا الحدّ أمْرُ النّاس يعنيك...!؟ ». أدارتْ وجهها عنّي، وردّت على الفـور: « يكفيهـم ما يكفيـك، فطلبك يـدلّ عليك... ». حيّرني ما سمعـت... تنازعـتني مشاعر كثيرة، غـلبتْ عليها رغبة في ترك المكان... ودون أن أحـوّل بصري عنها، انحنيتُ أتلمّـس قـفّـتـي، حملتُ شيئاً وانصرفتُ... أراوغُ النّاس وأحاورُ نفسي وأقـول: « يا من ضيّعتَ العمر معـتقـداً، أنّ السّوق عَرضٌ وطلبٌ... ألمْ تعلم أيضاً أن للتّسوِّق أحكـامٌ وأدب...؟! ».
حارسٌ عجوز كان يقف أمام البوّابة ويُتابع ما يجري، لحِـقَ بي، ربّت على كتفـي وقال: « لا تقـلق يا هذا، هي فتاة بسيطة ترضى باليسيـر، ترعى إخوة صغاراً، و تحمل معها حذاء أمّها المتوفـاة ليـلاً ونهاراً... فقـط، هي أرادتْ البيع ولَمْ تعـقِـدْ، و أنت خانك الطّبع ولم تقْصِـدْ...! ». جفّ حلقي وأطبق الغمّ على صدري، وعمّ بيننا الصّمت... فجأة، سمعـنا صراخ الفتاة القويّ والغاضب، يعلو على كلّ أصوات الباعة: « هذا فِعـل مارق وأخرق... من سرَق حذاء أمّي فهو أحمـق... !؟ ». دون أن يُكمل الحارس قصّته ويكشف عن الفاعل، تركتهُ وهرعتُ نحو خيمة كبيرة، نُصبتْ في كَبِد السّوق، يُباع فيها كلّ شيء... قِـرب ماء، حبّة سوداء، ونِعال للنّساء... أقسمَ لي صاحبها حين ساومته، وكان يجيد الصفقات الخاطفة، أنّها لا تُبلى ولا تبتـلّ بمـاء...! أدّيت ثمن النّعـل، رتّبتُ كلامي جيداً وعدتُ أبحث عن الفـتاة... في الطّريق، صرت أتحسّس من كل صوت يصلني وأتوجّع مع كلّ نظرة تخترقـني... مِن بعـيد، بدتْ لي شاحبة الوجه وترتجف... تقـدمتُ بحذرٍ نحوها، وقلت بنبرة مرتعـشة: « هذا نعـلٌ رفـيع هـديّة منّي إليك... أم لديك في ذلك يا عزيزتي شكّ...!؟ ». هزّتْ رأسها رافضة هذا السّخاء، دعـتْ لي بدعاء يُعـانـق السّماء، حتّى كدتُ أعتقـد، أنّ ذنُوبي ستـتـناثـرُ عن يَميني وعن شِمالي يوم الجزاء... ثمّ قالت: « يا كريم الأصُول... قَـدمُ أمّـي له مَقـاس... مِـن فـرطِ الطّريـق، ألِـفَـه النّمـل، و الـرّمـل والوحَـل... فشتّـان ما بين حـذاء يغارُ منه الخجل... ونعـل همّـاز مشّـاء يقـتفـي أثـر الدّجـل...! ».
أدركتُ آنئــذ أنّـي نكـأتُ الوجع العميـق، إنْ لم يكن الأعمق... فارتفعَ بداخلي صوتٌ غيرَ صوتي ونطق: « اعذرينا كَريمتي... إنْ القَـرف من دمنا غَـرف... فأضحى كلّنـا طرف... لك العِـفّـة ولنا العَـلـف... إنّـي نَذَرتُ الآن إمامتي لكِ وللشّرف... ». في تلك اللحظة، لمعـتْ عينا الفتاة بنظرة غريبة، وضعـتْ يدَها برفـقٍ على خدّها، أذرفـتْ دمعـاً كالنّزيف وصاحت: « أيّها الناس...! إنّ الصّلاة على أمّي جائزة... فلا تسألوا الدّعاة... اخلعـوا نعالكم، فلنقـيم الحياة...! ».








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما


.. شبّه جمهورها ومحبيها بمتعاطي مخدر الحشيش..علي العميم يحلل أس




.. نبؤته تحققت!! .. ملك التوقعات يثير الجدل ومفاجأة جديدة عن فن


.. كل الزوايا - الكاتب الصحفي د. محمد الباز يتحدث عن كواليس اجت




.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله