الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاترينا صبيحة عيد الميلاد

ملهم الملائكة
(Mulham Al Malaika)

2020 / 12 / 25
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


غادرت بيتي لجولة صباحية على الأقدام في اليوم الأول من عيد الميلاد. للعام الثاني على التوالي، يزورنا "فايناختن " بلا ثلوج. البرد معقول لهذا الفصل من العام، والمطر في غير أوانه يغير معادلات المناخ.

ما إن توسطتُ الرصيف أمام بيتي، حتى وجدت الجارة الألمانية كاترينا تسير أمامي وهي تقود كلبين، أحمدهما أبيض مبقع بالسواد صغير الحجم، والثاني بني اللون متوسط الحجم. تعيش كاترين من مجالسة الكلاب، ووهي وظيفة تسمى بالألمانية "هونده ستر" وتقضي بمجالسة كلاب الناس واستضافتها لفترة غياب أصحابها، وتتقاضى عن الساعة الواحدة 9 يورو.
من هذه المبالغ، توفر كاترين مصاريف يومها. لا أعرف عنها الكثير، سوى أنّها سيدة يفوق عمرها ستة عقود وتسكن في بيت صغير مضحك الواجهة تفصله بضعة بيوت عن العمارة التي أسكن فيها. المؤكد أنّها فقيرة مرحلياً وليست معدمة، لأنّ سعر البيت الذي تسكنه، والذي تملكه، يصل اليوم إلى أكثر من نصف مليون يورو، لكن هذا لا يعني أنّها ثرية قط، فقد تكون متقاعدة، ودخلها محدود جداً، لذا تضطر للعمل جليسة للكلاب.
تسير كارتينا بموكبها العجيب أمامي بخطى ثابتة، مثل عسكري ألماني يمضي لأداء مهمة خطيرة، إنها ميزة الألمان الكبرى، فكل عمل مهم عندهم، ويتعاطى معه من ينفذه بكل جدية بغض النظر عن المكانة الاجتماعية "برستيج" التي ينالها من جرائه.
كالعادة، شعرها أبيض قصير حليق بطريقة رجالية، وترتدي ملابس غريبة عجيبة لا تنتمي بأي حال إلى عصرنا، فهي تلبس معطفاً أبيض خريفياً، وتحته ترتدي فستاناً صوفياً بلون نيلي، مزهّر بنجوم بيض، مثل فساتين البنات الصغيرات. وتنتعل حذاء كتان صغير أسود، وتحته جوراب منزل أسود مزهّر بأشكال حمراء. ولأول مرة، تعلّق على كتفها حقيبة نسوية رصاصية اللون أنيقة نسبياً. وأقول لأول مرة لأنّي لم أر كاترينا قط قبل هذا اليوم وهي تحمل حقيبة نسوية.
قررت أن اسبقها في السير، وألقي عليها تهنئة عيد الميلاد، فسارعت الخطى، حتى اجتزتها بصعوبة لأنها مسرعة دائمأً، وما إن سرت بحذائها حتى بادرتها التهنئة بالألمانية "فروه فايناختن" مشفوعة بابتسامة، التفتت نحوي وفي عينيها فراغ مخيف، ولم تقل شيئاً، فأعدت عليها السلام التهنئة تحسّباً من أنها لم تكن قد سمعتني في المرة الأولى، وأصررت على الابتسام، فردت وهي ذاهلة فجأة: "عيد بريخو وشناية كاهي نوثو"!
استغرقني الأمر بضع ثوانٍ حتى أدرك انّها أجابتني بالسريانية بالقول: "عيد ميلاد مبارك عليكم " مشفوعة بدعاء لا أعرف معناه، وقد تعلمتُ بضع جمل من السريانية في طفولتي المبكرة من مصاحبة أطفال جيراننا المسيحيين في الكرادة في ستينات القرن الماضي...هل هي سريانية، آشورية؟؟ مفاجأة صاعقة...وسارعت اسألها بالألمانية إن كانت عراقية، فنظرت في وجهي ذاهلة، ثم قالت بألمانية تخلو من أي لكنة: "أنا كاترينا، مسيحية من تلكيف في العراق. هل أنتَ عراقي؟"
ابتسمتُ، وتوقفت عن المسير بعد أن توقفت هي وأجبتها: نعم أنا ألماني من أصل عراقي، من بغداد. هل تتكلمين العربية؟
اجابتني بعربية عرجاء ونفس النظرة التائهة تعتقل عينيها: "شوية، عربي لا يتكلم، شوية" ورفعت صوتها وهي تقول بالسريانية "بكو عال إثره"، فلفتني الحيرة، لأني لم أفهم ما قالته، وسألتها بالألمانية ماذا تقول، فأجابت بالألمانية "بكينا كثيراً على الوطن"!
لفتني الحيرة حول شأن هذه المرأة، كاترينا جليسة الكلاب مسيحية عراقية، ماذا جاء بها هنا، وكيف صارت إلى هذا الحال؟ وحاولت أن أكسر حاجز الذهول الذي يكسو وجهها وأفعالها، فسألتها بالألمانية أن نتصور سيلفي معاً مبتسمين لمناسبة عيد الميلاد، لم تبتسم ولم تجب، لكنها نادت برأسها علامة الموافقة، فوقفت بلمح البصر إلى جانبها، وشغلت كاميرا الموبايل وطلبت لها أن تبتسم، فابتسمت في دوامة ذهولها وعيناها زجاجتان فارغتان بلا معنى. تصورت معها، وهنأتها بالعيد مرة أخرى، ومضيت لشأني، فالواضح أن كاترينا، ساهمة عما حولها. وانتبهت إلى أنّها تتكلم خلف ظهري، فحاولت أن أفقه ما تقول، فكان خليطاً من كلمات ألمانية وسريانية، يجعل فهم ما تقوله مستحيلاً، ثم استرسلت وهي تتحدث عن الكلب اللعين الذي بال على سجادة بيتها، ثم صارت تشتم لا على التعيين!
اتممت جولتي تحت مطر صغير اجبرني مع البرد على العودة إلى البيت بعد نصف ساعة من مغادرتي له، فسارعت أرن بهاتفي على صديقي حسنين، وهو من أقدم العراقيين المهاجرين إلى ألمانيا، وأرسلت له صورتي السيلفي مع كاترينا، ورويت له ما جرى طالباً منه أي إيضاح ممكن. فطلب مني بعض الوقت، على أن يعود لي بالجواب عن اسئلتي.
تلك الليلة، عرفت نتف من قصة كاترينا جليسة الكلاب، وهذا ما وصلني:
*عام 1980 اعتقلت كاترين ي. وهي طالبة في كلية الاقتصاد بجامعة السليمانية وكانت من كوادر اتحاد الطلبة الشيوعي. وقد بقيت في سجن ناحية عربد حتى عام 1984، حيث أفرج عنها، ووضعت تحت المراقبة في منطقتها بقضاء تلكيف. في عام 1986 التحقت بمسلحي البيشمركة، وقاتلت في مفرزة إدريس بارزاني، ثم فرت عبر إيران إلى تركيا، ثم إلى ألمانيا الديمقراطية في عام 1987.
*مع سقوط الجدار، وعودة الوحدة الألمانية، سكنت كاترين في برلين، ثم اختفت وانقطعت أخبارها.
*ظهرت في مدينة كولونيا، بولاية شمال الراين فيستفاليا في عام 2000 وقد تزوجت من أحد عناصر اليسار الألماني وانتمت للحزب.
وبات بإمكاني ان أكمل رسم الصورة، حيث لا تتوفر مصادر ومعلومات:
سكنت كاترين مع زوجها في بيت يملكه. توفي الزوج في مرحلة غير معروفة، فورثت كاترين عنه البيت، وربما آل إليها جزء من راتبه التقاعدي، فباتت تعيش منه، وتدبر الباقي من مجالسة الكلاب.
مع تقدم العمر، أصيبت بمرض الزهايمر، وباتت بحاجة إلى علاج.
المانيا /عيد الميلاد- 2020 عام كورونا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا


.. كلمة مشعان البراق عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتي




.. لماذا استدعت الشرطة الفرنسية رئيسة الكتلة النيابية لحزب -فرن


.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح




.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل