الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد وصناعة المجتمع الجديد

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 12 / 26
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من المؤكد تاريخيا وواقعيا أن مجتمع الطائف القرية المدينة والمنظم وفق أسس أقتصادية وأجتماعية تقليدية تميز عن غيره من المجتمعات التي كانت بؤر تطور في الجزيرة العربية، يختلف بالشكل والمضمون والأسس عن مكة والطائف مثلا كما يختلف جذريا عن مجتمع المدينة الذي تغير لاحقا بفعل العقيدة وأسس بناء المجتمع المركزي الذي تطورت إليه لاحقا، فليس كل مجتمع قادر على قبول هذا التحول، ولا كل مجتمع بإمكانه أن يتحول كذلك دون وجود قوة وقدرة وأستعداد لهذا التحول، السؤال هنا ما دور النبي محمد القائد في إحداث هذا الإنقلاب أولا؟ وما دور الدين في كل ذلك؟ وللإجابة على هذه الأسئلة لا بد لنا من معرفة الأسس الأجتماعية والفكرية السابقة للتحول ومباعث التغيير والتجديد لاحقا، وهذا يتطلب منا على أقل تقدير أن نكون أكثر حيادية وتجرد لنرى بمنظار الحقيقة والعلم المجرد لما جرى وتغير فيهما.
الطائف تأريخيا مجتمع زراعي قروي أكثر من كونه مجتمع تجاري لا يقاس بمكة ولا مكة تقاس به، من هذه الحقيقة ننطلق إلى تاريخها السحيق منذ أن سكنها العماليق قبل ألف وخمسمائة عام من وصول النبي محمد إليها قادما من مكة، وقد أجمعت معظم المصادر العربية على أن يثرب اسم لرجل من أحفاد نوح، وأن هذا الرجل أسس هذه البلدة فسميت باسمه، وبالرغم من اختلاف الروايات فإن النتيجة التي تنتهي إليها هي، استيطان العماليق في يثرب في وقت لا نستطيع أن نحدده تحديداً دقيقا، كما يمكن الخلوص من هذه الروايات إلى أن تأسيس يثرب كان على يد مجموعة بشرية مهاجرة، تبحث عن موطن يوفر لها الطعام والأمان.
ويرجح أن يثرب كانت موجودة على الخارطة الأجتماعية السكانية في وسط الجزيرة العربية، حيث أشارت نصوص تاريخية آشورية عائدة إلى القرن السادس قبل الميلاد إلى المدينة المنورة باسم "لاثريبو "*، ووجدت كذلك كلمة يثرب في كتابات الإغريق التاريخية **، وفي كتابات مملكة معين.
هذا العمق التأريخي أرتبط أيضا بميزة قد لا نجد لها مثيلا بالحدة التي عليها في أي مجتمع سكاني أخر من ناحية التركيبة الديموغرافية لها، فقد عرفت يثرب بأنها أكبر المراكز السكانية والأجتماعية المتدينة باليهودية مع (وادي القرى وتيماء وخيبر) عدا ما كان في جغرافية اليمن بجزيئها الشمالي (بقايا مملكة سبأ) والجنوبي وهم (بقايا اليهود الحميريين)، والكل كانوا قبائل عربية أو مستعربة وفقا للبحث الأر كولوجي العلمي عن أصولهم وأماكن تواجدهم، فمنذ أن تأسست أو على الأقل في معظم تاريخها قبل دخول أهلها في الإسلام المحمدي كانت يثرب موطنا للقبائل المهاجرة من اليمن ومن غيرها نتيجة أما الغزوات وأنهيار الممالك والحروب أو بفعل عوامل الجغرافيا والكوارث مثل إنهيار سد مأرب*** أو المجاعات التي كانت تحدث في أرض اليمن،
النقطة الأهم في هذه الدراسة والتي يجب التركيز عليها أن عملية إدماج مكونات بشرية قد تختلف بالأصل الجنسي أو تفترق بالعقيدة الدينية أو تتنازع نتيجة عوامل سياسية لم تكن بالعملية الهينة ما لم يكن هناك أولا ومسبقا جامع رابط يربط بين هذه وتلك من المجموعات السكانية، فوجود اليهود مثلا وهم بالتأكيد جزء من النسيج الديموغرافي والثقافي والحضاري المشترك مع نظرائهم من بقية القبائل العربية سهل لمحمد القائد الجديد من تأسيس مجتمع شبه موحد على قاعدة حقوق وواجبات وليس على قاعدة عقيدة ودين، وهذا ما نراه فعليا فيما عرف لاحقا بوثيقة المدينة التي رضي بها الجميع وأصبحت أول دستور ليثرب بعد أن أصبحت المدينة لاحقا، الغريب أن البعض ممن يتهمون النبي محمد خصوصا أو الإسلام كدين من أنه أسس لمجتمع أو دولة الدين لم يلتفتوا لهذه المركزية الإدارية التي بنى عليها النبي واقع المدينة الجديدة، ولم يقدم الدين على أنه الحاكم والمرجع والدستور الذي يجب أن تقام عليه المجتمعات البشرية.
إذا نحن أمام عملية تحول وتغيير مركزية وجوهرية في قواعد العلاقات الأجتماعية التي تربط سكان المدينة الجديدة والتي فيما يبدو تغيرت وأستبدلت عن قواعدها اليثربية القديمة، لكن ما يلفت النظر حقا هو القصر الشديد في العامل الزمني الذي رسخ هذه القواعد وجعلها تثبت بالرغم مما أصاب هذا المجتمع من تبدلات لاحقة سببها العامل السياسي أو حتى العامل العقيدي، فلقيت تحافظ على وجودها كما رسمها القائد المؤسس الاول النبي محمد، وحتى ما يشاع عن إخراج بعض تلك القبائل من المدينة نتيجة عدم ألتزامها بالعهد أو ما يعرف بوثيقة المدينة عنوة من ديارهم، لكن الوجود الديني المتنوع بقي على حاله فيها، ومما يذكره المؤرخون مثلا عن بعض المتهودة من قبلتي الأوس والخزرج والذي وجدوا أنفسهم بين إسلام قومهم وقراباتهم وبين ديانتهم اليهودية، لكن البعض منهم لم يخرج ولم يحارب ولم يطرد منه على أساس ديني عقيدي ****.
السؤال المطروح هنا هو كيف قدر للنبي إنجاز هذه العملية التحويلية التأسيسية دون أن يصطدم بالتابو الديني المسيطر أو التابو الأجتماعي المترسخ في مجتمع قروي قبلي، هل كان خضوعا طوعيا له نتيجة الإيمان بالدين الجديد؟ أم أن هناك عوامل موضوعية ممهدة ساهمت إلى حد ما في تطبيع الواقع والقبول به، من المؤكد دوما أن القوة بأي شكل كانت لها دور مهم في إحداث التغيرات الكبرى في المجتمعات سواء أكان التغيير إيجابيا أو سلبيا، ولكن في حالة تحول بثرب شكلا ومضمونا لم تكن هناك قوة ولا أستخدام واسع لها يفسر هذا التحول، لكن هناك ما يسمى بالقوة الناعمة الحريرية هي التي ساهمت في إنجاز هذا التحول، هذه القوة لها ثلاثة أوجه، قوة شخصية النبي وفهمه لمحركات الواقع الأجتماعي ومباعثه، والتي نجح في إستغلالها بشكل عملي وجاد.
ثانيا قوة العقيدة وخاصة حينما تكون ما زالت نقية ولم تتعلق بمصالح أو أمتيازات أي ما يسمى بالدفع الأخلاقي المبكر ورغبة المسلمون الجدد في نجاح مسعاهم، النقطة الثالثة والمهمة هو تحويل القطبية الثنائية التي سادت واقع يثرب بين القبائل التي تدين بالعلاقات المصلحية لوجودها وأفرادها، وسطوة الدين والأحبار الذين كانوا يمثلون القوة الحقيقية في مجتمع يهود يثرب، إذا انت هناك عوامل مساعدة تخص واقع المجتمع هي التي دعمت التحول على العكس تماما من واقع مكة المبني على المصالح التجارية والنسبية القبلية التي تستمد قوتها من قوة الفاعل التجاري الأول، لذا لم ينجح محمد في مكة مثلما نجح في يثرب لأن القواعد هنا تختلف والمحركات الأجتماعية أكثر مرونة مما هي في مكة.
قد تكون للحروب المستمرة بين مكونات يثرب السكانية والنزاع الطويل بين الأشقاء الازد (الأوس والخزرج)، والدعم لهذا التنازع من خلال وجود المجتمعات اليهودية التي تتحالف معها لأضعاف وجودها مزدوجا، قد جر العقلاء من أهل يثرب بالرضوخ للنظام الأجتماعي المركزي الذي أسسه النبي الجديد، والمعروف أن النظام والتنظيم أجتماعيا واحدا من أهم عوامل الأستقرار الأجتماعي والتطور في بناء علاقات صحيحة، لذا فأول عمل قام به محمد وضع ألية سياسية وأجتماعية تقوم على مبدأ النظام والتنظيم وبذلك أحل مبدأ التعايش بدل النزاعات والتحالفات الوقتية والمصلحية في مجتمع يثرب _ المدينة.
من هنا يمكن لنا تلخيص الوسائل العملية والمنهجية الفكرية التي أعتمدت في عملية التحول والبناء الجديد في يثرب حسب أهميتها ودورها في ذلك:.
• دور الشخصية القيادية التي تمتلك وعي بالمشروع وتعمل على تطبيق المبدأ من خلال الفصل ما بين ما هو ذاتي وبين ما هو عام.
• الطبيعة البيئوية لمجتمع قائم على علاقة الإنسان بالأرض أولا وليس بعلاقة متحركة ومتبدلة ومتغيرة تبعا للظروف الماحولية، مما يجعل الأستقرار الأقتصادي يلعب دورا حاسما في ربط الإنسان بواقعه المستهدف ويمكنه من أن يعمل دون الخوف من التغيرات المفاجئة والعنفية.
• الطبيعة الدينية والصراع الأجتماعي في يثرب كان له دور حاسم في أهتزاز ثقة الناس عموما بالقادة الفرعيين من زعماء قبائل وأحبار ورؤساء اليهود، لذا كان البحث عن السلام دوما هو من طبيعة المجتمع الزراعي القروي، الذي لا يؤمن كثيرا بالنزاعات بقدر ما يؤمن بأهمية الحقل والزراعة وبقاءه في الأرض ليعمل بها.
• الرغبة العارمة لدى المبشرين الأوائل من المسلمين الذين أتبعوا النبي أيام مكة ورغبتهم في إثبات ولائهم ونصرتهم له، لذا كان وجودهم يعتبر من أهم عوامل أحتضان فكرة التجمع والأتحاد في شخصية النبي، وعملهم النقي في أن يكونوا رجال العهد الجديد رغبة منهم في أن يتخلصوا من التهميش والظلم والإقصاء الذي لا قوه في مجتمع يثرب من قبل.
بهذه العوامل نجح محمد في صناعة وبناء مجتمع المدينة وجعله قاعدة ومثال للتعايش السلمي وطريقا لنشر الدعوى بالحسنى، فلم يكن هدفه هنا تأسيس دولة الله ولا دولة الديت وإنما كما ورد عنه تأريخيا(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، والأخلاق بدئها وأبتدائها أن نبني قيم أجتماعية قابلة للعيش في مجتمع يسعى للحفاظ عليها وتنميتها، فكلما كانت العوامل الأخلاقية متينة ومثمرة وقادرة على شد المجتمع إلى بعضه، كان المجتمع قادرا بدوره على العمل بشكل جمعي وجماعي للحفاظ على تماسكه ووحدته البنيوية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نقوش نبونعيد حيث ذُكرت المدينة المنورة لأول مرة نسخة محفوظة 08 ديسمبر 2016 على موقع واي باك مشين.
**1954 الموسوعة الأمريكية، المجلد. 18، صفحة.587، 588.
***اصابت اهل اليمن كارثة جعلت عددا كبيرا من اهلها يهجرونها الى بلاد اخرى: تلك هي كارثة انفجار سد مأرب ، عصب الحياة لمنطقة كبيرة من اليمن ، ومن هؤلاء الذين هجروا بلادهم قبيلتا الاوس والخزرج وهما فرعان من فروع قبيلة الازد ، ووصلوا في ترحالهم الى يثرب ونزلوا بها.
****. ذكرت مصادر أخرى أن اليهودية وجدت في بعض الأوس من قبائل الأنصار، و بني نمير و بعض غسان و بعض جذام. بل أن بعض المصادر تذكر أن الآية القرآنية البقرة 256، نزلت بسبب أن بعض الأنصار هودوا أولادهم قبل الإسلام و عندما جاء الإسلام أرادوا أن يقسروا أبنائهم على إعتناق الإسلام، فنزلت تلك الآية الكريمة التي تحرم الإكراه في الدين..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أهم العوامل في نجاح الدعوة الإسلامية
عبد الله اغونان ( 2020 / 12 / 27 - 16:43 )
في يثرب المدينة المنورة
هو ايمان الأوس والخزرج بالدعوة الإسلامية منذ بيعتهم للنبي
وان اليهود يفرقون بينهم ويدعون أن هذا زمان نبي وكانوا يحسبونه من بني اسرائيل

اخر الافلام

.. أهلا بكم في أسعد -أتعس دولة في العالم-!| الأخبار


.. الهند في عهد مودي.. قوة يستهان بها؟ | بتوقيت برلين




.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تزداد في الجامعات الأمريكية..


.. فرنسا.. إعاقات لا تراها العين • فرانس 24 / FRANCE 24




.. أميركا تستفز روسيا بإرسال صورايخ سراً إلى أوكراينا.. فكيف ير