الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المبادىء التي تحكم عمل اللجان التحقيقية في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم 14 لسنة 1991 المعدل

احمد طلال عبد الحميد
باحث قانوني

(Ahmed Talal Albadri)

2020 / 12 / 26
دراسات وابحاث قانونية


حددت الفقرات (ثانياً وثالثاً) من المادة (10) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل اختصاصات اللجنة التحقيقية وكما يأتي :
1- تتولى اللجنة التحقيقية التحقيق مع الموظف المخالف تحريرياً وبحضوره وهذا يتطلب ابتداءً تبليغ الموظف بالحضور أمام سلطة التحقيق مع تحديد زمان ومكان انعقاد جلسات اللجنة التحقيقية سواء كان هذا التبليغ تحريرياً بكتاب رسمي موجه إلى الموظف ذاته أو إلى رئيسه المباشر يطلب منه تبليغ الموظف المعنى بالحضور في الزمان والمكان المعينين في كتاب الاخطار أو عن طريق توقيع الموظف على كتاب الاخطار أو عن طريق تبليغ الموظف المحال على التحقيق بالحضور شفوياً من قبل رئيس اللجنة أو أحد أعضائها أو عن طريق تبليغ رئيسه المباشر شفوياً وفي حالة امتناع الموظف عن الحضور يصار إلى تبليغه تحريرياً وفي حالة امتناعه عن الحضور عامداً تأخير أو عرقلة التحقيق أو بقصد إخفاء الحقائق أو التهرب من المسؤولية فإن ذلك لا يمنع برأينا من مباشرة اللجنة التحقيقية لأعمالها بالاستماع لإفادات الشهود او الخبراء والإطلاع على الأوراق والمستندات والوثائق لأن عدم حضور الموظف بالرغم من تبليغه تعتبر قرينة تفسر ضده وتعتبر تنازلاً أو إهداراً لحقه في تحقيق دفاعه ما لم يثبت أن عدم حضوره كان لأسباب قاهرة خارجة عن إرادته، في حين أن النظام الفرنسي اعتبر عدم مثول الموظف للتحقيق يعد خطأ تأديبياً مستقلاً يتعين محاسبة الموظف عليه كونه يمثل تمرداً على تنفيذ أمر صادر من سلطة إدارية وفق القانون.
في حين إن المشرع العراقي قد سكت عن إعطاء الحكم القانوني للموظف الممتنع عن المثول أمام سلطة التحقيق كما أن المشرع العراقي لم يحدد وسيلة أو آلية معينة لضبط أو إحضار الموظف الممتنع و المتمرد عن الحضور أمام سلطة التحقيق وهذا خلل تشريعي كان على المشرع تفاديه في تعديله الأخير.
2- تباشر اللجنة التحقيقية إجراءات التحقيق تحريرياً حيث أخذ المشرع العراقي بمبدأ (التحقيق المكتوب) كضمان من ضمانات الموظف العام أثناء التحقيق لما للكتابة من قيمة ثبوتية وهي من المبادئ العامة في الـتأديب، والكتابة إجراء جوهري أخذ به القانون العراقي كونه يتعلق بالنظام العام وحق للموظف المتهم بارتكاب مخالفة تأديبية من خلال تسجيل كل ما يتصل بهذه المخالفة من أقوال ووقائع لضمان عدم ضياعها والكتابة تمثل حجة للموظف أو عليه، فإغفال هذا الإجراء الجوهري المقرر لمصلحة الموظف المخالف يترتب عليه بطلان الإجراءات اللاحقة على التحقيق بما في ذلك بطلان القرار الإداري الصادر بفرض العقوبة التأديبية، فاللجنة التحقيقية تتولى تثبيت أقوال ودفوع الموظف تحريرياً وهذا من مقتضيات حق الدفاع المقررة للموظف ولها في سبيل أداء مهامها سماع وتدوين أقوال الموظف المخالف والشهود والإطلاع على جميع المستندات والبيانات التي ترى ضرورة الإطلاع عليها وعلى اللجنة التحقيقية تثبيت أقوال الموظف المخالف المحال إليها والشهود والخبراء تحريرياً وبخط واضح خالي من التحشية والإضافة والحك والشطب في محاضر ضبط إفادة الموظف أو الشهود سواء كانوا شهود إثبات أو شهود نفي، ولم يحدد القانون عدد النسخ الواجب تنظيمها من إفادة الموظف المخالف أو الشهود كما لم يحدد القانون مكان توقيع رئيس اللجنة التحقيقية والأشخاص الذين جرى ضبط إفادتهم وقد جرى العرف الإداري على تنظيم محضر إفادة الموظف المخالف أو الشاهد أو الخبير الفني من نسختين أو أكثر لضمان عدم ضياعها ولتزويد الجهات ذات العلاقة بصورة منها عند الطلب أو عند تنفيذ توصيات اللجنة التحقيقية المصادق عليه من قبل الرئيس الإداري، كما جرى العرف على توقيع رئيس اللجنة في أسفل الجهة اليمنى من محضر ضبط إفادة الموظف والشهود كإشارة إلى أن الإفادة قد ضبطت بوجوده ووجود عضوي اللجنة التحقيقية مع توقيع الموظف المخالف أو الشهود في أسفل الجهة اليسرى من محضر ضبط أقوالهم مع بصمة إبهام اليد اليسرى لضمان عدم إنكار أقوالهم أو التراجع عن إفادتهم وخصوصاً إذا كانت هذه الإفادات تنصب في مصلحة الموظف المخالف، وعلى اللجنة التحقيقية بعد الانتهاء من ضبط إفادة الموظف المخالف أو الشاهد أو الخبير قراءة مضمون الإفادة أو الشهادة على أسماع الموظف أو الشاهد أو الخبير الذين أدلوا بأقوالهم أمام سلطة التحقيق أو أن تقدم الإفادة أو الشهادة لهم لغرض قراءتها والتوقيع عليها، فإذا امتنع الموظف المخالف أو الشاهد أو الخبير عن التوقيع فللجنة التحقيقية تثبيت هذا الامتناع عن التوقيع مع شرح أسباب الامتناع، والقانون لم ينص على شكلية معينة لإفراغ الإفادات والشهادات وفق إطار أو نموذج حدده بنص القانون وإنما نص على ضرورة إفراغ إجراءات التحقيق بصورة تحريرية بالشكل الذي لا يخل بفحوى وجوهر التحقيق دون اشتراط شكل معين لهذا التحقيق وهذا الأمر لا يتعدى عن كونه مسألة تنظيم داخلي راجعة إلى اللجنة التحقيقية ومدى كفاءتها وقدرتها في إفراغ التحقيق في شكل مكتوب أياً كان هذا الشكل ومع ذلك يجب أن يتضمن محضر ضبط الإفادات وشهادات الشهود الحد الأدنى للبيانات كأسم الموظف المخالف والتهمة المنسوية إليه ومضمون دفاع الموظف وأدلة الإثبات، أما البيانات غير الجوهرية، والتي لا يؤدي إغفالها إلى إهدار لضمانة أساسية من ضمانات التحقيق فلا يترتب على هذا الإغفال بطلان إجراءات التحقيق، كما يجب أن يتضمن التحقيق تثبيت كافة إجراءات اللجنة التحقيقية بما فيها إجراءات انتقالها للمعاينة في محل الحادث أو الكشف على مكان المخالفة مع تثبيت وقت الانتقال وسبب الانتقال والمرافقين وكل ما شاهدوه أو وجدوه في المكان.
3- على اللجنة التحقيقية بعد الانتهاء من تدوين أقوال الموظف المخالف وشهود الإثبات والنفي وضبط إفادة الخبراء أن تطلب التحقيق ذلك وبعد جمع الأدلة والمستندات المتعلقة بموضوع التحقيق أن تواجه الموظف بالأدلة والبراهين التي تثبت ارتكابه للمخالفة التأديبية ومناقشة الموظف المخالف لهذه الأدلة ومبدأ مواجهة الموظف المخالف بالأدلة التي تثبت ارتكابه المخالفة التأديبية والتي تحصلت من جراء التحقيق هي ضمانة جوهرية للموظف لا غنى عنها فهذه الأدلة التي سوف تستند إليها اللجنة التحقيقية في إعداد توصياتها التي ستعتمد عليه الجهة المختصة في فرض العقوبة التأديبية في غالب الأحيان فلابد للموظف أن يطلع عليها إذا كان على وشك مجازاته تأديبياً عنها.
4- بعد فراغ اللجنة التحقيقية من إجراءات التحقيق وفقاً للقانون تنظم محضراً تثبت فيه ما اتخذته من إجراءات وما سمعته من أقوال مع توصياتها المسببة أما بعدم مساءلة الموظف وغلق التحقيق أو بفرض إحدى العقوبات المنصوص عليها في المادة (8) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل وترفع المحضر ونتائج التحقيق إلى الجهة التي أحالت الموظف عليها لاتخاذ القرار المناسب أما بتصديق التوصيات وفرض العقوبة أو تعديلها أو إلغائها أو إعادة التحقيق إذا ما وجد خللاً أو عيباً شكلياً أو جوهرياً وهذا يرجع للصلاحية التقديرية للسلطة التأديبية.
فعلى اللجنة التحقيقية أن تنظم محضراً مفصلاً بإجراءتها يضم الأمر الصادر بتشكيل اللجنة التحقيقية وأسماء الموظفين المخالفين والشهود والخبراء أن وجدوا وعناوينهم الوظيفية ومناصبهم وخلاصة بوقائع القضية والاستنتاجات والأدلة التي توصلت إليها اللجنة التحقيقية والتوصيات المسببة التي لا تخرج عن أحد الاحتمالات الآتية :
أ- عدم مساءلة الموظف وغلق التحقيق معه.
ب- التوصية بفرض إحدى العقوبات الانضباطية المنصوص عليها في المادة (8) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل.
ج- التوصية بسحب يد الموظف إذا ما تم توقيفه من جهة ذات اختصاص طيلة مدة التوقيف، كما للجنة أن توصي بسحب يد الموظف في أي مرحلة من مراحل التحقيق.
د- التوصية بتحريك الشكوى الجزائية ضد الموظف إذا ما ثبت للجنة نتيجة التحقيق وجود عنصر جزائي يخرج التحقيق عن نطاق التأديب الإداري ويشكل فعل الموظف جريمة نشأت عن الوظيفة، أو ارتكبها بصفته الرسمية كجريمة الاختلاس أو الرشوة أو استغلال نفوذ الوظيفة أو الإهمال الجسيم أو تبديد أموال الدولة.
وترفع الأوراق التحقيقية مع توصيات اللجنة المسببة –أي وجوب بيان أسباب التوصية- أياً كانت طبيعة هذه التوصية سواء كانت بفرض إحدى العقوبات الانضباطية أو بعدم مساءلة الموظف لعدم كفاية الادلة أو بتحريك شكوى جزائية أمام المحاكم المختصة مع ملاحظة ربط كافة المرافقات كالمستندات والوثائق والمحاضر وإفادات الموظف والشهود والخبراء إن وجدوا إلى الجهة التي أحالت الموظف عليه للنظر في هذه التوصيات.
هـ- إن توصيات اللجنة التحقيقية المشكلة بموجب قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل غير ملزمة للوزير أو رئيس الدائرة وهي لا تعد قراراً إدارياً لعدم ترتب أي أثر قانوني على هذه التوصيات وللوزير ورئيس الدائرة الأخذ بهذه التوصيات أو تعديلها أو إهمالها وبالتالي لا يجوز الطعن بتوصيات اللجان التحقيقية الخاصة بفرض العقوبات الانضباطية لعدم انطباق وصف القرار الإداري عليها وإنما يجوز الطعن بقرارات فرض العقوبة الانضباطية الصادرة من الرئيس الإداري بناءً على هذه التوصية.
6- تتولى الجهة التي أحالت الموظف إلى اللجنة التحقيقية كما بينا البت في توصيات اللجنة التحقيقية أما بالمصادقة عليها أو تعديلها أو إهمالها وإذا ما صدر لهذه الجهة قرار بفرض العقوبة الانضباطية أو تعديلها أو إهمالها لا يجوز لها بعد ذلك إعادة التحقيق في نفس الموضوع ما لم تظهر أدلة ووقائع ذات قيمة قانونية تؤثر في التحقيق وهذا هو اتجاه مجلس شورى الدولة حيث أفتى في قراره المرقم (31/2006) في 3/5/2006 بأن (ليسَ للوزير المختص أو رئيس الدائرة بعد مصادقته على توصية اللجنة التحقيقية إعادة التحقيق الإداري في ذات القضية إلاّ إذا ظهرت أدلة جديدة معتبرة تؤثر في التحقيق).
7- أخذ قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام المشار إليه آنفاً بمبدأ (التحقيق الشفوي) و كما سماه (بالاستجواب) وهو إجراء استثنائي منحه المشرع العراقي للرئيس الإداري لاستخدامه قبل فرض عقوبات محددة على سبيل الحصر حيث نصت الفقرة (رابعاً) من المادة (10) منه على أن (استثناءً من أحكام الفقرتين (أولاً وثانياً) من هذه المادة للوزير أو رئيس الدائرة بعد استجواب الموظف المخالف أن يفرض مباشرة أياً من العقوبات المنصوص عليها في الفقرات (أولاً وثانياً وثالثاً) من المادة (8) من هذا القانون)، وبالرجوع إلى نص المادة (8) من القانون نجد أن المشرع قد حدد العقوبات الانضباطية التي يجوز فرضها دون تشكيل لجنة تحقيقية أو إجراء تحقيق على سبيل الحصر بعقوبات ثلاث هي (لفت النظر، الإنذار، قطع الراتب).
ومعنى ما تقدم أن للوزير أو الرئيس الإداري استثناءً من القاعدة العامة التي تقرر شكلية التحقيق الإداري كضمانة للموظف العام اتجاه فرض العقوبات الانضباطية المنصوص عليها في المادة (8) من هذا القانون أن يقوم بفرض ثلاثة أنواع من العقوبات الانضباطية وهي (لفت النظر، الإنذار، قطع الراتب) دون الحاجة لتشكيل لجنة تحقيقية وضبط الإفادات تحريرياً وإنما يتم الاكتفاء بالاستجواب (التحقيق الشفوي)، وحقيقة الأمر أن الاستجواب هو تحقيق، فالرئيس الإداري يوجه الأسئلة الشفوية للموظف المخالف ويواجهه بالأدلة وأقوال الشهود شفوياً وصولاً لفرض العقوبة الانضباطية بحقه أو بتبرئة ساحته وهو بهذا المعنى تحقيق لكنه شفوي ويفتقر إلى الكتابة ذات القيمة الثبوتية وبذلك يضعف مكنه دفاع الموظف عن نفسه أمام الرئيس الإداري إذا ما تجاهل دفوعه الشفوية، وفي جميع الأحوال فإن قرار فرض العقوبة الانضباطية يصدر تحريرياً ومسبباً أي متضمناً للأسباب التي دعت الرئيس الإداري إلى فرض العقوبة مع بيان المادة القانونية، وهذا الإجراء استثنائي لا مجال للتوسع فيه ويقتصر مباشرته على الرئيس الإداري فحسب (الوزير، رئيس الدائرة) أو أي موظف آخر يخوله الوزير صلاحية فرض العقوبات المنصوص عليها في قانون الانضباط، وإذا ما باشر موظف أخر غير الوزير أو رئيس الدائرة هذا الإجراء عد باطلاً وجاز الطعن فيه بالإلغاء، وهذا ما قرره مجلس شورى الدولة في قراره المرقم (116/2008) في 11/8/2008 والذي جاء فيه :
(1- للوزير أو رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة حصراً فرض العقوبات المنصوص عليها في الفقرة (رابعاً) و(خامساً) و(سادساً) و(سابعاً) و(ثامناً) من المادة (8) من القانون بعد إجراء التحقيق الأصولي وفق أحكام الفقرتين (أولاً) و(ثانياً) من المادة (10) منه.
2- للوزير أو رئيس الجهة غير المرتبطة بوزارة فرض عقوبة لفت النظر أو الإنذار أو قطع الراتب مباشرة بعد استجواب الموظف المخالف دون إجراء التحقيق) .
ويذهب جانب من الفقه إلى اعتبار الاستجواب بديلاً عن التحقيق المكتوب يلجأ إليه الوزير أو رئيس الدائرة في المخالفات البسيطة دون الحاجة إلى تشكيل لجنة تحقيقية حيث يتولى استجواب الموظف المخالف بنفسه مباشرة ويستمع لأقواله بشأن التهمة المسندة إليه ومن ثم يقرر فرض إحدى العقوبات المحددة على سبيل الحصر في الفقرات (أولاً، ثانياً، ثالثاً) من المادة (8) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام آنفة الذكر إذا ثبت لديه إخلال الموظف بواجباته حيث يعتبر الاستجواب استثناءً على القاعدة العامة لا يجوز التوسع فيه إلاّ في الحدود التي رسمها القانون .
ونرى أن مبدأ (الاستجواب) أو التحقيق الشفوي وإن كان يُضعف مكنة الموظف العام في تحقيق دفاعه بسبب سرعة وشفوية الإجراءات أو بسبب ما يصادفه الموظف من إهدار الرئيس الإداري لأسانيد دفاعه، إلاّ أنه يعتبر من جانب الإدارة وسيلة فعالة لضمان استمرار سير المرافق العامة باطراد وانتظام وخصوصاً في حالة ارتكاب الموظف مخالفة بسيطة لا ترقى إلى مستوى يستوجب إجراء التحقيق المكتوب وتحتاج الإدارة إلى فرض العقوبة على وجه السرعة لتحقيق عامل الردع، وبذلك تختصر الإدارة الوقت والجهد وتحقق الغاية المرجوة من فرض العقوبة التأديبية، لذا نرى أن ما ذهب إليه جانب من الفقه من اعتبار (الاستجواب) أو التحقيق الشفوي في جميع حالاته يمثل تناقضاً في المبادئ التي تحكم التأديب الإداري ومنها مبدأ عدم جواز تحديد العقوبة سلفاً أو تقدير حجم وجسامة الفعل والمخالفة المرتكبة مسبقاً وتحديد إجراءات العقوبة مقدماً بسبب الطبيعة الاستباقية لهذا الإجراء غير دقيق على إطلاقه وذلك لأن تقدير الجزاء هو أثر للتحقيق وأن (الاستجواب) هو تحقيق شفوي وبالتالي فإن فرض العقوبة التأديبية بعد إجراء التحقيق الشفوي هي نتيجة منطقية باعتبارها أثراً للتحقيق وبالمقابل نجد أن جانب من الفقه قد نحى منحى أكثر تشدداً إذ اعتبر الاستجواب يقوم على أساس فكرة أو تقدير مسبق بحجم الجزاء المراد إيقاعه بالموظف ويرى (أن التحقيق الشفوي هو مصادرة على المطلوب واستباق للأحداث، إذ أن تقدير العقوبة جاء سابقاً لقيام التحقيق والوقوف على الحقيقة وهي نتيجة غير منطقية أصلاً) .
ويزداد الأمر خطورة في البلدان التي تأخذ بنظام التأديب الرئاسي ومنها العراق حيث أن الأخذ بهذا النظام في التأديب يجافي برأينا مبدأ الموضوعية في العمل الإداري أو ما يسمى أحياناً بمبدأ (الحيادية أو الحيدة) الذي يشكل ضمانة من ضمانات الموظف العام اتجاه الإجراءات التأديبية، إذ أن إناطة توقيع العقوبات التأديبية بالرئيس الإداري على مرؤوسيه أي مباشرة الإتهام والتحقيق وفرض الجزاء يشكل خرقاً للقواعد الموضوعية في الإجراءات التأديبية وإن إهمال الجوانب الموضوعية يخل بالضمانات التي يجب أن تتوافر للموظف سواء كانت واردة في القانون أو تلك التي تمليها مبادئ الإنصاف والعدالة، لذا يذهب جانب من الفقه إلى اعتبار الإجراءات التي أهدرت القواعد الموضوعية فاقدة لشرعيتها وتنحدر إلى درجة الانعدام.
فقانون انضباط موظفي الدولة رقم (14) لسنة 1991 المعدل قد مال إلى مبدأ فاعلية الإدارة ومنحها سلطات واسعة في إتهام الموظف والتحقيق معه وفرض الجزاء التأديبي بحقه ووضع الإدارة في مركز أسمى من مركز الموظف على حساب ضمانات الموظف وهذا غير معقول برأينا من الناحية المنطقية حيث كان يقتضي الأمر الموازنة بين المركزين كحد أدنى
– أي الموازنة بين سلطات الإدارة وضمانات الموظف – وهذا ما تقتضيه المبادئ العامة للقانون ومبادئ الإنصاف والعدالة منعاً لتعسف الإدارة وانحرافها.
إن مبدأ فاعلية الإدارة وإن كان له مبرراته المتمثلة بتحقيق المصلحة العامة وضمان استمرار سير المرافق العامة بانتظام واطراد وهذا يقتضي منح الإدارة سلطة في إيقاع الجزاء التأديبي على المخالفين بشكل يتسم بالسرعة والحسم وبشكل يضمن تجلي آثار العقوبة التأديبية على الموظف المخالف بسرعة وبذلك نضمن فاعلية الجزاء في تحقيق الردع باعتبار الإدارة من خلال سلطاتها الرئاسية هي الجهة الأكثر مقدرة بحكم تماسها مع الموظف في فهم السلوك الوظيفي له وتقدير خطورة المخالفة والخطأ المرتكب من قبله وتأثير ذلك على سير العمل والمصلحة العامة وبالتالي تكون الجهة الأقدر في اختيار الجزاء التأديبي المناسب طبقاً لمبدأ (حيث توجد السلطة توجد المسؤولية) إلا أنه يجب أن لا يكون ذلك على حساب ضمانات الموظف، والحقيقة لا أنوي بكلامي آنف الذكر الدفاع عن النظام الرئاسي في التأديب لأنني أصلاً ضد الشفوية في فرض العقوبة التأديبية لما يترتب عليها من إهدار لحقوق الموظف والحل يكمن -كما أسلفت- بتحقيق الموازنة بين فاعلية الإدارة وضمانات الموظف من خلال التدخل التشريعي وخصوصاً بعد تطور مفاهيم الحقوق والحريات الشخصية التي انعكست بدورها على أنظمة التأديب الإداري وتحديداً حق الدفاع وضمانات تحقيقه.
وقد جاء دستور جمهورية العراق لسنة 2005 بمبدأ مهم مضمونه حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن حيث نصت المادة (100) منه على أن (يحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من الطعن) مما دفع المشرع العراقي إلى تعديل قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 بموجب قانون التعديل الأول رقم (5) لسنة 2008 وجعله متلائماً ومتوافقاً مع النص الدستوري آنف الذكر، حيث كان قانون الانضباط قبل تعديله يتضمن عقوبات انضباطية باته ، ولغرض تحقيق التوازن بين سلطات الإدارة التقديرية وضمانات الموظف العام أجازت الفقرة (ثالثاً) من المادة (12) من القانون المذكور للموظف الذي يشغل وظيفة مدير عام فما فوق الطعن بقرارات الوزير المختص الخاصة بفرض عقوبة (لفت النظر، الإنذار، قطع الراتب) بحقه بعد أن كانت هذه العقوبات باته لا يجوز الطعن بها، كما أجازت الفقرة (ثالثاً) من المادة (14) من القانون نفسه للموظف الطعن بقرارات فرض العقوبات الانضباطية الصادرة من رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء أو الوزير أو رئيس الدائرة غير المرتبطة بوزارة بحقه بعد أن كانت هذه القرارات باته لا يجوز الطعن فيها، والحقيقة أن هذا التعديل وإن كان يمثل خطوة مهمة خطاها المشرع العراقي قدماً في سبيل ضمان حقوق الموظف إلا أن هذا التعديل يمثل ضمانة لاحقة لفرض العقوبة الانضباطية لأن الطعن سيكون بعد صدور القرار الإداري بفرض العقوبة وإننا قصدنا بالموازنة من خلال توفير ضمانات سابقة لفرض العقوبة التأديبية لتكون كابحاً أمام سلطة الإدارة يحول دون تعسفها ومغالاتها، لذا نجد أن المحكمة الاتحادية العليا قررت بموجب حكمها المرقم (4/اتحادية/2007) في 2/7/2007 عدم دستورية نص الفقرة (رابعاً) من المادة (11) من قانون الانضباط ذلك لأن استثناء الفقرة المذكورة عقوبتي (لفت النظر، والإنذار) المنصوص عليهما في المادة (8) من القانون المذكور من الطعن يخالف أحكام المادة (100) من الدستور وحيث أن قرار فرض العقوبات الانضباطية هي قرارات إدارية فإنها تخضع للطعن تقريراً لنص المادة (100) من الدستور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة يتظاهرون بأسلوبهم لدعم غزة


.. إعلام فرنسي: اعتقال مقتحم القنصلية الإيرانية في باريس




.. إعلام فرنسي: اعتقال الرجل المتحصن داخل القنصلية الإيرانية في


.. فيتو أميركي ضد مشروع قرار منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في




.. بن غفير: عقوبة الإعدام للمخربين هي الحل الأمثل لمشكلة اكتظاظ