الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شفرات حلاقة صالحة للتدوير -13-

علي دريوسي

2020 / 12 / 27
الادب والفن


ما أقساهم
ما أبسطهم
ما أتعسهم
وما أفقرهم
كم هي أصواتهم عالية
مُضطَرِبة مُتَقاطِعة
كم هي كلماتهم بسيطة حالمة
قاسية مُتشنِّجة
كم هي نقاشاتهم سطحيَّة
عراكية إبرية حادة
متزَمِّتة وثنائية البعد:
عن كرة القدم
عن الدين والسياسة العربية
عن أمريكا وإسرائيل
ودائماً كما يفهمونها.

كم هي تعابير وجوههم غامضة
حائرة منتظرة
كم هي نظراتهم تائهة
مُتردِّدة مُتلهِّفة.

ما أحلاهم في الغرب
حين يجتمعون في مقاهي الأجانب الرخيصة
يغلون من شدة حرارتهم
تجلدهم العزلة
الوحدة الرغبة
تسوطهم تضاريس المرأة الألمانية من مختلف الأعمار.

كم يلعنون كل يوم
ألسنتهم العاجزة عن النطق بغير اللغة الأم.

وإذْ يلتقي أحدهم بها
الإبرة الضائعة في كومة القشّ الأصفّر
تلك التي تحتاجه وتبحث عن ضَالَّتها المنشُودة منذ سنوات
يبدأ رحلته معها بالتَوَرُّد والتألُّق
يصير أكثر حناناً
يصير أكثر اخضراراً.

تتفتح روحه
تبدأ عقدة لسانه بالانفلات
يعود إلى الحياة
إلى رحم الأم
إلى الوطن الحلم
يعود إنساناً على مهل.

على المقعد الخشبيّ في حديقة المدينة
جلسا في حالة عِنَاق
العِنَاق ثقافة وعلاج
رجل أسود في منتصف العمر
طويل القامة
يرتدي قميصاً ملّوناً واسعاً وبنطلون جينز شابَ لونه
ينتعل في قدميه الكبيرتين حذاء شتوياً ضخماً
بجواره إمرأة بيضاء تجاوزت عقدها الخامس
ترتدي فستاناً ربيعياً عارياً إلا من لحم جسدها الأبيض.

تقول له دون أن يفهمها:
"كم أرثي لحالكم .. أنتم الدراويش منذ بدء الكلمة."

يجيبها بلغته الأم دون أن تسمعه:
"نحن شعب يولد من رحم الأحزان."

يسحب هاتفه من جيب قميصه
يعرض عليها صورة "عِنَاق"
بين رجل أسود وإمرأة شقراء.

تتأوَّه إعجاباً:
"من أهداكَ هذا الرأس الجميل في وضعية عِنَاق وحنان؟"
تضمه بقوة أكبر
يشدها إليه أكثر
يفرك وجهها الأبيض بيده السوداء الغريبة
الجميلة المشتاقة
يعانقُ بيده اليسرى كتفها الأيمن
يضمها كلها
كل جسدها الطّريّ
يُجهد نفسه للاحتماء بها
لامتلاكها
لابتلاعها
للدخول فيها.

تبوسُ ملامح وجهه الأسود الْقَاسِي بشهوةِ الاشتياق
تَستَنْشق غبار أيامه
تطمر وجهها في صدره الأسود
تشمَّ رائحته السوداء شاكرة قدرها
تُغمض عينيها وتستريح
تهمس له بكلمات لا يفهمها
تعتذر له عمّا ألمّ به
من تعب وفقر وعجز وندبات.

يفتح بدوره عينيه التائهتين الحالمتين
بيده اليمنى يلاعب شعرها المُشْقَرّ قسراً
يسرح بنظراته إلى أبعد من البعيد
يرى نفسه ـ وقد فاق من نومه ـ في سريرها العريض
المريح النظيف
ثمة بقايا رائحة وشموع من ليلة فائتة تنتظر إزالتها
يجد نفسه في مطبخها الأنيق الدافئ
رائحة الصباح وقهوته تعبق بالمكان
يرى إمرأة تترقَّب قدومه كاشفة عن فخذيها
تبادره: "صباح الخير أيها الرجل الأسود."
الكلمة الأولى التي يسمعها من مصدرها الأم.

تصله رائحة خُبْز طَازَج لا تقاوم
على طاولة الفطور
ثَمّة صحون
ورود وجرائد
سكاكين وشوك و"سيرفيتن" مطويّة بأناقة
علب غريبة اللون والشكل لم يرها من قبل:
جبنة ومارمالادي وزبدة ماركة ألمانية
أشكال متنوعة من"سلامي وفورست" ألمانية المنشأ
باسطرمة ونقانق وسُجُق المرقاز
تتحرك شفتاه فجأةً مُعلِنة مخاض ابتسامة.

على المقعد الخشبيّ في حديقة المدينة
جلسَ رجل أسود
وحيداً
حزيناً
مسترخياً.
عيناه الواسعتان تضحكان
تعانقان شمس الصباح
ينظر خلسةً في ساعة يده اليسرى
يقول في سِرّه:
اقترب موعد مجيء
الأصدقاء المتآخين
الغرباء المقهورين
إلى المقهى
اشتقت إلى حكاياتهم
اشتقت إلى نقاشاتنا التي لا تنتهي
اشتقت
لأحكي لهم عما عشته في حلمي
عن جسد مَطْمور
في جسدي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81