الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأثير السجن

راتب شعبو

2020 / 12 / 27
الادب والفن


ختمت كتابي عن نفق السجن الماراتوني الذي استغرق مني عبوره ست عشرة سنة وثلاثة أيام، بالعبارة التالية: خرجت من السجن ولكن هل خرج السجن مني؟ الجواب البديهي على السؤال هو النفي، السجن لا يخرج من السجين، ليس لأنه يبقى جزءاً بارزاً في ذاكرته بوصفه تجربة قاسية، بل أيضاً والأهم لأنه يبقى جزءاً من معيقات حريته سواء في علاقته مع ذاته أو في علاقته مع الآخرين. ويكون ذلك صحيحاً أكثر حين يخرج السجين في ظل النظام السياسي نفسه الذي سجنه، أي حين يخرج مهزوماً، حين يخرج مثلاً بعفو يقول إن الجهة التي أجرمت بسجنه إنما تشفق عليه فتفتح له باب الخروج من السجن. ولا يختلف الأمر، حين يخرج السجين السياسي عند انتهاء مدة حكمه الظالم والمسبق الصنع (هذا بعد أن "تطور" النظام السوري وصار يحيل ضحاياه إلى محاكم ليست لها من اسمها نصيب ولا تعدو كونها واجهة "قضائية" لفروع المخابرات، حتى تكاد تشم رائحة الدم والأقبية في قاعات هذه "المحاكم"). من جهتي، كانت حالتي مزيجاً بين الحالتين، أنهيت مدة حكمي التي هي العقوبة الأقصى للتهمة التي وجهت لي، ثم لم يفرج عني إلا بعفو صدر بعد سنة وثلاثة أيام من انتهاء مدة الحكم. لك أن تتخيل كيف كان سجني حاضراً في كل حياتي التالية، حتى إذا غاب قليلاً عن نفسي، أعادته لي عيون المعارف القلقة، ونبرة الموظفين الصادة حين أضطر لمراجعتهم لأمر ما. غير أن ذلك، لحسن الحظ، لم يكسرني من الداخل لقناعتي، الطفولية ربما، أن وراء هذه العيون القلقة، وهذا الصد العدائي تكمن ضمائر معذبة حليفة لي بعد كل شيء.
لا تؤلمني ذكرى السجن، ولا أسعى لنسيانه بقدر ما هو تجربة، وبقدر ما هو ضريبة لمواجهة طغيان سياسي. على العكس، يعطيني ذلك بعض الشعور بالقيمة أمام نفسي. أرتاح في الحديث عن السجن، وأحب أن أكتب عنه. لا يريحني أن أرى سجيناً يتهرب من الحديث عن سجنه، وإن بدا لي أن التصور العام يميل إلى اعتبار الحديث عن السجن ليس إلا "تقليب مواجع".
السجن محل للحرمان ولكنه محل يتيح لك ما لا يتيحه المجال العام خارج السجن. في السجن تعبر عن رأيك بحرية، ليس فقط مع رفاقك في السجن بل حتى مع عناصر الشرطة أنفسهم. وفي السجن يمكنك أن تقرأ (حين يكون الكتاب مسموحاً بالطبع، وهو مسموح في بعض السجون). القراءة والتحرر من أعباء الحياة اليومية التي يعيشها "أهل الخارج"، تسمح للسجين بتعميق ثقافته وبالتأمل وتطوير تصوره عن العالم، على هذا يمكن أن يحرر السجنُ السجينَ من ضيق الأفق ومن الأوهام وربما الصبيانية الملازمة للعمل السياسي المعارض. ولكن السجون المشددة والمديدة تثابر على تدمير النفوس والعقول معاً، فيخرج السجين محطماً على شكل شخص مستكين مستسلم، وهو الغالب، أو على شكل شخص متوتر يتيحن لحظة انتقام أعمى.
الإقصاء المديد عن الحياة العادية بسبب الحبس أنزل في نفسي طعم الهزيمة. خرجت من السجن أقل عنفواناً. أصبحت أقل تمرداً واحتجاجاً على ما أراه خاطئاً. كان هذا يقتل تقييمي الذاتي ويرتد مرارة على نفسي. أي إن الهزيمة المستتبة زادت المسافة بين ضميري وبين مسلكي العام. حين دافعت عن رسالة الماجستير مثلاً، وقعت في يد استاذ مُشرف اختار لي موضوعاً غريباً بلا مراجع، لا على الانترنت ولا في المكتبات، ولم يؤمن لي مرجعاً أعتمد عليه سوى بضع مقالات قريبة من الموضوع وباللغة الروسية دون أن يساعد في ترجمتها. وأخّرني ستة اشهر عن بقية زملائي. كان يجعلني أنتظر في عيادته بالساعات كي أستشيره فيما علي فعله، وكان يعزو سبب هذا التأخير، لمن يسأله، إلى كسلي في البحث. أعتقد أنني لولا السجن لما سمحت بمرور هذا السلوك، كنت سأتمرد وسأغامر حتى بخسارة شهادتي انتقاماً لكرامتي، غير أني "صبرت" ولم أفعل، وكان لهذا أثر كاوٍ في وجداني. أعتبر هذا من المفاعيل السلبية للسجن عليّ.
يوجد في سورية عدد غير قليل من الكتابات عن السجن، هذا انعكاس طبيعي لسيطرة القمع في فترة طغيان آل الأسد في سورية. من جهتي أقدر كل من كتب عن السجن، ولاسيما أصحاب التجربة الفعلية. لكن يبقى أمامنا الكتابة عما بعد السجن، عن السجن الذي استقر في النفوس وعن مفاعيله التالية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في