الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورج ويلهلم هيجل (1770 - 1831 )

غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني

2020 / 12 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



فيلسوف العقل والديالكتيك، ومؤسس الفلسفة الألمانية الحديثة، وأحد أهم المؤسسين للحداثة، ولــد في مدينة "شتوتجارت" في أسرة موظف كبير بإحدى الدويلات الألمانية الصغيرة "إمارة فيورتمبرغ"، فقد عاش في مجتمع إقطاعي تسوده رجعية النبلاء وكذلك عاش مع رياح الثورة الفرنسية التي طالبت بتحرير الإنسان وتأثر بكليهما؛ وقد رحب الطالب هيغل –كما يقول جون لويس- "بالثورة الفرنسية عندما ذهب إلى يينا في اعقاب فيخته وشيلنغ عام 1803، وهو لم يجزع من وصول نابوليون والنصر الفرنسي عام 1806، فقد كان ينظر إلى نابوليون على أساس أنه "روح العالم على صهوة جواد".
ولم يكن هيغل هو الألماني المستنير الوحيد الذي رأى في الثورة الفرنسية تحولاً حاسماً في تاريخ العالم، فالناس قد اخذوا لأول مرة يخضعون الواقع الاجتماعي للعقل، كانوا يرون أن العقل يجب أن يحكم الواقع، بما في ذلك الواقع الاجتماعي"([1]).
تأثر هيجل أيضاً بـ"كانط" وفلسفته العقلية بمثل ما تأثر بصديقيه الفيلسوف "شيلنج" والشاعر الرومانسي "هلدرلين"، درس الفلسفة واللاهوت في معهد "توبنجن" ثم أصبح أستاذاً في جامعة "يينا"([2])، وأصبح بتأثير محاضراته وكتبه من أشهر وأعظم الفلاسفة في عصره، وما تلاه من عصور إلى يومنا هذا.
يعتبر هيجل من المؤسسين الحقيقيين للحداثة، فالعقل عنده أساس الوعي والمعرفة، وبالتالي كل ما هو عقلي عنده هو واقعي وكل ما هو واقعي هو عقلي، بمعنى ان الواقع ما هو إلا إنعكاس للعقل وما ينتجه من أفكار.
إن "مراحل تطور التاريخ عنده لم توجد صدفه، بل يشرف عليها ما يسميه هيجل: الروح المطلق، بمعنى ان حركة التاريخ – من خلال الروح المطلق- هي حركة حرية ولسنا سوى أداة في يد تلك الروح المطلق""([3]).
لكن هيجل على الرغم من مثاليته الميتافيزيقية هذه، ذهب –كما يقول المفكر هشام غصيب- "أبعد مما ذهب إليه كانط، فقال: أن تكون موجوداً يعني أن تكون عقلياً وان تكون عقلياً يعني أن تكون موجوداً، فاليقين مرتبط بالعقل بصورة كلية ، فالعقل هو اليقين الوحيد"([4]).
في هذا الجانب، يقول المفكر الراحل د. صادق العظم، "هيجل أول من عالج جدلياً تاريخ الفلسفة بمنظور تاريخي حقيقي، معروف أن هيجل عد التعاليم الفلسفية لعصر ما بمثابة التعبير الفكري والثقافي الأكثر رقياً عن "روح" ذلك العصر، وبما أن هذا الروح يعبر عن نفسه في بقية تجليات العصر أيضاً (اقتصاد، اجتماع، سياسة، علم، فن، إلخ) فإن أي فهم جدي للتعاليم الفلسفية يصبح متعذراً دون الرجوع إلى تجليات العصر الرئيسية الأخرى ومصدرها الأولي والأصلي، إذ أن هيجل هو القائل: "إن الفلسفة هي زمانها وقد تم استيعابه على مستوى الفكر"، هناك أيضاً رأي هيجل الآخر القائل بأن النسق الفلسفي الأرقى والأكثر تقدماً قادر على استيعاب النسق الفلسفي الأقدم بمشكلاته كلها، وعلى تفسير ضرورة نشوئه كظاهرة داخل تاريخ الفلسفة ذاته، أي ان التعاليم الفلسفية ترتبط عضوياً ببنية متنوعة نشات تاريخياً من بنية سابقة عليها"([5]).
حياته وعصره :
اختلف الباحثون عنه في تقديراتهم له، حتى أن "وليم ولاس" يُشَبِّه اختلافهم باختلاف المفسرين في شرحهم للكتاب المقدس؛ فكان في جميع مراحل دراسته الأول دائماً؛ ترجم الكثير من الكتب اليونانية، ودرس "الإلياذة وشيشرون" وهو في سن السادسة عشر، وفي الثانية عشر درس "الأخلاق" لأرسطو؛ وبعد دخوله الجامعة كان مثله الأعلى "روسو" وخصوصاً مؤلفه "العقد الاجتماعي" وعلى حد تعبيره أن: قراءتي لروسو تحررني من الأصفاد..! ".
أثناء عمله استاذاً في جامعة يينا، أصدر هيجل أول وأهم مؤلف له "فينومينولوجيا الروح" صدر في عام 1806 والذي يشكل حسب تعبير ماركس "المعين الحقيقي" للفلسفة الهيغلية؛ ثم أصدر بعد ذلك مؤلفه الضخم الثاني "علم المنطق".
وعلى أثر ذلك "وصل هيجل –في برلين وبروسيا- إلى أوج الشهرة والقوة، إلى مكانة عظيمة، فالناس من كل الطبقات استمعوا إلى محاضراته. والطلاب من كل أصقاع المانيا، ومن كل أمم أوروبا، وخصوصاً بولندة، بل وأيضاً يونانيون واسكندنافيون جلسوا عند قدميه، وأنصتوا في خشوع لكلماته السحرية التي كان يتفوه بها، وهو يُقَلِّب أوراقه فوق منضدة كرسيه، وهو يسعل، ويمخط ويكرر نفسه، وينطق بمشقه، ولكن عمق المضمون كان ينفذ في العقول ويشع منها حماسه صافية كل الصفاء، فقد اجمعت الشواهد، أو معظمها، على ما حظى به هيجل من مكانة علمية ونفوذ سياسي معاً، خصوصاً بسبب علاقته الوثيقة بالحكومة البروسية في مجموعها، ففي عام 1817 وما تلاه انتشرت الهيغلية حتى أوشكت أن تصبح العقيدة الرسمية للدولة حتى قيل أن الإيمان بالهيجلية أصبح وسيلة للحصول على الوظيفة الحكومية أو الترقي فيها..!، كما أن آثار فلسفته نجدها تعمل في اتجاهات متباينة أشد ما يكون التباين؛ فـ "الماركسية" أخذت عنها وكذلك "البروتستانتية" المتحررة، "والوجودية" تأثرت بها، وكذلك البراجماتية والوضعية المنطقية"([6]).
حدد "انجلز" المكانة التاريخية لـ "هيغل" في تطور الفلسفة بقوله: "لقد بلغت هذه الفلسفة الألمانية الجديدة ذروتها في مذهب "هيجل" والذي تكمن مأثرته التاريخية العظيمة في أنه كان أول من نَظَرَ إلى العالم الطبيعي والتاريخي والروحي بوصفه عملية؛ أي في حركة دائمة وفي تغير وتطور.. وقام بمحاولة للكشف عن العلاقة الداخلية لهذه الحركة وهذا التطور؛ ولا يهمنا هنا أن يكون "هيجل" لم يجد الحل لهذا المسألة.. فمأثرته التاريخية تقوم في طرحه لها…"!!
لقد كان للديالكتيك الهيغلي، وقانون التناقضات –كما يقول د.هشام غصيب-"اهمية خاصة في تطور العقل الذي يتطور ويُنتج أشياء جديدة ثم يتمظهر (نفي اثبات نفي) وينتج الطبيعة ثم يعود إلى ذاته (الفكرة المطلقة) ، فالعقل هو كل مغلق، فكان هيجل يسمي العقل الكلي أنه الله ، هنا تتجلى فكرة دين العقل في فلسفة هيجل، وهي (دين العقل) مرحلة متطورة، أزاحت هيمنة الدين الكلي على عقول البشر، في عصر ما قبل هيجل (العصور الوسطى الاقطاعية)، وهذا هو الموقف الفلسفي ( دين العقل) الذي وضعه هيجل، وتبناه الهيغليين الشباب ومنهم شتراوس (الذي كتب ضد يسوع) وبرونو باور وفيورباخ وماركس وانجلز، وجميعهم ارتقوا بأفكار هيجل، ورفضوا مثاليته واستبدلوها بالفكر المادي الفلسفي في اطار المنهج الجدلي او الديالكتيك، وقاموا جميعاً – خاصة فيورباخ– برد الاعتبار للانسان بعد ان استعملوا العناصر العقلية عند هيجل، لكن فيورباخ كان مثالياً صاحب نظرة سكونيه، وهنا جاء دور ماركس الذي تأثر بفكر فيورباخ ووجه له النقد في نفس الوقت"([7]).
الاطار الاجتماعي لفكر هيجل:
لم تكن الدولة الالمانية في العقد الاخير من القرن الثامن عشر دولة على حد تعبير هيجل. "فقد كانت مخلفات الاستبداد الاقطاعي لا تزال تضرب أطنابها في المانيا، وازداد طغيانها لأنها تفككت إلى كثرة من النظم الاستبدادية الصغيرة التي يتنافس كل منها مع الاخر، وكانت الدولة تتألف من النمسا وبروسيا والامراء الناخبين، و94 أميرا من أمراء الكنيسة والأمراء الزمنيين و103 من البارونات، و40 اسقفا، و51 مدنية دولة، أي انها كانت باختصار تتألف من ثلاثمائة اقليماً. ولم يكن لدى الدولة جندي واحد، ولا كان هنالك تشريع مركزي، وكان رق الارض لا يزال سائداً، والفلاح لا يزال دابة يمشي على رجلين .. أما المحكمة العليا فكانت ساحة تُمارَسْ فيها كل ألوان الجشع والنزوات والرشاوي. وكان بعض الأفراد لا يزالون يؤجرون رعاياهم أو يبيعونهم ليكونوا جنوداً مرتزقة في بلاد اجنبية، كما كانت الرقابة الشديدة مفروضة لقمع ابسط اتجاه مستنير، وباختصار، كان الوضع الراهن آنذاك في المانيا – كما وصفه احد معاصري تلك الفترة- هو ان الناس يعيشون بلا قانون أو عدالة، وبلا حماية من الضرائب التعسفية، غير آمنين على أرواح ابنائهم، أو على حريتهم وحقوقهم، ويَحْيُون ضحايا عاجزين للسلطة الاستبدادية، والأهم من ذلك كله هو أن حياة الالمان كانت تفتقر إلى الوحدة القومية"([8]).
أما النمو الاقتصادي "فقد كان متخلفاً جداً، وكانت البورجوازية بسبب ذلك ضعيفة ومشتتة بين اقاليم متعددة، وكانت مصالحها متباينة، فالمؤسسات الصناعية القليلة الموجودة لم تكن الا جُزُراً صغيرة داخل نظام اقطاعي قديم العهد، وكان الفرد في وجوده الاجتماعي إما مستَعبْدَاً، أو مُستعَبِداً غيره من الناس، وتلك هي حال المانيا في عصر هيجل، فما عساه أن يفعل؟ وهو الألماني الذي كان يحز في نفسه أن يجد بلاده ممزقة على النحو المذكور، هل ينظر لثورة بورجوازية في المانيا على غرار ما فعل المفكرون الفرنسيون في فرنسا والانجليز في انجلترا؟ الواقع أن ذلك ليس هو ما قام به، لسبب بسيط وهو أن مبادئ الثورة المطلوبة صاغتها كلها الثورة الفرنسية من قبل، ولم يَبْدُ لهيجل انها استنفذت اغراضها بعد، أو أنها عفا عليها الزمن وأصبحت بالية، واذن فالمطلوب هو العودة إلى مبدأ الثورة المذكورة، أعني –كما يقول د. حامد خليل- "حُكم العقل، ويبدو أن "هيجل" أخذ على عاتقه مهمة تفسير ذلك المبدأ وتوضيحه"([9]).
ولذلك يصح القول كما يضيف د. حامد خليل- "بأن فلسفته كانت "النظرة الالمانية للثورة الفرنسية" كما عُبَّرَ عن ذلك ماركس فيما بعد، والحق أن النقطة المذكورة بالغة الأهمية بالنسبة إلى فهم هيجل، فالفكرة الشائعة عنه هي أنه فكر مثالي لا يعبأ بالواقع، وانما ينسج في الفكر عالماً مثالياً لاسَنَدَ له على أرض ذلك الواقع، غير أن القراءة الدقيقة لفكره تبين أن مثاليته لا يجب ان تُفْهَم بهذا المعنى بأي حال من الاحوال، فالواقع المذكور كان بالنسبة له الأرض التي انطلق منها، وكان ذلك الواقع هو "المانيا" التي يعود اليها دائماً، ولم يفارقه لحظة واحدة طوال مسيرته، ولتوضيح ذلك يقول د. حامد خليل "ان المانيا المجزأة يجب أولا توحيدها، لكن كيف السبيل إلى ذلك، والنظام الاقتصادي السائد فيها لا يجعل من أمر تلك الوحدة مطلباً ملحا؟ فطبيعة النظام المذكور لا تستدعي وجود سوق قومية موحدة، على غرار ما حدث في دول أوربا الاخرى، وإذن فإن الطريق المتبقي إلى الوحدة لا بد أن يكون الطريق الذي يجب أن يمر عبر العقل وحده، أي أن المطلوب هو تثقيف العقول لكي ترقى المفاهيم العقلية عن طريقه إلى مستوى المفاهيم العقلانية"([10]).
ومن جهة أخرى، فان مطلب الحرية هو – على الرغم من أهميته بالنسبة إلى الالمان الخاضعين لأقسى أنواع الاستبداد – مطلب يتسم بالخطورة إذا ما تم تحقيقه على الطريقة الفرنسية،  والاهم من ذلك أن اطلاق العنان لتلك الحرية الفردية سيكرس التجزئة التي كانت تقض مضجع هجيل.
وإذن كيف السبيل إلى تحقيق الحرية للالمان، وتجنيبهم في الوقت نفسه المذابح والفظائع التي ارتكبت بحق الفرنسيين من جهة، وتحقيق وحدتهم، وبالتالي اقامة دولة ألمانيا الموحدة من جهة أخرى؟
هذا هو بالضبط ما كان يفكر به هيجل، وبناء على ذلك–يقول د. حامد خليل-  يحق لنا أن نقول إن فكره كان محكوماً بالواقع من بدايته وحتى نهايته، وإن اطلاق وصف "مثالية مطلقة" على فلسفته لا يجب أن يقلل من أهميته واقعيته المذكورة بحال من الاحوال"([11]).
لقد أصبحت قضية هيجل وفق هذا التحليل، هي تنظيم حياة الألمان الاجتماعية وفق مبدأ الثورة الفرنسية، وقد كان يرى أن التنظيم المذكور يتوقف في نهاية المطاف على  معرفة أولئك الألمان بأن ثمة تصورات ومبادئ عامة تشير إلى شروط ومعايير ذات صحة مطلقة، تكون هي هي بالنسبة إلى كل فرد مهما كان، وقد أخذ على عاتقه مهمة توضيحها وشرحها لهم، ورأى أن ذلك هو الضامن الوحيد لتحقيق حريتهم، واقامة وحدتهم من جهة، وتجنيبهم مخاطر الرعب والارهاب والقتل التي ارتُكِبَتْ في بلد الثورة، الذي لم يع أبناؤه تماماً مبدأها من جهة أخرى، فكان بحق ابن عصره.
ربما يتساءل أحد –كما يضيف د. حامد خليل- "كيف يمكننا التوفيق بين واقعية هيجل التي شددنا عليها كثيرا قبل قليل، وبين وجه آخر ميتافيزيقي "لانسانه" الذي اخترنا أن نضعه عنواناً لهذه الفقرة؟ ألا يبدو أن الأمر ينطوي على قدر من التناقض في هذا المقام؟ وحقيقة الأمر أن "هيجل" لم يخرج عن إطار ما فعله كل فلاسفة الثورات البورجوازية السابقين في أوروبا، بدءا من هوبز وانتهاء بهولباخ في هذا المجال، فقد عالج مشكلة الإنسان على ضوء حالة الإنسان الأوروبي كما وجدها في عصره، واستخلص من ذلك، وبطريقة ميتافيزيقية خالصة، صورة محددة له، انتزعها فيما بعد من سياقها الاجتماعي والتاريخي، واعتبرها مبدأ اولاً، يكون الواقع الاجتماعي الراهن والتاريخ السابق لكل انسان، مجرد نتيجتين حتميتين له([12]).
لكن الشيء الجديد الذي أتى به هيجل، والذي يميزه عن غيره من الميتافيزيقيين، "هو أن الصورة المذكورة هي بالنسبة له نتيجة بقدر ما هي سبب وسواء بسواء. وهنا تكمن جدته، وطرافة فلسفته وأصالتها، ولتوضيح ذلك يقول د.حامد خليل: "إن "هيجل" اتخذ موقفين في وقت واحد في تفسيره للإنسان: موقفاً ميتافيزيقياً وآخر تاريخياً، لكن لما بدا له أن الموقفين متناقضان، ولا يمكن التوفيق بينهما، فَسَّرَ التاريخي بطريقة ميتافيزيقية، فَجَنَّبَ مذهبه خطر الوقوع في حالة من عدم الإتساق، وحَفَظَ له وحدته الشكلية وفق معايير المذهب ذاته وطروحاته، إنها وحدة شكلية، لإن الوحده الحقيقية ليست متحققة في مذهب هيجل بالفعل، وإنما الذي تحقق هو الوحدة المذكورة التي تقوم على التسليم المتبادل بصحة تفسير التاريخ من جانب المذهب، وصحة تفسير المذهب من جانب التاريخ، هو الموقف الذي يصعب تحقيقه الا ضمن اطار مذهب هيجل أو داخله على وجه التحديد"([13]).
 فلسفتــه:
وحدة الفكر والوجود .. نقطة الانطلاق في فلسفة "هيجل":
يرى هيجل أنه لا المادة ولا الوعي البشري يمكن اعتبارها أولية.. لأنه لا يمكن منطقياً استنتاج الوعي من المادة كما لا يمكن استنتاج المادة من الوعي الإنساني، وهذا الوعي يجب النظر إليه بوصفه نتيجة للتطور السابق لجوهر أوَلي مطلق؛ لكن هذا الجوهر الأولي المطلق لا ينظر إليه "هيجـل" على أنه وحدة مطلقة للذاتي والموضوعي دون أي تمايز بينهما، ذلك إن الوحدة الأولية التي تشكل الأساس الجوهري للعالم –عند هيجل- هي: "وحدة الوجود والفكر"، وحدة يتمايز فيها _منذ البداية_ الموضوعي والذاتي ؛ لكن هذا التمايز موجود في الفكر فقط.
إن الفكر عند هيجــل ليس نشاطاً إنسانياً ذاتياً فحسب، بل هو أيضاً ماهية موضوعية مستقلة عن الإنسان ومصدر وأساس أوَّلي لكل ما هو موجود، وهذه الوحدة والتمايز بين الوجود والفكر "بين موضوع الفكرة والفكرة ذاتها هي تعبير ضروري عن ماهية الفكر الذي يَعْقل ذاته، يجعل من ذاته مادة للفكر، موضوعاً.. إنه بذلك "ينشطر"، ينقسم إلى ذاتي وموضوعي "الوجــود والفكــر"، فإذا كان المفهوم – هو الصيغة الاساسية للفكر، وبما أن هيجل يُؤَلِّه الفكر، فإنه مضطر، لا محالة، إلى تأليه المفهوم، فالمفهوم، عنده، "بداية كل حياة"، و"صورة خلاقة، لا محدودة، تنطوي على كل ما في المحتوى من غنى، ومصدر لهذا المحتوى في الوقت ذاته".
ان هيجل، اذ يعارض النظرة المادية إلى المفهوم باعتباره شكلا أعلى لعكس الواقع الموضوعي، فانه يقلب الامور رأسا على عقب: فالفكر، عنده، ليس عكسا للوجود، بل، على النقيض من ذلك، الوجود هو تجسيد للفكر، للمفهوم، للفكرة، وهنا تتجلى مثاليته"([14]).
لكن "المفاهيم، عند هيجل، في حركة مستمرة، تنتقل، وتتحول من واحد إلى آخر، تتغير وتتطور، وتتحول إلى ضدها، كاشفة بذلك عن التناقضات الملازمة لها باطنيا، والتي تُشَكِّل القوة المحركة لتطور هذه المفاهيم، كما إن تطور هذه المفاهيم، والأفكار، يتم من المجرد إلى الملموس، من مفهوم وحيد الجانب، فقير بمحتواه – إلى مفهوم اكثر غنى، ينطوي في وحدته على جوانب مختلفة، حتى ومتضادة، ففي دراسته لمفهومي الكمية والكيفية يبين هيجل كيف تؤدي التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، وذلك على شكل قفزة، وانقطاع في الاستمرار، والانتقال من حالة كيفية إلى أخرى، ويورد هيجل هنا مثال تحول الماء من الحالة السائلة إلى الجامدة، أو الغازية، تحت تأثير التغيرات الكمية الحرارية، كما يسوق أمثلة أخرى من مجالات مختلفة"([15]).
وهكذا "يكشف هيجل في "علم المنطق" عن العلاقة والانتقال المتبادل فيما بين المفاهيم الاساسية الأكثر شمولاً، أو المقولات، في الفكر العلمي – النظري، ويوجه هيجل نقدا عميقا للمعارضة الميتافيزيقية بين مفاهيم الوحدة والتمايز، الجوهر والمظهر، الحرية والضرورة، وغيرها، ليؤكد على أن التضادات ليست مطلقة، بل نسبية، فليس بينها حواجز أو عوائق لا يمكن تجاوزها، والتضاد نسبي، بمعنى أن كلا من المتضادين لا يوجد الا في علاقته مع ضده، في حركة، في تغير وتطور.
لكن المفهوم عند هيجل، "هو عملية التفكير النظري، مرفوعة إلى مطلق، ففعالية الفكر، ومجمل نشاط البشر الواعي والهادف لتحويل العالم، يفسرها هيجل تفسيراً مثالياً، بوصفها ابداعاً، أو وعياً ذاتياً لـ"الفكرة المطلقة"، التي تكشف في ذاتها عن كل ما يبدو على السطح تطورا للطبيعة والمجتمع، وهكذا فان هيجل، الذي يعترف بالتطور ويحاول تقديم لوحة عنه، يُصَوُّره على أنه عملية المعرفة، التي تجري في احضان "الفكرة المطلقة، وهذه العملية تتم، في نظر هيجل، خارج اطار الزمان والمكان، وتتلخص في التطور الذاتي لمفهوم الوجود، من الوجود المجرد، الخالي من المضمون، إلى وجود أكثر غنى، وواقعية، وتعييناً"([16]).
على أي حال، رغم صحة مساهمات هيجل الديالكيتكية.. إلاَ أنه ربط تطور كل هذه العمليات عبر حركة الفكر أو العقل الكلي كعنصر فعال في صياغة العالم؛ ففاعلية الفكر ومجمل نشاط البشر الواعي والهادف إلى تحويل العالم يفسرها هيجــل تفسيراً مثالياً بوصفها إبداعا ذاتياً للفكرة المطلقة.
بهذا الصدد يقول هيجــل: "إن الفكرة المطلقة بعد أن أدركت محتواها الذاتي قررت طوعاً أن تحل نفسها لتشكل الطبيعة"، لكــن.. الســؤال الهــام والرئيسي هنـا: أين كانت "الفكــرة المطلــقة" قبل أن توجـد الطبيعــة؟؟ إنه يجيب على هذا التساؤل إجابات بالتأكيـد غير مقنعة ولا منطقية، تنطلق من رؤيته الميتافيزيقيه المسيحيه، وفيما يتعلق بمسألة خلق النبات والحيوان، فإنه يتصور أن خروجها من الطبيعة الجامدة، إلى الطبيعة الحية، يمثل تتويجاً للعملية الطبيعية ويقول: "هكذا تخرج الروح من الطبيعة".. وهنا يعتبر هيجـل أن الطبيعة ليست إلاَ مرحلة دنيا من تجلي "الفكرة المطلقة" ووعيها لذاتها، أما التجسيد الأعلى المماثل للفكره المطلقة فلا تكتسبه إلاَ في الإنسان، وفي تطور المجتمع؛ إنه أيضاً لا يعترف بالتطور الواقعي للمادة العضوية والكائنات الحية التي في رأيه لا يظهر أحدها من الآخر فكل منها نتاج للفكرة المطلقة، إنه بمثاليته هذه ينفي التطور في الطبيعة بغض النظر عن ديالكتيكه.
وحقيقة الامر–كما يقول د. حامد خليل-"أن مذهب هيجل يقول إن ثمة فكرة مطلقة كلية، تريد أن تفصح عن نفسها، ولذلك فهي بحاجة إلى تاريخ لتحقيق ذلك، أي أن التاريخ هو على هذا الأساس تاريخ لذلك المذهب بالذات، والحق أن "هيجل" كان واقعياً في هذا المجال، فقد قادته قراءته للتاريخ إلى ألا يقول بان الفكرة المذكورة تكشف عن ذاتها دفعة واحدة في الميدان العملي، إذ أن مثل ذلك القول سيؤدي به إلى عقيدة جامدة لا تجد أي سند لها في التاريخ. أما التاريخ فانه يقول – وفق المذهب المذكور- إن الفكرة المذكورة تمر بمسارات متدرجة أو مراحل لكي تفصح عن نفسها، تبدأ بالادني وتنتهي بالاعلى (وطبعاً المقصود الادنى والاعلى من حيث وعيها لذاتها)([17]).
وإذا "ما انتقلنا إلى دراسة الإنسان وفق المنهج المذكور، "نجد من الوجهة الميتافيزيقية أن ثمة حقيقة كلية للإنسان، بما هو انسان، هي في واقع الامر أساس وجود كل انسان فردي، أو قل إن كل فرد بشري لا يكون كذلك الا لأنه ينتمي بشكل أو بآخر إلى تلك الحقيقة أو الفكرة المطلقة.
وبهذا المعنى فهي حقيقة مطلقة سابقة، ولو منطقياً، على وجود كل فرد واقعي، وتشكل ماهيته. وهي من حيث وجودها روح خالصة كامنة في الأفراد بوصفها وجوداً بالقوة، وتسعى باستمرار إلى أن تصبح من خلالهم وجوداً بالفعل. أو قل إنها هي التي تدفع الأفراد إلى هذا الفعل أو ذاك لكي تصبح وجودا بالفعل.
أما من حيث طبيعتها فهي "عقل خالص أو فكر، وفي مسعاها الرامي إلى تحقيق ذاتها أو الافصاح عن نفسها، فإنما تهدف إلى معرفة ذاتها بالكامل، التي هي في نهاية المطاف وعيها بأنها وحدة تامة، وأنها حرة، لكن لما كان يستحيل ذلك إلا إذا ارتبطت بشيء آخر غير ذاتها، لذلك تراها تخلق أفراداً واقعيين وأفعالاً، تماماً مثلما يخلق الفنان أشكالاً ورسوماً لكي يعرف أي نوع من الموهبة لديه، أو أي انسان هو"([18]).
وطبعاً "ليس المقصود بالخلق المذكور، الفعل المادي المعروف، وإنما أن الروح المذكورة هي التي تحرك الأفراد، من وراء الستار أو من حيث لا يدرون، إلى هذا الفعل أو ذاك. أي أنها تمارس تأثيراً من وراء ظهورهم، وفوق رؤوسهم على شكل قوة مجهولة المصدر، ولا يمكن مقاومتها من جانبهم على حد تعبير "هربرت ماركيوز".
وإن شئنا الدقة "فان الفكرة المطلقة أو الروح ليست – بحسب تعبير هيجل نفسه في كتابه "فلسفة التاريخ" – هي التي تشتبك في الصراع والمعارضة وتتعرض للخطر خلال التاريخ، بل إنها تظل في الخلق، دون أن يمسها أو ينال منها شيء، على حين أن الأفراد يضحى بهم وينبذون.
إن الفكرة تدفع عقوبة الوجود والفناء لا من ذاتها، وإنما من انفعالات الأفراد. وذلك ما أطلق عليه هيجل اسم "دهاء العقل"، أعني تلك الصفة التي يشعل بها العقل الانفعالات لكي تعمل من أجله، على حين أن ذلك الذي تمضي حياته بفعل تلك القوة الدافعة، يدفع العقوبة ويعاني الخسارة على حد تعبير هيجل نفسه.
وفي معرض الرد على فكرة "كانط" القائلة ان الإنسان غاية في ذاته، وإنه مما يناقض طبيعته أن يستخدم على أنه مجرد وسيلة، أعلن هيجل في كتابه المذكور أنه يؤيد الفكرة الاخرى القائلة إن الأفراد ورغباتهم واشباعهم لها – كل هؤلاء يضحى بهم، وتعطى سعادتهم قربانا لامبراطورية الصدفة والاتفاق التي تنتمي إليهما، أعني الفكرة القائلة إن الأفراد في عمومهم يندرجون تحت فئة الوسائل، "ولكي يبرر هيجل فكرته  المذكورة، أو لكي يكون في مقدوره تكوين نسق استنباطي تام على أساسها، لجأ إلى الله كأساس لضمان ذلك الفعل"([19])، فالفكرة المطلقة هي، "بشكل من أشكال التعبير عنها، البديل الميتافيزيقي على الاله الغامض المجهول الكالفيني واللوثري، الذي أصبح الآن يقيم في هذا العالم عوضاً عن أن يظل محتجباً عنه ومفارقاً له.
وعن السؤال القائل إذا عزونا إلى الله الكمالات التقليدية ككلية القدرة وكلية العلم، فما الذي يفسر ارادته بخلق عالم يقيم فيه على هذا النحو المذكور؟ يجيب هيجل بأنه دون العالم، فالله ليس الله. ذلك أن كماله لا يتم الا بإكمال ذاته، وهذه العملية تتطلب وجود أدوات خارجية يظهر من خلالها. فالروح لا تتعرف على ذاتها إلا من خلال وسيط، وفي حالة الله، فالوسيط هو هذا العالم. لكن لما كان الله لا يستطيع أن يعرف نفسه بشكل مباشر، وإنما على مراحل، وفقط من خلال أرواح البشر، لذلك فانه ينشأ تاريخ شامل هو في جوهره تاريخ معرفة الله لذاته في الإنسان، ومعرفة الإنسان لله التي تنشأ وتتطور من معرفته لذاته في الله.
وعلى هذا الأساس تكون أرواح الناس هي تجليات لروح مطلق واحد هو روح الله، وبوصفها كذلك، أي بوصفها جميعها تنطوي على عنصر إلهي مشترك كما يقول هيجل، فهي ذات سمة واحدة مشتركة، وهي أنها كلية.
لكن طالما أنه ليس في مقدور الروح أو الفكرة المطلقة الافصاح عن ذاتها دفعة واحدة، "فان الكلية المذكورة تكون ناجزة منذ البداية في كل فرد ولكن بالقوة، أو في حالة كمون ريثما يتحقق لها التعبير صراحة عن نفسها، غير أن ذلك لا يتم الا في فترات التاريخ المتلاحقة، وتظل تظهر على هذا النحو حتى تصل في نهاية المطاف إلى حالة المعرفة التامة والمطلقة بذاتها. وعند هذه النقطة بالذات تتوقف حركة التاريخ، ويصل إلى نهايته، لانه لا تعود توجد وظيفة يتعين عليه انجازها"([20]).
على أنه حين تأتي إلى الوجه التاريخي للإنسان، وتنهمك في تتبع مساره في التاريخ، تخال أنك – إذا ما تغاضيت عن نقطتي البداية والنهاية الميتافيزيقيتين المذكورتين – امام انسان من نوع مختلف تماماً، انسان ليس هو بالإنسان الناجز سلفاً وبشكل معد، وإنما هو، على العكس من ذلك، الإنسان الذي يخلق نفسه ويحلها ويطورها باستمرار، وأول ما يشير إليه هيجل بهذا الصدد هو أنه يرفض كافة الآراء التقليدية القائلة بوجود عالم من الأفكار أو الماهيات قائم بذاته، فماهية الإنسان ليست شيئاً في العالم، ولا شيئاً فوق العالم، وإنما هي سلب لكل وجود، لكن السلب المذكور ليس عدماً، وإنما هو حركة لا نهائية لذلك الموجود، لكن هي حركة خارجية عارضة، وإنما هي عملية تنشأ من داخل الذات، وهي عملياً علاقة الماهية المتشكلة على الدوام، والمتغيرة، بالذات التي تتكشف تلك الماهية عليها. أو قل انها العلاقة التي تضم بها الذات تعيناتها على أنها لحظات في تحققها الذاتي.
" على أن الأمر لا يقتصر على الماهية وحدها، فالذات الحاملة لتلك الماهية المتغيرة على الدوام، ليست خارج هذا المسار أو تلك العملية من التحول، وكذلك ليست هي الجوهر الثابت القائم من ورائهما، وإنما هي هذه العملية ذاتها، وكل صفاتها دينامية. ووحدتها هي المجموع الكلي لتلك الحركة التي يصفها هيجل بانها حركة التفكير، وهكذا فإن "هيجل" "يوجه ضربة عنيفة لكافة التصورات الميتافيزيقية السابقة عن الماهية الثابتة التي لا تتغير، فهو يبين، خلافاً لذلك، أن التغير يصيب لا الجوانب الخارجية  وحدها، وإنما الداخلية أيضاً،  لا المظهر فحسب، وإنما الماهية بكافة تحديداتها (السببية والضرورة والقانون وغيرها)، لكنه يفهم تغير الماهية فهما مثاليا بوصفه حركة للفكر، وليس حركة لعلاقات الناس المادية في الواقع"([21]).
ان "مأثرة هيجل تقوم في أنه اكتشف هذه الميزة الهامة لحركة الفكر النظري من المعرفة المجردة إلى المعرفة الملموسة، غير ان هيجل شَوَّه، بشكل مثالي، هذه العملية الواقعية، اذ اعتبرها عملية تَكَوُّن، وتطور تلك الاشياء الطبيعية، التي في هذه الحالة، لا تُسْتَرَجع وتُعْرَف إلا نظرياً، وهكذا فإن "المنطلق الأساسي في منظومة هيجـل الفلسفية هو المطابقة المثالية بين الوجود والفكر وإرجاع كافة العمليات إلى عملية التفكير؛ إن هيجـل يُؤَلِّه عملية المعرفه التي يقوم بها الإنسان، وذلك باعتبارها وعياً ذاتياً لله، وحول هذا الموضوع يقول انجلز: "لقد كان هيجـل مثالياً إذ أن أفكار رأسنا بالنسبة له ليست عكساً على هذا القدر من التجربة أو ذاك للأشياء والعمليات الواقعية بل على العكس يعتبر هيجل الأشياء وتطورها تجسيداً لـ "فكره" يزعم أنها كانت موجودة قبل نشوء العالم.. وهكذا قٌلِبَت الأمور رأساً على عقب وشوِّهت بشكل فظيع العلاقة الواقعية بين ظواهر العالم"([22]).
حدد انجلز المكانة التاريخية لهيجل في تطور الفلسفة بقوله: "لقد بلغت هذه الفلسفة الالمانية الجديدة ذروتها في مذهب هيجل، الذي تكمن مأثرته التاريخية العظيمة في انه كان أول من نظر إلى العالم، الطبيعي والتاريخي والروحي، بوصفه عملية، أي في حركة دائمة، في تغير وتطور، وقام بمحاولة للكشف عن العلاقة الداخلية لهذه الحركة وهذا التطور .. ولا يهمنا هنا، أن يكون هيجل لم يجد الحل لهذه المسألة، فمأثرته التاريخية تقوم في طرحه لها".
ان القيمة العظيمة لفلسفة هيجل تكمن في أنها صاغت، بشكل متسق، النظرة الديالكتيكية إلى العالم، وما يوافق ذلك من منهج ديالكتيكي في البحث، لقد صاغ هيجل الديالكتيك باعتباره علما فلسفيا، يعمم التاريخ لكامل المعرفة، وكذلك القوانين الاكثر شمولا لتطور الواقع الموضوعي، وقام هيجل بمحاولة لدراسة المبادئ الاساسية لطريقة التفكير الديالكتيكية، المتناقضة جذريا مع الميتافيزيقا، ويبرهن عليها من مختلف الجوانب، وانتقد بعمق وحزم المنهج الميتافيزيقي ليصوغ، وان يكن بشكل مثالي مشوه، قوانين ومقولات الديالكتيك"([23]).
فلسفة هيجل والديالكتيك والعلاقة مع الطبيعة والتاريخ والانسان:
إن المساهمات الرئيسية للديالكتيك الهيغلي يمكن تلخيصها في ترابط الأشياء، فلا يمكن قبول أي حدث بمعزل عن الأحداث الأخرى عموماً، انسجاماً مع قوانين الديالكتيك خصوصاً، إذ يدعونا إلى النظر إلى الأشياء كافة لا كأشياء جامدة لا تتحرك، ولكن أن ننظر إليها كأشياء سبق أن كانت أشياء أخرى وستكون في المستقبل شيئاً جديداً مختلفاً، فليس هناك من شيء دائم؛ كل شيء في مرحلة انتقال وفي تطور دائم .. هذه هي عظمة المنهج الجدلي عند هيجل.
عبر الحركة والصراع الموجودتان في كل شيء يولد الجديد من خلال وصول التراكمات الكمية في لحظة من اللحظات إلى مرحلة التفجر أو الطفرة، وبالتالي ظهور حالة نوعية جديدة .. هذا يعني أن لاشئ ثابت أبداً .. في الطبيعة أو المجتمع .. وإن وعينا لاستمرار الحركة يعزز تفاؤلنا بالمستقبل.
رؤية هيجل الفلسفيه للمجتمعات الشرقية:
إن وظيفة الفلسفة عند هيجل لا أن تُعَلِّم الدولة الناس كيف ينبغي أن تكون، بل أن تُعَلِّم الناس كيف ينبغي أن تُفْهَم الدولة، وفي هذا السياق يقول: "لم يعرف الشرقيون، على الإطلاق، أن العقل (الروح) أو الإنسان بما هو إنسان حر في ذاته؛ ولأنهم لم يعرفوا ذلك فإنهم ليسوا أحراراً، إنهم لم يعرفوا سوى أن شخصاً واحداً حر، وهذا هو السبب في ان هذه الحرية لم تكن سوى نزوة وبربرية وبالتالي لم يكن هذا الشخص الواحد إلا مستبداً، ولم يكن إنساناً حراً"([24]).
لقد بنى هيجل فلسفته للتاريخ عبر استقراء مظاهر حضور الروح المطلق فيه، وهذا ما يعلل إقصاءه منذ البداية للشعوب التي لم يكن لها إسهام في الدفع بالتاريخ نحو التحقق في الكوني أو بكل بساطة لم يكن لها تاريخ .
وقد اتخذ هيجل هذا الحق في الإقصاء–كما يقول عبد الواحد العلمي- "بناء على اعتبارات جغرافية لفلسفته في التاريخ، فالشروط الجغرافية من أرض وطقس تلعب دورا كبيرا في التاريخ بما أنها تحدد روح  وطبائع الشعوب وبالتالي مكانتهم في التاريخ الكوني، لذلك قام هيجل بإقصاء شعوب المناطق الشرقيه، لأن هذه المناطق هي، حسب تقديره، المناطق الشديدة البرودة أو الشديدة الحرارة (الشرق العربي الاسلامي من بين تلك المناطق)، وهي حسب تعبير هيجل لم ولن يمكنها أن تساعد او توفر شروط مساهمة حقيقية في مسيرة الروح الكوني.
إن هذه المناطق "ليست مؤهلة، حسب هيجل، لتحتضن شعوبا تاريخية أي شعوبا تساهم في تسريع وتيرة تحقق العقل المطلق أو الروح الكوني الذي يشكل منطق التاريخ وضامن صيرورته، ذلك لأن الظروف الطبيعية القاسية تجعلها تتجمد في حياة بدائية لا تقوم إلا على محاولة تحقيق الحاجيات الأولية والبدائية للإنسان، والإنسان بذلك لا يجد الحرية المطلوبة من أجل الحركة والفعل في التاريخ ويبقى دائما مشدودا إلى "الطبيعة"، فلا مجال إذن للروح المطلق أمام الانشداد إلى الضرورة والطبيعة إلا أن ينزوي وينحسر"([25]).
ويبدو لي أن هيجل طرح عبر أفكاره هذه، البذرة الأولى للفكر النازي العنصري، ويمكننا ملاحظة نشوء تلك الفكرة / البذرة من خلال التعرف على مراحل التاريخ عنده.
مراحل التاريخ الإنساني عند هيجل:
يقسم هيغل التاريخ –كما يقول فؤاد الزرفي- "إلى ثلاثة أطوار رئيسة؛ تلك هي: الطور الآسيوي وميزته الأساسية هي النظام الملكي الاستبدادي، ثم يعقبه الطور اليوناني الروماني الذي يتميز بالحرية الفردية، وأخيرا الطور الجرماني، الألماني، الذي يجمع فضائل الطورين السابقين ويتسم بنظام الحكم الملكي.
يضم هيغل تحت الطور الأول كل الحضارات الآسيوية الممتدة من أقصى الصين والهند إلى حضارات الفراعنة والآشوريين والبابليين والفرس. كما يجمع تاريخ اليونان والرومان تحت الطور الثاني لينتهي به إلى الطور الثالث وهو المرحلة الجرمانية.
إن المرحلة الأولى "تمثل ما يسميه هيغل (طفولة التاريخ)؛ حيث تعمل الحرية على (تطوير نفسها دون أن تصل إلى مرتبة الحرية الذاتية)، بينما يشبه المرحلة اليونانية بـ (المراهقة)، حيث (نجد فرديات تتشكل) ليصل التاريخ رجولته في (الدولة الرومانية)، التي لا تمثل (ترديدا لدولة الأفراد التي كانت عليها دولة المدينة في أثينا)، ويتكامل هذا النمو الإنساني، متجسدا في العالم الجرماني، الذي يشبه (مرحلة الشيخوخة)، لكن هذه الشيخوخة لا تعني (الضعف والهرم، فإن شيخوخة الروح تعني نضجها وقوتها الكاملة).
"يبدو واضحا من خلال هذا التقسيم تأثير النزعة القومية الألمانية على فكر هيغل؛ فهيغل يجعل الطور الجرماني وحدة قائمة بحد ذاتها على غرار الطورين السابقين، "وهكذا يكون مسرح التاريخ الكوني الذي يشكل بدوره مسرحا للروح الكوني حكراً –عند هيجل- على شعوب"المناطق المعتدلة"، لكن الاعتدال  ليس سواء، فالمناطق المعتدلة في الشمال أقدر وأنسب من المناطق المعتدلة في الجنوب، ووفق هذا المنطق يسمي هيجل الشعوب الفعالة في التاريخ ب"الشعوب التاريخية" أما الشعوب التي لم يكن لها نصيب ولا حظ في هذا الدور التاريخي فيسميها بالشعوب "الخارجة عن التاريخ" أو اللاتاريخية"([26]).
وفي ما يتعلق بالقارة الأمريكية التي تستجيب عنده للشروط الجغرافية التي وضعها، أي باعتبارها معتدلة المناخ منتمية إلى شمال الكوكب الأرضي، يعمد هيجل منذ البداية إلى التمييز بين العالم القديم والعالم الجديد.
في هذا السياق، يضيف هيجل بروح من الثقة بالنفس عجيبة "إنه منذ أن جاء الأوربيون إلى أمريكا بدأ السكان المحليون في الاضمحلال شيئا فشيئا بسبب نفس نشاط الأوربيين"، بالمقابل، وبروح عجيبة البرودة، يخبرنا هيجل، أنه فيما يتعلق بالسكان الأصليين في أمريكا "لم يبق إلا القليل من سلالاتهم "و أن "سبعة ملايين منهم أعدموا "، و دون أدنى مواربة أو تردد يعلل سبب اختفائهم بضعف تكوينهم الإنساني وبدونيتهم أمام التفوق الحضاري والثقافي للأوربيين"و هكذا ففي الدول الحرة في أمريكا الشمالية جميع المواطنين هم من أصل أوروبي ولم يستطع السكان القدماء أن يختلطوا بهم""([27]).
هكذا يمرر هيجل أولا، في صمت، تلك المذابح البشعة التي ارتكبت في حق السكان الأصليين للقارة الأمريكية بل و"ينجح" في حذلقة عجيبة ومقلقة في تنزيل مفردات فلسفته النسقية على هذا الواقع، فتتبدى فلسفة تبريرية لا غبار على نزعتها التبريرية، فأمام الروح المطلق أو العقل الكوني الذي يجسده الأوربيون في هذه المرحلة لا مهرب إلا التلاشي الفيزيقي والمعنوي، لكن المفارقه –كما يقول عبد الواحد العلمي- أن هيجل "لا يعلل لنا بوضوح كيف لم تتح الجغرافية المعتدلة لهؤلاء السكان الأصليين الارتفاع إلى مرتبة الشعوب التاريخية التي لها حظ في التعجيل بتحقق الروح المطلق في التاريخ، لهذا نراه يقلل من أهمية تاريخهم وحضارتهم، ونراه لا يكتفي بذلك بل إنه بعد تعليل اضمحلالهم وتلاشيهم من ساحة التاريخ يظهر حتمية وضرورة اختفائهم ما داموا أقرب إلى الطبيعة وأبعد عن تسامي الروح الكوني"([28]).
أما بالنسبة للقارة الإفريقية فيقول عنها هيجل: " إن الشعوب الأفريقية هي شعوب غير تاريخية، وينعت الرجل الأفريقي بالرجل الطبيعي أو أنه يعيش الحالة الطبيعية الدونية بكل وحشيتها، وإذا أردنا نحن الأوروبيون فهم الرجل الأفريقي، يجب تناسي كل طرائق رؤيتنا للأشياء، كما يجب ألا نفكر لا في إله روحي ولا في قانون أخلاقي، يجب تعليق كل  احترام وكل أخلاق لما نسميه مشاعر، لإن كل ذلك ينقص الإنسان (الإفريقي ) الذي ما زال في مرحلة خام، لا يمكن أن نجد في طبعه ما يمكن أن يذكرنا بالإنسان"، ولعله لذلك لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن " نتقمص طبيعته، بنفس الطريقة التي لا يمكننا بها أن نتقمص طبيعة كلب"، وهكذا ينزع هيجل الإنسانية عن الرجل الإفريقي"([29]).
ثم "يُعَرِّجْ هيجل على موضوع العبودية في "الحضارة"الإفريقية ويجعل منه  "خاصية" افريقية بامتياز إذ إن "في كل الممالك الإفريقية المعروفة تُشَكِّل العبودية مؤسسة محلية وهي تطغى بشكل طبيعي"، لهذا فهو بعد أن يخبرنا أن الأوروبيين يبيعون الأفارقة كعبيد في القارة الأمريكية يعلق على ذلك قائلا: "مع ذلك فمصيرهم في بلدانهم الأصلية أنكى وأشد بسبب وجود عبودية مطلقة أيضا"!!
وقول هيجل –كما يضيف العلمي- "يُعَبِّر طيا عما يُعَبِّر عنه في مواضع أخرى صراحة، فالأوربيون باستعباد الأفارقة وبيعهم بعيدا عن بلدانهم الأصلية يُسْدون خدمة جليلة لهم وينتشلونهم من عبودية محلية قاسية لا قِبَلَ لهم بمعاناتها، بل إن هيجل يذهب بعيدا في هذا السياق ويقرر أن الاستعباد يؤدي إلى ظهور نوع من الإنسانية بين الأفارقة"([30])!!
هنا نلاحظ " أن هيغل، وبدلا من تقدير البطولة الخارقة التي كان الأفارقة يبدونها في مواجهة الجيوش الأوروبية الغازية، أو على الأقل فهمها بشكل صحيح، يعرض تفسيرا عنصريا بحتاً، يقول هيجل: وهكذا فإن السمة التي يتميز بها احتقار الإنسانية عند الزنوج ليست هي ازدراء الموت، بقدر ما هي الافتقار إلى احترام الحياة. وينبغي أن نعزو الشجاعة العظيمة التي نجدها عندهم إلى سمة افتقارهم لاحترام الحياة هذه، التي تدعمها قوة بدنية كبيرة، وهذه الشجاعة تظهر عند أولئك الزنوج الذين كان الآلاف منهم يتعرضون بمحض إرادتهم للموت برصاص الأوروبيين وهم يقاتلونهم، فالحياة لا قيمة لها إلا عندما تتخذ من شيء ذي قيمة هدفا لها، ما يعني أن فضائل الأفريقيين تتحول -عند هيغل- إلى رذائل؛ فالتضحية والاستهانة بالموت تتحول إلى انعدام تقدير الحياة"([31])!!
أما عن الشرق .. وآسيا، فيخبرنا هيجل، أن آسيا هي فعلا "بدايات كل المبادئ الدينية والسياسية، لكن هذه المبادئ لن تتطور إلا في أوروبا"، وهيجل هنا "يكون بذلك وفيا لنظريته "البدائية" في نشوء وتطور ومسار الروح الكوني، حيث يشبهه بمراحل حياة الإنسان، فلقد كانت طفولته في آسيا، أي في الشرق، وشبابه في عالم اليونان ورجولته في العالم الروماني  وشيخوخته في الحضارة الجرمانية"([32]).
هذا هو ديدن هيجل ولب فلسفته، فهو يعتبر العالم الجرماني مصب الروح المطلق أو العقل المطلق ومنتهى مساره، من هنا مقولة نهاية التاريخ، وما الروح المطلق مطبقاً داخل الفلسفة السياسية لهيجل إلا الدولة البروسية لا غير، لهذا يكفى الشرق دوره الطفولي، ففي الشرق لا يوجد سوى الفرد الواحد (الحاكم) هو الحر (المستبد)، أما في اليونان فالكثرة هي الحرة أما في البلاد الجرمانية فكل الأفراد أحرار، أي إن الإنسان حر لكونه إنسان".
ففي اليونان يبدأ عالم الحرية بل أساس الحرية عند هيجل، ففيه تَفْكُر الروح ذاتها ويحدس الفرد ذاته باعتباره كونيا، ويكمن الكوني في ذاتية كل فرد، أي أن الفرد يعي ذاته في بعده الكوني، وهذا ما لم يوجد في الشرق، فهو لم يعرف فكرة الحرية أو قل إنه عرف حرية الفرد المطلق أي الحاكم المستبد الطاغية، أما اليونان فقد عرف حرية طبقة اجتماعية معينة، بينما سيكون العالم الجرماني الوحيد القادر على الوصول إلى نوع من الحرية للجميع.
وحسب هذه التراتبية –كما يستطرد عبد الواحد العلمي- "لن يكون للشرق حظ في الاتصال بالروح الكوني، فإضافة إلى أن الفرد فيه ينمحي باعتباره مجرد انعكاس للماهية  فقد حدد هيجل الخصائص الأساسية لشعوب الشرق كما يلي :
"فالطبع الشرقي، تكون فيه الروح غارقة في الطبيعة وتعتبر الإرادة مجرد تابعة للنهائي. تريد الإرادة أن تكون نهائية مع أنها تدرك ذاتها بعد، وبموجب ذلك لا يوجد إذن إلا فئتين: الأسياد والخدم.هذا هو فلك الاستبداد، وبما أن التعبير عن ذلك يتم بواسطة المشاعر فهذا يعني أن الخوف هو المقولة السائدة..و ما يسيطر في الشرق هو إذن–حسب هيجل- الخوف والاستبداد.."، إذ إن الفكر في الشرق "غيبي تماما وماهوي بلا تقدم ولا تطور وهو على حاله كما كان في السابق منذ آلاف من السنين"([33]).
لكن هيجل "يعترف في محاضرات في فلسفة التاريخ أن العلوم والمعارف، خاصة الفلسفية منها، جاءت إلى الغرب من عند العرب، كما يعترف هيجل بتأثير قوة الدين الإسلامي وقدرته على تطهير الروح البشرية وعلى دوره في نشر عقيدة الواحد الأحد بجعلها شيئا (مطلقا والنهاية الوحيدة للحقيقة)، وهو ينسب ذلك إلى بساطة المبدأ الإسلامي؛ لكنه من جهة أخرى يتحدث عن (بلاد العرب، إمبراطورية التعصب)"([34]).
يقول هيجل عن الصين : "(المبدأ العام هو الوحدة المباشرة للروح الجوهري وللروح الفردي) إذ ظل الأبناء يتوارثون عن آبائهم القانون الأخلاقي جيلاً بعد جيل حتى أصبح القانون هو الحكومة الخفية للمجتمع الصيني، ذلك إن الصينيين ليست لهم شخصيات فردية مستقلة لا داخل الأسرة ولا خارجها, ولما كانت الدولة بالنسبة لهم أسرة كبيرة انعدم وجود الشخصية المستقلة عندهم علماً بأن الشخصية تتطلب وجود الوعي الذاتي الذي يعي نفسه أولاً ثم يفرق ويتميز عن الآخر ثانياً، حيث أن العلاقة السائدة هي علاقة أبوية بطرياركية Patriarchal  التي جعلت من الأب كل شئ ومن الأبناء لا شئ ثم تجعل العلاقة واجباً أخلاقياً يتمثل في الطاعة  (الأب الامبراطور في الأسرة والامبراطور الأب في الدولة) ومنه علينا أن نلاحظ أنه في مثل النظام لا مجال للحديث عن حقوق من أي نوع, إنما الحديث باستمرار عن الواجبات ذو اتجاه واحد لا يُعكس (أي من أسفل إلى أعلى فقط)"([35]).
هيغل هنا –كما يقول بحق فؤاد الزرفي- "يغمض عينيه عن حقيقة الوضع المأساوي الذي كانت تعيشه دول أوروبا نفسها في ذلك الوقت، حيث كانت الدكتاتوريات المطلقة تستلب حقوق الأفراد والشعوب بشكل لا نجد له نظيرا في الصين القديمة، التي يعترف هيجل نفسه بمدى سيادة العدالة فيها"([36]).
كما إن موقف هيجل من علوم الصينيين يبدو–كما يضيف الزرفي-"غير مفهوم ولا مقنع تماما؛ ذلك أن كل العلوم إنما تنشأ عن حاجة عملية. ولذلك ففي الوقت الذي طور الصينيون الورق والبارود والحبر واخترعوا البوصلة فضلا عن إبداعاتهم في الطب وتفننهم الراقي في الصناعات الدقيقة الأخرى، تلبية لحاجاتهم العملية، فإن علوم أوروبا في عهد الإيطالي دافنشي لم تستند إلا إلى تجارب نظرية محدودة لا ترقى إلى العلوم الصينية بأي شكل من الأشكال، لذلك لم تتحول العلوم في أوروبا إلى الشكل المتطور الحديث إلا بعد ارتباطها بالثورة الصناعية البازغة، في إنجلترا أول الأمر، ومن ثم في بقية دول أوروبا الغربية، وأمريكا تاليا، وهكذا فقد طور الصينيون قبل الأوروبيين أساليب علمية راقية ونجحوا في إنشاء صناعات لم يكن للأوروبيين أي حظ منها حتى القرن السابع عشر. أما مقارنة موضوع كيف تطورت العلوم في أوروبا بعد ذلك وكيف أصابها الركود في الصين، فذلك شيء آخر مختلف تماما"([37]).
عن الهند يقول هيجل: "امتازت الهند بانتقال الروح من الخارج إلى الداخل (أي من الموضوع إلى الذات) لكنا لن نجد هنا الذات الفردية الحقيقية, وإنما فكرة عامة عن الذاتية, فكرة هلامية عن الوجود كله بوصفه ذاتياً, فهنا اتحاد للذاتية والوجود أو المثالية الوجود الفعلي, وهي مثالية الخيال, ومن هنا كانت النظرة الهندية–حسب هيجل- هي نظرة وحدة الوجود العام لكنها وحدة لقوة الخيال لا للفكر, فهناك جوهر واحد يتغلغل في جميع الأشياء"([38]).
ويضيف هيجل قائلاً: "أننا في الهند نسير في خطوة إلى الأمام من الوحدة إلى الاختلاف, أو من الدمج إلى الانفصال, وهذا التميز أو الاختلاف يرتد إلى طبيعة وليس إلى الروح, حيث تتميز طبقية مغلقة مصدرها الطبيعة أساساً, وتنقسم إلى :
الطبقة الأولى العنصر الإلهي الذي يظهر بواسطتها إلى الجماعة وهي طبقة البراهمة, وقد خرجت من فم براهما.
الطبقة الثانية تمثل عنصر القوة والبسالة وهي طبقة المحاربين والحكام وهي طبقة الكشاترية, وقد خرجت من ذراع براهما .
الطبقة الثالثة التي تُعنى بمسائل الحياة وإشباع الضروريات (الزراعة, والحرف , والتجارة …) وهي طبقة الفيزيا, وقد انحدرت من حقوي براهما .
الطبقة الرابعة هي عنصر الخدمة وهم مجرد أداة لرحلة الآخرين ومهمتهم هي العمل من أجل الآخرين وهي طبقة الشودرا, وقد انحدرت من قدم البراهما.
والاعتراف بالتحيزات هنا "لا تعني ظهور الذاتية، ذلك لأن الأفراد لا يختارونها لأنفسهم وإنما يتلقونها من الطبيعة, فالمساواة أمام القانون والحقوق الشخصية والملكية مكفولة لكل طبقة ؛ أما الأخلاق والعدالة والتدين والمحبة والعواطف فلا وجود لها بين طائفة وأخرى ؛ وتزداد العقوبات مع ازدياد دونية الطائفة ؛ ولكل طائفة حقوقها وواجباتها الخاصة بها, ولا توجد حقوق وواجبات عامة للجميع.
بناءً على ذلك، "يرى هيجل أنه : (لا وجود للدولة في الهند) فهنا شعب فحسب, وإذا كان الاستبداد في الصين أخلاقياً فهنا استبداد بلا مبدأ ولا قاعدة من أخلاق دين، ذلك إن تاريخ الهند يكشف عن أن شعب الهند لم يقم بأي (فتوحات خارجية، لكنه هو نفسه كان ميدانا للغزو الخارجي باستمرار)، من هنا يصل هيجل سريعا إلى استنتاج مفاده أن "القدر المحتوم للإمبراطوريات الآسيوية أن تخضع للأوروبيين""([39]).
إن النص الهيغلي عن الهند، المستند إلى وثيقة أو رواية إنجليزية (والمفارقة أن هيجل يعتمد كثيرا على تقارير الإنجليز في الكتابة عن الهند)، "تخفي الجانب الآخر من القصة، فالإنجليز كتبوا عن الهند من وجهة نظر إنجليزية بحتة، وسواء أكانت هذه الكتابات صحيحة أم خاطئة، فإننا لا يمكننا تاريخيا الجزم بصحتها أو وثاقتها –كما يؤكد بحق فؤاد الزرفي- "ذلك إن اعتبار كل ما كتبه الإنجليز عن الهنود صحيحا هو تماما مثل الاعتماد على التقارير الإسرائيلية في النظر إلى الفلسطينيين في الوقت الحاضر، فكم هي نسبة الصدق في كتابات الإسرائيليين بخصوص الفلسطينيين؟ "([40]).
نستنتج مما تقدم، أن هيجل هذا الفيلسوف العقلاني العظيم، "لا يريد أن يعترف بأن ما تحقق في أوروبا ما هو إلا ثمرة التراكم الحضاري بين الشعوب المختلفة، فعلوم اليونان والرومان ماهي في الأصل إلا ثمرة التقدم الذي تحقق في الحضارات البابلية والمصرية والفينيقية. والعرب المسلمون قد استفادوا كثيرا من علوم الهند والصين وكذا فلسفة اليونان. اما العلوم الأوروبية الحديثة وفلسفاتها فما هي إلا إعادة إنتاج حضاري للإرث الضخم الذي أنتجته جميع الحضارات السابقة"([41]).
من كل ما تقدم حول موقف هيجل اتجاه الشرق، يبدو واضحاً انحياز هيجل للأمم الأوروبية، انحيازاً لا يبرره العقل أو المنطق الذي تميز به، فقد زعم هيجل أن الأمم التي "جسدت" في "روحها القومية" الغنى الفلسفي "للروح المطلق" هي فقط شعوب أوروبا الغربية: الاغريق، والرومان، والجرمانيون خاصة، و"أن الفلسفة، بالمعنى الدقيق، تبدأ فقط في الغرب ففي الغرب، وحده، أشرقت .. حرية وعي الذات، ويصف هيجل فلسفة الشعوب الشرقية بأنها المرحلة الدنيا من الفلسفة ("الفكر في مرحلة التأمل")، وينكر عليها أي دور حقيقي في تطوير الفكر الفلسفي العالمي"([42]).
فقد بين هيجل في كتاب "فلسفة الحق" أن الشخص (الشرقي) المذكور يجب أن يمتلك فرديته بفضل وجوده الطبيعي لا الاجتماعي، ويكون ما يكونه بالطبيعة وحدها، وليس بفعل الأجهزة الاجتماعية، وقد عثر على مثل هذا الشخص في الملك، الذي هو انسان يختار لهذا المركز بحكم مولده الطبيعي فحسب، إذ بذلك وحده يرتفع فوق كل ما هو جزئي، ذلك أن "الانا"، لدى كل شخص آخر، يفسد بفعل النظام الاجتماعي الذي يشكله، أما الملك فهو وحده الذي لا يتأثر على هذا النحو، ومن ثم فهو قادر على أن يتخذ من "أناه" الخالص مصدراً لكل أفعاله، ويقررها تبعاً له، إنه يستطيع أن يلغي كل جزئية في اليقين البسيط لذاته.
وعلى هذا النحو يفصح الكلي عن نفسه عند هيجل، فهو يبدو الآن أنه لا يتشكل في التاريخ، وإنما هو ناجز بطبيعته، ولذلك تراه يظهر في طبائع الملوك، أو في فطرتهم التي فطروا عليها، والاخطر من ذلك أنه ليس نتيجة لفعل قانون التناقض في الكون، الذي ادعى هيجل في كل فلسفته أنه هو الذي يصنع التاريخ والناس والأفكار.
ولذلك –كما يقول د. حامد خليل- "لم يجانب "ماركيوز" الصواب حين بين في كتابه "العقل والثورة" أن جريمة هيجل ليست في كونه كان دليلاً للملكية البروسية، بقدر ما هي في كونه قد خان أرفع أفكاره الفلسفية، فنظريته، التي أشرنا إليها قبل قليل، تُسَلِّم الناس للطبيعة (طبيعة الملوك)، والحرية للضرورة (ضرورة الدولة الممثلة في شخص الملك)، والعقل للنزوة والهوى (نزوات الملوك وأهوائهم)"([43]).
لكن، على الرغم من اتفاقي مع استنتاج الفيلسوف ماركيوزه من ناحية، وعلى الرغم من طروحات هيجل العنصرية التي زرعت بذرة التعصب الشوفيني والنازي فيما بعد، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاوز دور الفيلسوف العقلاني هيجل، باعتباره أحد أهم المؤسسين للحداثة والنهوض العقلاني في كوكبا، انطلاقاً من تركيزه على دور العقل كمنطلق أساسي للوعي والمعرفة، وأثر ذلك على الفكر الإنساني الحديث برمته.
"فالعقل يحتل مكانة مركزية في فلسفة هيغل، كما أن هدفه الرئيسي هو تعقيل المجتمع، فكل ما ليس بعقلي يجب أن يصبح عقلياً، ويجب ألا يُقْبَل هكذا لمجرد أنه قائم، إذ انه لا يصبح حقيقياً في نهاية الأمر إلا بقدر ما يصبح عقلياً"([44]).
وفي هذا السياق، أشير إلى أن فكرة هيجل ومقولته التي يقول أن العقل يحكم العالم وبناءً عليه فإن التاريخ البشري هو عقلاني تماماً، استندت اليها ومازالت الفلسفة الحديثة العقلانية، في أوروبا وبقية أجراء العالم طوال القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة من القرن الحادي والعشرين.
هيغل يحاول أن يبين أن المتناقضات تنشأ في معرفتنا عندما يتفكك المجتمع، ما دامت المعرفة تعكس الواقع؛ ومن ثم، فإن العودة إلى المعقولية في تفكيرنا لا يمكن إلا وأن تتبع التكامل الاجتماعي والسياسي.
انه يجد مجتمعاً مليئاً بالتناقضات، ليس فقط تلك التي نشأت من تعدد الدول التي لا يربط بينها أي تنسيق ومن عدم وجود حكومة مركزية، ولكن أيضاً تلك التي تنبع من مساويء الملكية الفردية ومن عملية القوانين الاقتصادية المجردة من كل روح.
وهنا يقدم هيجل مفهومه الخطير –كما يقول جون لويس- عن الإنسان كانسان مُسْتَلَب، انسان جانح ومسلوب الرجولة، الإنسان وقد أصبح مجرد شيء محصور بين مخالب المجتمع، عالم غريب تهيمن عليه قوانين لا تعرف الرحمة، عالم "ميت" حيث توجد الحياة الانسانية في حالة الحرمان، أو، كما يقول هيغل، "حياة متحركة للأموات".
والآن، ما هو الحل الذي يقدمه هيغل؟ انه "يطالب بإقامة دولة قوية مستقلة، للتغلب على تناقضات المجتمع، والقضاء على تطرف الفردية، وإدخال الرقابة لتحقيق الصالح العام، كما انه يرى في الثورة الفرنسية محاولة من هذا القبيل لإيجاد سلطة تتعدى تصادم الأفراد الأنانيين، كما أن الدولة التي يفكر فيها هيجل سوف تحافظ على مجتمع الطبقة الوسطى وذلك بإبعاد عنصر التنافس المحطم وبعقد الصلح بين المصالح المتضادة، وأن مثل هذه الدولة سوف تفرض خضوع الفرد لمجتمع يعمل في الوقت نفسه على اثراء حياة الأفراد الذين يتكون منهم، وذلك بواسطة الرقابة من الخارج، بواسطة استعمال السلطة" ([45]).
أما المجتمع العقلي الذي قال به هيجل "فهو مجتمع تم فيه التنسيق والتوفيق بين المصالح الفردية والمصالح الاجتماعية، مجتمع تحقق فيه العقل والحرية.
ان دولة مثل هذه التي سوف تحتفظ بكل ما حققته الثورة الفرنسية من نتائج حاسمة، أي بانتصار العقل في المجتمع، سوف تختم تاريخ الحرية، ما دامت هذه الدولة هي المجتمع العقلي الذي بلغ درجة الكمال والذي يتعلم الناس فيه كيف يريدون ذلك الذي هو في صالح كل فرد وفي صالح المجموع في آن واحد"([46]).
ويلخص "جون لويس" وجهة نظر هيجــل بالقول: "بأن المظاهـر هي وحدها التي تتغير، وأن المطلق الكلي العقلي أو "الفكرة المطلقة" يجب أن يوجد من وراء العملية التاريخية باستمرار، أو وراء النمو في التاريخ أو الطبيعة، إنه النمو من خلال المتناقضات"، وهذه مسألة في غاية الأهمية في الفكر الهيغلي الذي يعتمد على الصراع بين المتضادات الذي يؤدي بدوره إلى تحول الشيء إلى شيء آخر ؛ وهــذا الجديد بدوره تنمو فيه نفس عملية التناقض لتسير العملية _التاريخية أو غيرها_ إلى الأمام.. لذا كان لزاماً علينا أن ننظر إلى كل ظاهرة كعملية Process، أو كشيء يتغير وينمو على الدوام، إذ أن عملية  التناقض هذه أو هذا النضال هو منبع كل نمو.. إنها عملية تغير لا نهائي؛ إن هذه العملية جوهر ديالكتيك هيجــل.
إلاَ أننا لا يمكننا الموافقة على ديالكتيك هيجل خصوصاً حينما يُفهَم على أنه حركة للفكر الخالص "ميتافيزيقا" أو كفكرة تنشأ عنها فكرة مضادة، ثم ترك الفكرتين المجال بأسره لفكرة ثالثة أكثر شمولاً تتغلب على التناقض..! ثم يُفسَّر العالم على أساس أنه مظهر من المظاهر التي يتخذها التطور المجرد أو المنطقي المحض لهذه الفكرة، وصولاً إلى فكرة نهاية التاريخ التي تتناقض مع جوهر التطور الجدلي.
أخيــراً.. أعتقد أن علينا أن نُفَرِّق بين الهيغلية كمذهب والهيغلية كديالكتيك.. إذ أن الفلسفة كديالكتيك تذيب كافة مفهومات الحقيقة المطلقة والحالة النهائية للإنسانية، ولدى هيجــل، يتضح التناقض بين مذهبه وديالكتيكه خصوصاً وأن مذهبه أو منظومته([47]) -آراؤه في الطبيعه والمجتمع-  تضع حداً لتطور المعرفة وتشوه الفهم أو المنهج الديالكتيكي الذي صاغه([48]).
لقد قام كلاسيكيو الماركسية بمعالجة مادية للأفكار الإيجابية في الديالكتيك الهيغلي المثالي مستعيضين عن المبدأ المثالي في وحدة الوجود والفكر بالمبدأ المادي القائل بأن وعي الإنسان هو انعكاس للواقع الموضوعي الموجود خارج هذا الوعي وبشكل مستقل عنه.. لقد وضعوا منهجاً جديداً في معرفة الواقع يتناقض جذرياً مع المنهج الهيغلي؛ لقد أوقفوه على قدميه بعد أن كان متكئاً على رأسه.. هذا ما فعله ماركس .
بعد هيجــل اختلف الكثيرون حول فلسفته وبرز تيارين رئيسيين انعكاساً لها أو دفاعاً عنها؛ تيار يميني دعي ممثلوه بالهيغليين الشيوخ الذين تمسكوا بالأيدلوجية الإقطاعية/ المسيحية ضد التيار اليساري أو الهيغليون الشباب، ومن أبرز الشباب "شتراوس" الذي أصدر كتاب "حيــاة يســوع" ودحض فيه المزاعم القائلة بعلة أولى خارقة "وحــي إلهي" واعتبر كل "المعجزات" المسيحية أساطير ناتجة عن موقف جماعي للشعب بأسره خصوصاً في فترة الأزمة العميقة التي عصفت بمجتمع الرق.
لكن حركة الهيغليين الشباب التي لعبت دوراً تقدمياً في الثلاثينات من القرن التاسع عشر وكان ماركس أحدهم، بدأت تفقد طابعها التقدمي مع ظهور مادية فيورباخ، وماركس من بعده؛ حيث قدم هذا الأخير بدلاً من المطلق الذي يقرر التاريخ، نظرية صراع الطبقات التي تؤدي حسب الضرورة الهيغلية إلى الاشتراكية؛ وقــد عبر عن ذلك ديورانت بقوله: "لقد فقس هيجـل الأستاذ الإمبراطوري بيض الاشتراكية" .
والسؤال الأساسي في مجال تأويل فلسفة هيجل هو الآتي: "هل كان هيجل تقدمياً ام رجعياً؟ هل كان في طليعة التفكير الجديد أم أنه اصطف مع ذوي التفكير القديم؟ ونحن سوف نفسر هيغل، هنا، بانه مفكر تقدمي –بالرغم من بذور العنصرية في فكره التاريخي- حاول أن يحيط بالتصورات في العالم الجديد.
ولتبسيط الأمر نستطيع القول إن الفلاسفة الليبراليين في القرن الثامن عشر وضعوا العقل فوق التقاليد والفرد فوق المجتمع. وعكس رد الفعل الرجعي تلك الصورة فوضع التقاليد فوق العقل، والمجتمع (الدولة) فوق الفرد، وقد ادعى هيجل أنه وجد تركيباً ديالكتيكياً يجمع الليبرالية والمحافظة، وهو تركيب حقيقي تبقى فيه الليبرالية والمحافظة كحقيقتين جزئيتين"([49]).
الأسرة والمجتمع المدني والدولة عند هيجل:
تحت هذا العنوان، يمكن للقارئ، أن يتعرف على فلسفة هيجل السياسية، وفي هذا الجانب أشير إلى أن أكثر كتابات هيجل السياسية اهمية –كما يقول بيير هاسنر- "هو كتابه "فلسفة الحق" وترتبط فلسفته عن الحق، أو بالأحرى فلسفته عن الدولة، بطريقة غير عادية بتعاليمه الفلسفية كلها؛ لأن مذهبه أكثر "نسقية" من مذاهب معظم المفكرين الآخرين، كما أن الدولة التي يصفها هيجل هي عمل عقل أزلي كما يقدمه في كتابه "علم المنطق" بيد انها نتاج التاريخ الكلي أيضاً كما يتعقبه هيجل في كتابه "محاضرات في فلسفة التاريخ، وفي التحليل الأخير، لا يمكن أن ينفصل العقل والتاريخ، كما يرى هيجل إذ أن فرض العقل لنفسه يوازي مسيرة التاريخ الكلي، أو أن العملية التاريخية هي عقلية أساساً، ولذلك، لا يريد هيجل أن يؤسس دولة مثالية، وإنما يريد ان يرد اعتبار الدولة الحقيقية بان يبين أنها عقلية"([50]).
صحيح أن الدولة، إلى حد كبير تشكل، عند هيجل "غاية نهائية" للفرد الذي يجد فيها حقيقة وجوده، وواجبه، ورضاه، وصحيح أن الدولة تشكل التحقق الفعلي، أو ظهور ما هو إلهى في العالم الخارجي، فإنها ليست إلا غاية نهائية للفرد إلى الحد الذي تكون غايتها الخاصة هي حريته ورضاه. وفضلاً عن ذلك، فإن أخلاق النفس الفردية، أو الدين، لها قيمة لا نهائية مستقلة عن الدولة، إذ أنه عن طريق الدولة وحدها ياخذ الفرد مكانته في العالم؛ أي انه يتعلم بوصفه مواطناً ما هو معقول في رغباته.
ولذلك، لابد أن يدافع هيجل عن عقلانية الدولة الواقعية ضد الرومانسيين الذين انصرفوا عن السياسة ببساطة، وضد اليوتوبيين والمصلحين كذلك الذين انصرفوا عن الدولة الواقعية (أي الموجودة في عالم الواقع) مفضلين دولة مثالية"([51]).
لكن على الرغم من أن الكائنات البشرية والدولة –عند هيجل- مترابطان داخلياً، حيث تحقق الكائنات البشرية الإدراك الذاتي في مجتمع أخلاقي، وهذا يعني الدولة عند هيجل، غير أنه لا بد من أن نعيش في جماعات أصغر، مثل الأسر، وفئات اجتماعية أخرى قبل أن نصير جزءاً عضوياً من الدولة .
والدولة بدورها لا تنشأ من عقد وإنما تنشأ من التاريخ، وهي بالمعنى الهيغلي التي تصوغ الروابط الحقيقية التي تربط الكائنات البشرية، وبفضل هذه الروابط، فإن الدولة هي مجتمع أخلاقي، وبها تتمكن الكائنات البشرية من أن تدرك أنفسها ككائنات بشرية، والحاصل هو الحرية، والحرية بالضرورة هي الحرية الإيجابية عند هيجل، الحرية هي فهم المجتمع التاريخي، وبالتالي إدراك دورنا في ذلك المجتمع.
فالدولة هي المجتمع الأخلاقي الذي تُكَوِّن فيه الكائنات البشرية أجزاءه العضوية، لذا فإن إرادة الدولة هي أجزاؤه العضوية، وعليه، فإن إرادة الدولة هي إرادة الكائن البشري، والقمع لا يمت بصلة لهذه المسألة، إلا إذا حل سوء ما بالفرد الإنساني أو بالدولة.
نخلص مما تقدم، إلى أن مفهوم الدولة لدى هيجل، يتلخص فيما يلي:
" إن جماعة من الناس لا يمكن أن تسمى دولة إلا إذا التزمت بالدفاع عن مجموع أملاكها. وهذا أمر مفهوم من تلقاء نفسه، لكن ينبغي أن يلاحظ أن هذا الدفاع ليس الغرض منه الدفاع عن النفس فقط، بل وأيضاً الرغبة في ان تدافع دفاعاً حقيقياً عما تريد من قوة ونجاح"([52]).
وفضلاً عن ذلك، تجدر الملاحظة أن هيجل يدافع عن الملكية الخاصة على أساس أنه لابد من أن تملك الكائنات البشرية شيئاً به يمكنهم أن يُعَبِّروا عن أنفسهم، فالكائنات البشرية لا تستطيع أن تعيش "داخل نفوسها" وحسب، فلا بد من أن تملك شيئاً تُعَبِّر فيه عن نفوسها.
في هذا السياق، إعتقد هيجل بأن لا غضاضة في أن يملك أحد الناس كثيراً والآخرون قليلاً – مادامت حالة عدم المساواة لا تؤدي إلى عدم رضى واضطراب سياسي.
أما الأسرة، فهي عند هيجل البيئة المحلية التي فيها يصير الفرد اجتماعياً وفردياً، أي يدخل بها إلى المجتمع والتقاليد، وقد رأى هيجل أن مسألة التوفيق بين حرية الفرد والتماسك الاجتماعي هي المسألة الأساسية التي تواجهها الحداثة.
"لذا، يجب فهم فلسفة الأسرة عند هيجل في هذا الضوء، أي: الأسرة الصغيرة المقتصرة على الأم والأطفال والوالد، والتي تعتمد في عيشها على ثروة العائلة، هي، في نظر هيغل، الثقل الوازن لفردية المجتمع البورجوازي، لأن الحب والتماسك قيمتان أساسيتان للأسرة، فالحب المتبادل بين الرجل والمرأة هو أساس الأسرة الحديثة، وعبر الحب يتبادل الإثنان التعارف، وتتحدد هوية كل شخص تحديداً مشتركاً مع تحديد هوية الشخص الآخر.
فالاعتراف المتبادل بين الرجل والمرأة في داخل مؤسسة الزواج المعترف بها اجتماعياً يقيم تسوية للحرية على شكل حب وعاطفة غرامية مع الهوية المتبادلة والاعتراف الاجتماعي، واعتقد هيجل أن المرأة تكسب الاعتراف الكامل داخل الأسرة، زوجة وأُمَّاً "([53]).
في هذا الجانب، ينسب هيجل إلى الرجل دوراً مزدوجاً مؤلفاً من كونه أباً للأسرة، وكونه عاملاً في ميدان الإنتاج، ومن جهة أخرى نجد المرأة مرتبطة بميدان الأسرة بكل أعمالها، وتكشف هذه النقطة كيف كانت نظرة هيجل إلى الأسرة مبنية على مفهوم الأسرة البورجوازية في زمانه، وقد رأى النساء والرجال مختلفين وأعمالهما مختلفة، فهو لم يناصر المساواة بين الجنسين.
"ويمضي هيجل من الأسرة بوصفها المتحد الاجتماعي المحلي الأوَّلي إلى ما يسميه المجتمع المدني الذي أساسه "نظام الحاجات"، وهذا هو بشكل رئيسي نظام اقتصاد السوق، كما عَرَفَهُ هيجل من كتابات الاقتصاديين السياسين البريطانيين، ومما كان في عصره عموماً.
فقد أكد هيجل المنطق الديناميكي الداخلي لذلك النظام. فالأعمال تتبادل التكيف والتكييف، ومع أن الأفراد يعملون على أساس رؤية منحازة فإن النظام ككل يعمل على أساس منطقه الخاص، وهو منطق نظام أعلى، فللنظام منطق واتجاه تطور لا يحتاج العاملون أن يعرفوهما، وهذا هو الذي يدعوه هيجل "مكر العقل البارع".
لقد وضع هيجل المجتمع المدني في منطقة تقع بين الأسرة والدولة. وكان أحد المنظرين الأوائل الذين أثاروا موضوع المنظمات الخصوصية والطوعية المتنوعة التي ظهرت في العالم الحديث ولها وظائف لا تتمكن من القيام بها الأسرة أو الدولة، إذ ان المعنى الواسع لفكرة المجتمع المدني يشمل الحياة المهنية واقتصاد السوق، غير ان هيجل ركز أيضاً، في المصطلح، على مسائل تدرس اليوم في مقابل الدولة والسوق.
" وفضلاً عن ذلك فإن اللافت أن هيجل ألمح إلى نظرية أزمة في رأسمالية دعه – يعمل، أي: إنه إذا تُرِكَ ذلك النظام لذاته فإنه عبر التوسع وتركز الرأسمال والإفقار والاستقطاب بين الطبقات سيؤدي إلى توترات وعدم استقرار، وعند هذه النقطة تتدخل منظمات وسيطة ومعها النظام والتماسك والمؤسسات والمجتمع، أي الدولة وفقاً لمصطلحات هيغل"([54]).
وبكلمات أخرى نقول إن هيجل ميز نفسه عن الليبراليين الذين يقولون دعه – يعمل، وعن الماركسيين، ووضع صورة مجملة لخط ثالث، فرأى أن: النظام الرأسمالي مُدَمِّر لذاته، وهو لن يبقى إذا ترك لذاته بعكس ما زعم الليبراليون، غير ان هيجل –كما يقول غنارسكيربك و غيلجي- "لم يعتقد بان الرأسمالية ستزال بثورة كما يقول الماركسيون، وإذا جاز لنا أن نطبق مصطلحات زمننا السياسية تطبيقاً يشبه المفارقة التاريخية، يمكننا أن نعتبر هيجل في هذه المناسبة ديمقراطياً اجتماعياً، مع مقاربته النظرية الخاصة، ومن دون شك، فقد دعم هيجل فكرة حكم قوي دستوري، ورفض فكرة دكتاتور حاكم وفقاً لنزواته، وما أراده هيجل هو دولة محكومة بالقانون والحق، وازدرى اللاعقلانية – في حين أن الفاشيين امتدحوا اللاعقلانية والحكم غير الدستوري"([55]).
ديورانت وتحليله النقدي لفلسفة هيجل:
يقول ديورانت : كتب هيجل كتابه "المنطق" (1812-16) الذي اثار المانيا بغموضه، وجعله يفوز بمنصب استاذ الفلسفة في جامعة هايدلبرج، حيث كتب هناك "موسوعة العلوم الفلسفية"، وقد رَفَعَت هذه الموسوعة من ذكره وشأنه، وعين استاذاً في جامعة برلين، ومنذ ذلك الوقت إلى نهاية حياته ساد هيجل عالم الفلسفة بلا منازع، كما ساد جوته عالم الأدب، وبيتهوفن عالم الموسيقى. لقد ولد بعد جوته بيوم واحد، وتحتفل المانيا الفخورة بهما بعيديهما كل سنة.
كتابيه "المنطق" "وعلم تجسد الروح" في غاية الغموض والابهام، فهو يضيف كتاباته بكونها "محاولة لتعليم الفلسفة النطق والتحدث باللغة الالمانية" وقد افلح هيجل في ذلك كما يقول ديورانت، إذ أن "كتابه المنطق لا يحتوي على وسائل التفكير، ولكن على النظريات المتبعة في التفكير، وهي الكيف والكم، والصلة وغيرها، إذ أن مهمة الفلسفة الأولى هي تشريح هذه الأفكار المرتبطة في جميع تفكيرنا، وأكثرها شمولاً وانتشاراً هي الصلة أو العلاقة"([56]).
ويضيف ديورانت: "ان كل فكرة عند هيجل تتألف من مجموعة من الصلات والعلاقات، حيث أننا لا نستطيع التفكير بالشيء الا إذا قارناه بشيء آخر، وأدركنا أوجه الشبه والخلاف فيه، والفكرة تكون فكرة فارغة إذا تجردت عن العلاقات، ولا يمكن لشيء أن يوجد أو يكون له معنى إذا كان مجرداً عن العلاقات والصلات، وأكثر هذه الصلات والعلاقات شمولاً هي صلة التعارض أو التناقض.
يقول هيجل: "ان كل حالة لفكرة أو شيء، وكل رأي وكل موقف في العالم، يؤدي إلى موقف معارض له، وبعدئذ يتحد هذا المعارض أو المضاد معه لتشكيل كل اعلى". ان هيجل يُدْخِلْ هذه "الحركة المنطقية" في كل ما كتبه من كتب والقاه من محاضرات، وبالتالي فإننا نجد حركة التطور، هي حركة دائمة للتطور بين الاضداد، والتوفيق بينها ودمجها، وهو يقول ان شلنج على صواب في قوله بوجود تماثل بين الاضداد، كما أن فخته على صواب في ان الموضوع وضده وتوحيدهما معاً يشكل سر التطور وكل الحقيقة، فليست الأفكار وحدها خاضعة لهذا التطور الذي يتحدث عنه هيجل، اذ أن الاشياء أيضاً خاضعة لذلك، فكل قضية تحتوي على تناقض وتَعارُضْ ينتهي به النمو والتطور إلى وحدة وانسجام وتوفيق بين هذه الامور المتعارضة"([57]).
المسألة الأخرى لدى هيجل، ترتبط بحديثه عن العقل والأخلاق والمطلق والتاريخ، يقول ديورانت: "ان عمل العقل ومهمة الفلسفة –عند هيجل- هي اكتشاف الوحدة الكامنة في التعارض أو التغاير، ومهمة علم الاخلاق هي توحيد السلوك والاخلاق، ومهمة السياسة هي توحيد الافراد في داخل الدولة، ومهمة الدين هي بلوغ المطلق وهو الله والشعور بانه ذلك الذي تحللت فيه جميع المتناقضات في وحدة، ذلك المقدار الكبير للكون الذي اتحدت فيه المادة والعقل، والفاعل والمفعول، والخير والشر في واحد، ان الله هو نظام الصلات الذي تتحرك به جميع الاشياء وتعيش، وتوجد وتجد فيه اهميتها.
ان المطلق ينهض في الإنسان إلى وعي ذاتي، ويصبح الفكرة المطلقة، وذلك ان الفكرة تدرك نفسها كجزء من المطلق، متجاوزة حدود الفرد وأغراضه ممسكة تحت الصراع العام، الانسجام المستتر لجميع الاشياء، ان العقل هو جوهر الكون،  وإن تصميم الكون عقلي اطلاقاً، فليس الصراع والشر مجرد تصورين سلبيين، انهما حقيقة، ولكنهما في نظر الحكمة مراحل لبلوغ الخير وتحقيقه، ان الصراع قانون النمو، كما أن الاخلاق تتشكل في الشدائد في هذا العالم، والانسان يصل إلى سموه الكامل عن طريق الإلزام والحاجة والمسئوليات والشدة والألم، وحتى الألم فيه تعليل عقلي، انه علامة الحياة والحافز لاعادة البناء، والعاطفة ايضاً لها مكان في عقل الاشياء، اذ لم يتم انجاز شيء عظيم في هذا العالم من غير ان يكون مقروناً بعمل عاطفي، وحتى طموح نابليون الاناني، يساهم بغير قصد في تطور الامم، إن الحياة لم توجد للسعادة بل لتحقيق الاعمال وانجازها. "ان تاريخ العالم ليس مسرحاً للسعادة، وفترات السعادة صفحات بيضاء فيه، لانها فترات انسجام خالية من الصراع". وهذا الرضى البليد غير جدير بالانسان.
ان "التاريخ –عند هيجل كما يقول ديورانت- يُصْنَعْ فقط في الفترات التي يقرر فيها النمو والتطور اضداد الحقيقة والوجود، فالتاريخ حركة منطقية، وهو في الغالب سلسلة من الثورات، يَستَخْدِم فيها المطلق الشعوب أثر الشعوب والعباقرة اثر العباقرة أدوات في تحقيق النمو والتطور، ذلك إن اعاظم الرجال ليسوا الخالقين للمستقبل ولكنهم وسطاء في تحقيق هذا المستقبل وما يقومون بفعله ليس سوى تحقيق لما ترسمه روح العصر، كما أن العبقري لا يضع سوى حجرا آخر في كوم البناء كما يفعل الآخرون، "ولكن لحسن حظ العبقري انه يجئ اخيراً، وعندما يقوم بوضع حجره يقف البناء على دعائمه "ان مثل هؤلاء الافراد لا يشعرون بالفكرة العامة التي يقومون بكشفها.. ولكن لديهم بصيرة في حاجات الزمن، وما هي الامور التي تم نضجها وآن حصادها"([58]).
يبدو أن مثل هذه الفلسفة عن التاريخ تؤدي إلى نتائج ثورية، لأن هذه العملية المنطقية في سير التاريخ تجعل من التغيير مبدأ الحياة الأساسي، اذ لا شيء خالد، وفي كل مرحلة من مراحل الأشياء يوجد تناقض وتعارض لا يقوى على حله سوى صراع الاضداد، لذلك فان الحرية هي قانون السياسة، وهي طريق مفتوحة للتغيير، والتاريخ هو نمو الحرية وتطورها، وعلى الدولة أن تجسد او تكون حرية منظمة، وكما ان الوحدة هي هدف التطور فإن النظام هو اللازم الأول للحرية.
واذا كان هيجل –كما يستطرد ديورانت- قد "مال في السنوات الاخيرة من حياته إلى وجهة النظر المحافظة بدلاً من التوريطات المتطرفة في فلسفته، فذلك لان روح العصر كانت قد مَلَّت التغيير، فقد كتب بعد ثورة 1830: "اخيراً بعد حروب واضطرابات استمرت اربعين سنة، يَسُرْ الإنسان ان يرى نهاية لهذا الصراع، ويرى بداية سلام يسوده الرضى، ويعلق ديورانت قائلاً: "من غير الطبيعي ان يتحول هذا الفيلسوف الداعي إلى الصراع كوسيلة للنمو والتطور والرقي إلى مؤيد – للقناعة والرضى، ولكن الإنسان في سن الستين له الحق في ان يطلب الهدوء، ومع ذلك فإن التناقض في افكاره كان اعمق بكثير من ان يحقق السلام" ([59]).
رفض هجيل المتطرفين واتهمهم بالخيال، -كما يؤكد ديورانت- واخفى كتاباته الأولى المتطرفة بحرص وحالف الحكومة البروسية وربط نفسه بها، وباركها بكونها التعبير الاخير عن المطلق"، أو نهاية التاريخ.
لقد انقسم اتباعه من بعده إلى يمين ويسار، حيث قام كارل ماركس بتطوير فلسفة التاريخ الهيجليه إلى نظرية صراع الطبقات التي تؤدي حسب الضرورة الهجلية إلى اشتراكية لا مفر منها، فقد قدم ماركس بدلاً من المطلق الذي يقرر التاريخ عن طريق روح العصر، الحركات الجماهيرية والقوى الاقتصادية كأسباب أساسية لكل تغيير أساسي سواء في عالم الاشياء أو في حياة الفكر، لقد فقس هجل الاستاذ الامبراطوري بيض الاشتراكية.
وفاة هيجل:
يصف ديورانت خاتمة حياة هيجل، بقوله: "اخذت إمارات الكبر والهرم تبدو عليه بسرعة منذ عام 1830، وبدا عليه شرود الذهن حتى انه مرة دخل إلى غرفة المحاضرات بفردة حذاء واحدة في قدمه، حيث ترك الفردة الثانية من غير ان يشعر في الطين، وهو في طريقه للجامعة، وعندما تفشي مرض الكوليرا وطرق ابواب برلين في عام 1831 كان هيجل بجسمه المضنى الضعيف من أولى ضحاياها، ومات بعد مرض استمر يوماً واحد فقط.
لقد خرجت روحه بهدوء وهو في نومه، وكما شاهدت أوروبا مولد ثلاثة من العباقرة وهم نابليون وبيتهوفن وهيجل في سنة واحدة فقد فقدت المانيا بين عامي 1827-1832 جوته، وهيجل وبيتهوفن"([60]).
" تمت مراسم دفن جثمانه، فاجتمع الأساتذة والطلاب من جميع الكليات، وتلاميذه المحدثون والقدماء، أولا في القاعة الكبرى للمدرج، وألقى صديقه الحميم، مدير الجامعة "مارهينكه"، خطبة تأبين أمام الجمهور البالغ التأثر. وتلا ذلك مسار موكب لا تحصره العين من الطلاب اللذين حملوا المشاعل المزودة بعلامات الحداد، لأنه لم يسمح لهم بحمل مشاعل مشتعلة، وتبعتهم سلسلة لا حصر لها من العربات إلى دار العزاء، حيث انضموا إلى عربة حمل الموتى التي كان يقودها أربعة خيول، وعند قبره ألقى مستشار البلاط "فيرستر" كلمة تأبين في مقبرة دوروتيه"([61]).
لقد كانت وفاة الفيلسوف هيجل خاتمة عهد لآخر مرحلة عظيمة من عصر المانيا الذهبي العظيم.
قالوا عنه([62]):
·     "إنه يجتذب الدين المسيحي إلى الفلسفة مع أنه لا شان له بها.." (غوته).
·     "نحن لا نستطيع أن ننكر على هيجل فضل فهم الطبيعة المنطقية للفلسفة عندما جعل المطلب الأول من الفلسفة أن تنسحب إلى الفكر المحض وألا يكون لها من موضوع مباشر سوى التصور المحض، لكن هذا الانطواء على الفكر وحده، على التصور المحض، ارتبط لدى هيجل بدعوى أن التصور هو كل شيء وأنه لا مكان خارجه لأي شيء.. وينبغي أن يكون مفهوماً لنا أن التصور عنده ليس مجرد فكرة، وانما هو على العكس الشيء بالذات.. ونحن لن نكون إلا مخطئين فيما لو آخذنا هيجل على اعتباره الله مجرد تصور، فرأيه بالأحرى أن الخالق الحق هو التصور؛ فيه نتحصل على الخالق ولا نحتاج إلى خالق آخر". (شلينغ).
·     إن جدل هيجل هو الشكل الأساسي لكل جدل، وإنما فقط بعد أن يتم تجريده من صورته الصوفية، وذلك هو بالضبط ما يميز منهجي .. إن الجدل عنده يمشي على رأسه؛ ويكفي أن نوقفه على قدميه حتى نجد له سيماء معقولة تماماً" (كارل ماركس).
·     "لقد وجدت الفلسفة الألمانية الحديثة إنجازها في مذهب هيجل الذي مَثَّلَ لأول مرة – وتلك هي مأثرته الكبرى- عالم الطبيعة والتاريخ والروح قاطبة على أنه سيرورة، أي على أنه مستغرق في حركة، في تغير، في تحول، في تطور دائم، وحاول أن يبرهن على الترابط الداخلي لهذه الحركة ولهذا التطور .. ولئن لم يحل هيجل هذه المسألة (المنطق الداخلي لسيرورة التطور)، فليس لذلك من أهمية تُذكر، وإنما فضله، الذي أبقى ذكراً دائماً، هو أنه وضعها، فتلك المسألة هي بالتعيين من تلك المسائل التي لا يكون في مستطاع أي فرد أن يحلها بمفرده" (إنجلز).
·     "إن النتيجة الأخيرة لفلسفة هيجل تريد أن تثبت أن الإنسان مُكْرَه على أن يصنع التاريخ بدون تدبير إله وحمايته، وأن ليس الله من خلق العالم، وإنما الإنسان هو الذي تخيل الله، ولو ضَرَبَ هذا التعليم الثوري جذوره في الأدمغة الألمانية، لتبدد الهدوء الثقيل ولانتهت عبادة السلطة والسذاجة اللتان كانتا إلى يومنا من السمات المميزة للحياة الألمانية، وان الفلسفة الألمانية تمثل إعلان حرب على الواقع الألماني وتحوي وعوداً ثورية، لكن ما من شيء يثبت أن هذه الثورة ستكون كريمة وتحريرية وكلية بالقدر الذي كانته الثورة الفرنسية" (هاينريخ هاينه).
·     "إن منطق هيجل كما أفهمه يُرضي عقلي أكثر بما لا يقاس من كل تلك الحِكَمْ والأقوال المأثورة التي حشينا بها عقولنا منذ نعومة أظفارنا" (برودون).
·     "نحن الألمان ما كنا إلا لنكون هيغليين حتى ولو لم يوجد هيجل قط، وذلك بقدر ما اننا (بالتعارض مع اللاتين قاطبة) نعطي غريزياً معنى أعمق وقيمة أغنى للصيرورة وللتطور مما لما هو كائن " (نيتشه).
·     "كان ماركس وانجلز يريان في جدل هيجل المذهب الأوسع والأغنى والأعمق للتطور، وانجازاً هائلاً للفلسفة الكلاسيكية الألمانية" (لينين)
·     "لقد عارض العقلانية الميتافيزيقية بالجدل، وعارض المفاهيم المتجمدة بتحولها، وعارض التجريد الأجوف بالمفهوم المادي لغنى الجزئي والفردي (بوليتزر).
·     "إن هيجل هو في أصل كل عمل عظيم، عَمِلَ في مضمار الفلسفة منذ قرن ونيف، أول من حاول استكشاف اللامعقول ودمجه بعقل موسع لا يزال إنشاؤه من مهمة عصرنا، إنه هو مخترع ذلك العقل الأوسع شمولاً من الذهن، والقادر أن يحترم تنوع وفرادة النفسيات والحضارات ومناهج الفكر والطابع الاحتمالي للتاريخ، بدون أن يتخلى مع ذلك عن التصميم على السيطرة عليها ليقودها إلى حقيقتها الخاصة"، فقد استخلص هيجل كل المأثور الفلسفي عندما ماهى بين العقل والحرية: فالحرية هي الشكل الوحيد الممكن لوجود العقل، وإذا تَصَوَّرَتْ الفلسفة العقل على أنه حرية، بدت وكأنها أدركت حدها: فالشيء الذي لا يزال يتطلب أن يُفَعل، أي التحقيق الفعلي للعقل، ليس من اختصاص الفلسفة، وبالفعل، كان هيجل يعتبر أن تاريخ الفلسفة قد أغلق نهائياً بعد أن حققت تلك المماهاة، بيد أن هذه النتيجة ما كانت تعني مستقبلاً أفضل، وإنما فقط الحاضر المحزن للبشرية" (هربرت ماركيوزه).
 
 


([1]) جون لويس – ترجمة: انور عبد الملك - مدخل إلى الفلسفة –  دار الحقيقة – بيروت -  الطبعة الثانية – 1973 - ص 196
([2]) يقول د. عبد الرحمن بدوي : "كانت جامعة يينا – على صغرها- آنذاك الدرة الثمينة في تاج الجامعات الألمانية كلها، بل أعظم جامعات العالم كله في العقد الأخير من القرن الثامن عشر والعقد الأول من القرن التاسع عشر. وصارت مدينة يينا كعبة الأدب والفلسفة والعلم في تلك الفترة، وقد كان الحدث الأكبر في أثناء إقامة هيجل في يينا اصدراره لكتابه العظيم "ظاهريات العقل" أو "فينومينولوجيا الروح" قصد من هذا الكتاب أن يكون نقداً لمذاهب السابقين من الفلاسفة في حقيقة المعرفة، وتمهيداً لتقرير المعرفة المطلقة . وفي هذا السبيل –كما يضيف د. بدوي- دار العرض حول : (1) الوعي أو الشعور. (2) والعقل .  (3) المعرفة المطلقة بوصفها وعي (أو شعور) العقل المطلق. ويمكن أن ندرك شعور هيجل بما حققه في هذا الكتاب – من قوله في ختام محاضراته عن الفلسفة النظرية في 18 سبتمبر سنة 1806: "تلك ، يا سادتي، هي الفلسفة النظرية كما وصلت إلى تكوينها، فاعتبروها بداية للتفلسف ستواصلون السير فيها . إننا نقف اليوم في عصر مهم، في عصر غليان قامت فيه الروح (أو العقل) بهزة ابتغاء ان تتجاوز شكلها الذي اتخذته حتى الآن ، وان تكتسب شكلاً جديداً . وجماع التصورات والأفكار وروابط العالم قد انفكت وتهافتت كرؤيا حلم . وثم تمهيد لمسيرة جديدة للعقل (للروح) . وينبغي على الفلسفة أن تحيي ظهورها وأن تقر بها ، بينما ثم آخرون يقاومونها عبثاً متشبثين بالماضي ، والغالبية يبينون كتلة ظهورها دون وعي واضح . لكن على الفلسفة أن تظهر لها التوقير مدركة انها هي الخالدة . واستئناساً بذكراكم الطيبة ، ارجو لكم اجازة سعيدة "(د. عبد الرحمن بدوي – حياة هيجل – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة 1 – 1980- ص45)".
([3]) يوسف حسين – محاضرة باليوتيوب - الانترنت
([4]) محاضرة د. هشام غصيب– علمنة الفلسفة الأوروبية – يوتيوب – قناة الفنيق – الانترنت.
([5]) د. صادق جلال العظم – دفاعاً عن المادية والتاريخ – دار الفكر الجديد – بيروت – الطبعة الأولى 1990 –ص26
([6]) د. عبد الرحمن بدوي – حياة هيجل – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة 1 – 1980 – ص142
([7]) محاضرة د. هشام غصيب - مرجع سبق ذكره .
([8]) حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م -  ص 181
([9]) المرجع نفسه - ص 182
([10]) المرجع نفسه - ص 182
([11]) المرجع نفسه - ص 183
([12]) المرجع نفسه - ص 184
([13]) المرجع نفسه - ص 185
([14])موجز تاريخ الفلسفة – جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم – دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص 417
([15]) المرجع نفسه - ص 420
([16]) المرجع نفسه - ص421
([17]) د. حامد خليل – مشكلات فلسفية – الطبعة الثالثة – دار الكتاب – دمشق – 1989/1990 م -  ص 185
([18]) المرجع نفسه - ص 186
([19]) المرجع نفسه - ص 187
([20]) المرجع نفسه - ص 188
([21]) المرجع نفسه - ص 189
([22])جماعة من الأساتذة السوفيت - مرجع سبق ذكره – موجز تاريخ الفلسفة – ص418
([23]) المرجع نفسه - ص 411
([24])  بيير هاسنر، مقال بعنوان: عمانوئيل كانط – تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين) - تحرير: ليوشتراوس و جوزيف كروبسي – ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – الجزء الثاني – القاهرة – 2005 -ص 374
([25]) عبد الواحد العلمي – دراسة بعنوان: هيجل والآخر: الكونية المعطوبة – الملتقى الفكري للابداع – 31/10/2015
([26]) فؤاد جابر الزرفي – دراسة بعنوان: هيجل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ – موقع: مقالات في التاريخ – 29/11/2012.
([27]) عبد الواحد العلمي – دراسة بعنوان: هيجل والآخر: الكونية المعطوبة – الملتقى الفكري للابداع – 31/10/2015.
([28]) المرجع نفسه .
([29]) المرجع نفسه .
([30]) المرجع نفسه.
([31]) فؤاد جابر الزرفي – دراسة بعنوان: هيجل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ – موقع: مقالات في التاريخ – 29/11/2012.
([32]) عبد الواحد العلمي – دراسة بعنوان: هيجل والآخر: الكونية المعطوبة – الملتقى الفكري للابداع – 31/10/2015.
([33]) المرجع نفسه.
([34]) المرجع نفسه.
([35]) شوقي العمير – تلخيص مقدمة إمام عبد الفتاح إمام لكتاب العالم الشرقي هيجل – الانترنت – 20 /6/2013.
([36]) فؤاد جابر الزرفي – دراسة بعنوان: هيجل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ – موقع: مقالات في التاريخ – 29/11/2012.
([37]) المرجع نفسه .
([38]) شوقي العمير – تلخيص مقدمة إمام عبد الفتاح إمام لكتاب العالم الشرقي هيجل – الانترنت – 20 /6/2013.
([39]) المرجع نفسه .
([40]) فؤاد جابر الزرفي – هيجل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ – موقع: مقالات في التاريخ – 29/11/2012.
([41]) المرجع نفسه.
([42])موجز تاريخ الفلسفة – جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم – دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) - ص23
([43])حامد خليل - مرجع سبق ذكره - مشكلات فلسفية -  ص 196
([44]) جون لويس – ترجمة: انور عبد الملك - مدخل إلى الفلسفة –  دار الحقيقة – بيروت -  الطبعة الثانية – 1973 - ص  197
([45]) المرجع نفسه – ص 199
([46]) المرجع نفسه –ص 200
([47]) المنظومة أو المذهب الهيغلىهى جملة أراؤة عن الطبيعة و المجتمع ، وهى الجانب الرجعى من فلسفتة ، لكن المنهج الديالكتيكى بالإضافة إلى المنظومة هما شكلين لوجود الفكرة المطلقة.
([48]) المنهج الهيغلى method : الديالتيكى : هو الجانب الإيجابى والتقدمى فى فلسفتة.
([49]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 639
([50])  بيير هاسنر، مقال بعنوان: عمانوئيل كانط – تاريخ الفلسفة السياسية (مجموعة مؤلفين)  - تحرير: ليوشتراوس و جوزيف كروبسي – ترجمة: محمود سيد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة – الجزء الثاني – القاهرة – 2005 – ص 373
([51])  المرجع نفسه-  ص 374
([52]) د. عبد الرحمن بدوي – حياة هيجل – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة 1 – 1980 – ص39
([53]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص 657
([54]) المرجع نفسه - ص 659
([55]) المرجع نفسه - ص 660
([56]) ول ديورانت –  قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص377
([57]) المرجع نفسه - ص378
([58]) المرجع نفسه - ص380
([59])المرجع نفسه -  ص381
([60])المرجع نفسه - ص383
([61]) د. عبد الرحمن بدوي – حياة هيجل – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – الطبعة 1 – 1980- ص156
([62]) جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 721 - 725








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لقد انطفات شعلة فلسفة هيجل
منير كريم ( 2020 / 12 / 29 - 18:32 )
تحية للاستاذ المحترم
البعض يعتبر فلسفة هيجل ردة الى ماقبل الفلسفة المثالية الانتقادية لكانت وقد كرست مفهوم الحتمية والغت مبدأ الحرية
اما الديالكتيك الهيجلي بقوانينه الثلاثة فهو منهج يتعارض مع المنهج العلمي التجريبي التحليلي
شكرا جزيلا لك


2 - النمسا لم تكن ابدا جزء من المانيا
طلال الربيعي ( 2020 / 12 / 29 - 20:44 )
اقتباس
-كانت الدولة (الالمانية) تتألف من النمسا وبروسيا والامراء الناخبين....-
النمسا لم تكن ابدا جزء من المانيا ما عدا سنوات ضمها الى المانيا النازية. ثم استرجعت استقلالها بانهيار النازية.

اخر الافلام

.. غزة- إسرائيل: هل بات اجتياح رفح قريباً؟ • فرانس 24 / FRANCE


.. عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر




.. -يجب عليكم أن تخجلوا من أنفسكم- #حماس تنشر فيديو لرهينة ينتق


.. أنصار الله: نفذنا 3 عمليات إحداها ضد مدمرة أمريكية




.. ??حديث إسرائيلي عن قرب تنفيذ عملية في رفح