الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأمة ضد القوميّة الغاضبة

فارس إيغو

2020 / 12 / 29
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير


كتاب ((الأمة ضد النزعة القومية)) من تأليف الفرنسي جيل دولانوا (منشورات المطبعة الجامعية الفرنسية،264 صفحة، الطبعة الأولى 2018) (1).
الملاحظة الأولى التي استرعت انتباهي بعد قراءتي للمؤلَف، هو أن الكتاب دفاع عن الأمة في زمن تتعرض فيه الدولة ـ الأمة (أو الدولة والأمة) في الغرب للقصف من الانتماءات ما تحت الوطنيّة وما فوق الوطنيّة. ويمكنّنا القول أنّ الكتاب دفاع عن نموذج معين من الأمة، هي الأمة الديموقراطية. وبالرغم من أن العنوان هو الأمة ضد النزعة القومية (أو بالأحرى للوقايّة من عودة النزعات القوميّة أو الناثيوناليزم)، إلا أننا نجد في بعض مقاطع الكتاب الدفاع عن النزعة القومية (وهنا يمكن القول أيضاً أنه دفاع عن نموذج معين من النزعة القومية أو فهم معين لدى المؤلف للنزعة القومية) مما يثير بعض الحيرة لدى القارئ بين عنوان الكتاب وهذا الدفاع الموجود في الكتاب عن النزعة القومية غير المقنع تماماً ويتخبط كثيراً في التنقل الدائم بين المفاهيم التجريدية والأمثلة التاريخية المجسدة.
في عالم يزداد عولمة، هل الأمة محكوم عليها الانقراض؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه المؤلف في هذا الكتاب، ويحاول أن يقدم لنا إجابة عنه من خلال صفحات الكتاب التي تبلغ 264 صفحة.
إن الفكرة التي نسمعها في كل مكان هي أن الأمة في طريقها الى الانقراض، هذا ممكن جداً، لكن لا يعتقد المؤلف بأن ذلك سيحصل في الزمن أو الأمد القصير والمتوسط، والأمثلة كثيرة في يومنا هذا، الصين التي هي إمبراطورية طوال قرون وقرون، بدأت بعد نهاية المرحلة الشيوعية الأرثوذكسية عام 1979 تقدّم نفسها على اعتبارها أمة، والوحدة الألمانية أنجزت اعتباراً من مبدأ الأمة الألمانية الواحدة ـ ولم يكن الأمر سهلاً، خصوصاً أن ألمانيا بعد المأساة النازية أعلنت دخولها عصر ما بعد الوطنية ـ، وأخيراً البريكسيت له علاقة ما بالوعي والتاريخ الوطنيين لبريطانيا، ويمكننا أن نعدّد الأمثلة في هذا الصدد، إذن، الأمة ليست في طريقها الى الاختفاء.
إن محاولة محو الأمم لها عكس النتيجة المرجوة. والنتيجة هي القومية الغاضبة (2). الأمة مكان وعامل موازنة قادر، في أحسن الأحوال، على مقاومة الآثار المدمرة لما بعد القومية والقومية الغاضبة. تبقى ثلاث حجج لصالح المشروع الوطني:
. الأمة هي الشكل الوحيد للديمقراطية الحديثة.
. إنه المكان الوحيد للتضامن بين المواطنين الذي أنشئ حتى الآن.
. ولأنها تتيح لنا ممارسة حرية اختيار المصائر الجماعية.
في هذا الكتاب المتوجه لجمهور واسع من القراء، يقوم المؤلف بتحليل دقيق لفكرة الأمة من أجل إظهار بأن "مستقبل الديموقراطية يكمن في بقاء الأمم السلمية والمتعاونة". بالنسبة لهذا المختص في علم السياسة، الأمة هي "شكل سياسي وثقافي"، وهو الشيء الجديد الذي يأتي به المؤلف في هذا الكتاب في أنه يعرّف الأمة ليس فقط كشكل ثقافي بل أيضاً سياسي، وُلدت في الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا فيما بين 1770 و1800، وهي "تاريخياً تتعلق بحركة عمومية في اتجاه المساواة والحرية للأفراد والتعاونيات"، والتي تسمح في "وضع الهويات الاثنية والثقافية، والانقسامات الهووية والدينية والمذهبية في المرتبة الثانية بعد الشعور الوطني".
لقد كان انتشار فكرة الأمة سريعاً في كل مكان في العالم في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. اليوم، إن حيوية هذه الفكرة لم تضعف: إن ألمانيا في طريقها لأن تنسى "وطنيتها الدستورية " (راجع كتابات الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في الوطنيّة الدستوريّة)؛ والولايات المتحدة الامريكية وثقت العرى الوطنية بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول الإرهابية؛ أما الصين، فهي تحاول أن تنسى الشيوعية الدولية من أجل أن تؤكد هويتها كأمّة، وفي نفس الوقت تُبعد الديموقراطية؛ وروسيا بعد المحنة السوفياتية ترجع الى الاعتراف بتاريخها السابق على الدولة السوفياتية، أي القيصريّة والارثوذكسيّة وتضع الأمة الروسية مكان الرابطة الأممية الشيوعية. إن الرابطة بين الأمة والديموقراطية جوهرية، لكن هذه العلاقة تُنسى في الطريق، عندها تِعرف الأمة انحرافاتها الخطيرة: الدكتاتورية، الفاشية والشمولية.
إن المسارات نحو النزعة القومية متعددة: برنامج تحريري في عملية نزع الكولونيالية في أمريكا الشمالية والجنوبية، الثقافات السياسية الجديدة التي ظهرت أثناء تفكك الإمبراطورية العثمانية والنمساوية وكذلك في الأمم التي نشأت أثناء نزع آخر بؤر الإستعمار، وفي الحركات الانفصالية، عمليات التفكك الإثني ـ الثقافي أو الوحدة بين كيانات إثنية ـ ثقافية متقاربة. إن النزعة القومية هي الوسيلة الناقلة، إنها "الحرباء" التي تتلون بسهولة. إنها لا تتواجد لوحدها، ولا تتصرف لوحدها: إنها ترافق أيديولوجيات مختلفة، أي تتصالب وتقاطع معها. لوحدها، النزعة القومية ليست شيئاً سيئاً ولا جيداً، أنها أيديولوجية حديثة مع نجاحاتها وجرائمها (3).
يرفض المؤلف، وبحق، الصلة التي تثار غالباً في أوروبا بين النزعة القومية والنازية، فالنازية حسب المؤلف مشروع عرقي " مؤسس على فكرة شعب سُلالي ذو الدم المتفوق "، أو الصلة الي تُعقد بين النزعة القومية والحروب، وهي الجملة الشهيرة للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران (1916 ـ 1996): إن النزعة القومية هي الحروب؛ بينما في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) تواجهت ستة إمبراطوريات وليس أمم، أما الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1954) فكانت صراعاً أيديولوجياً بين الديموقراطيات الليبرالية التمثيلية والدكتاتوريات الشموليات، أي صراع أيديولوجي وليس صراع قوميّات. بالنسبة للمؤلف، فإن الأمم الديموقراطية لا تثير الحروب، ولا تتحارب فيما بينها.
يستلهم المؤلف أفكاره من مفهوم "الكونية التكرارية " عند السوسيولوجي الأمريكي ميكائيل فالزر صاحب مفهوم الحروب العادلة والحروب غير العادلة (3)، مؤكداً بأن الأمة الديموقراطية هي التي تردع النزعات القومية والاستعمال غير الأخلاقي لمفهوم الأمة. إن الشكل السياسي المشتمل على مفهوم الأمة، يساوي ويدمج، ومحققاً التضامن، والحماية أو الرعاية السياسية والاجتماعية. إن هذا الشكل السياسي يحقق التوازن فيما بين المساواة والتنوع، والحرية والتضامن "عن طريق المدلولات الاجتماعية والمعايير المشتركة" حيث إن كل الخيارات ممكنة. هو إذن، يحقق درجات مختلفة من التجانس في النسيج المجتمعي وكذلك درجات من التعددية الثقافية في إطار أو ضمن الثقافة الوطنية الجامعة والجماعة الوطنية، ويمكن أن يلبي بعض الطموحات والمطالبات الهوويّة كثيفة الحضور في عالمنا المعاصر ويبقى في نفس الوقت محافظاً على وحدة مركزية.
إن من المؤثرات الجديدة التي تضعف الأمة اليوم هي العولمة، الاتحاد الأوروبي في شكله الفيدرالي الحالي، وانمحاء الثقافة الوطنية بالنزعات النسبية والمتعددة الثقافات المفروضة، والأصولية الإسلامية التي لا تتلاءم مع الديموقراطية. وبصورة متناقضة، تحفز تلك العوامل اليوم عودة النزعات القومية الدفاعية والهوويّة خصوصاً في الغرب، ومنها من يغرق في حالة كره الغريب، يلح المؤلف بصورة مكررة في كتابه على التفريق فيما بين مفهوم الأمة والعنصرية.
بالنسبة لموقف المؤلف من الاتحاد الأوروبي الحالي، هو عدم رفض فكرة التجمع والتعاون الأوروبي، لكن يرفض الانحراف الحالي للاتحاد الاوروبي، وعجزه، ورفضه لوجود حدود جغرافية خارجية وحدود سياسية وثقافية داخلية، وانعدام الديموقراطية في داخل مؤسساته، والإدارة التكنوقراطية للخبراء المندوبين من قبل الحكومات المعنية. إن الحلم الذي يراود نخبة من السياسيين الأوروبيين في وجود دولة ـ أمة أوروبية تتجاوز وتمتص الأمم الحالية، هو حلم إمبريالي ترفضه أغلبية من مواطني دول الاتحاد الأوروبي.
يعرض المؤلف بطلان الوطنية القائمة على القيم والمعايير الدستورية فقط (5)، وخطورة بناء عالم يتجاوز السياسي والسياسة والحدود الجغرافية، هذا العالم يمكن أن يكون تحت رحمة الشبكات التجارية والاستهلاكية والإعلامية للرأسمالية المنفلتة وللطلبات المتزايدة للنزعات والحقوق الفردية التي لا نهاية لها، وهما عاملان لا يمكنهما أن يضمنان استمرار عمل الديموقراطية.
ويختم المؤلف كتابه بالتأكيد على أن الشكل السياسي للأمة هو الضامن الوحيد لتثبيت ودوام الديموقراطية، وبالتالي فإن مستقبل الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يستمر في طريقه السائر نحو الفيدرالية الكاملة، أي نحو بناء الولايات المتحدة الأوروبية.
إن من ميزات كتاب جيل دولونوي الأمة ضد النزعة القومية، هو أولاً الإصرار على أهمية الأمة كإطار لا بد منه لإقامة الديموقراطية، وهو يعقلن ثانياً النقاش الدائر حول مصير ومستقبل الاتحاد الأوروبي بين القائلين بالفيدرالية الأوروبية التي تحل مكان الدول ـ الأمم الأوروبية ويتزعم هذا التيار الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الذي يتحدث في مشروعه عن سيادة أوروبية كاملة وجيش أوروبي ـ والمنادين بالسيادة الكاملة والانسحاب الفوري من الاتحاد الأوروبي الحالي، وثالثاً، أن المؤلف يحاول تفكيك التصور الشائع في الإعلام والذي يردد بطريقة ببغائية على أن النزعة القومية هي شرٌ مطلق.
لكن، المشكلة الكبرى في هذا الكتاب، هو الخلط الكبير بين الأمة التي يمكن اعتبارها بالنسية للكثيرين من المختصين في الفلسفة السياسيّة بأنها الإطار الأسلم لقيام الديموقراطية وللتعايش السلمي بين جميع ساكني الدولة على اعتبارهم مواطنين منتمين للجماعة الوطنية التي تعلو على الانقسامات تحت الوطنية وحتى إن أمكن السياسية بوجود روابط تاريخيّة ممتدة وقيم ثقافية مشتركة وإرادة العيش المشترك وبناء المستقبل و الناثيوناليزم أو الأيديولوجيّة القومية كما هي مستعملة في اللغة العربية، والتي يعتبرها الكثيرون من علماء السياسة بأنها تؤدي الى إثارة الحروب بين الأمم، والتجارب الكثيرة خصوصاً في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين وفي العالم العربي في النصف الثاني من القرن المنصرم دليل قوي على صحة هذا التقييم.
والنقد الثاني للمؤلف هو موقفه من الاتحاد الأوروبي، حيث يتوقع القارئ من مفكر يضع نفسه في الإطار الوطني أن يقدم دفاعاً أقوى عن المشروع الديغولي لكونفدرالية الأمم الأوروبية، والذي يقوم على مبدأي سيادة الدول النسبية في عالم متداخل اليوم والتعاون الأوربي الوثيق في مجالات كثيرة.
يقدم الكاتب نفسه في النقاش الأوروبي الحالي بطريقة ذكية خوفاً من الصوابيّة السياسية المهيمنة في الإعلام الرسمي وشبه الرسمي والتي تُفسد النقاش وتبادل الأفكار الحر، فهو عندما يصف موقفه أنه ليس بالسيادي كما يعبر عن نفسه التيار السيادي القائم على الساحة السياسية الفرنسية فهو يقدم تنازلات للإعلام تشوه فكره السيادي بامتياز، وهو يردد بأنّه لست مناهضأً للشعور الأوروبي المشترك، لكنه يرفض أي نوع من الاتحاد يأخذ شكلاً ما ـ بعد ـ وطني، أي يرفض انحلال الأمة الفرنسية في أمة أوروبية ذات مبادئ دستورية خالصة، بينما يقوم تعريف جيل دولونوا للأمة على اعتبارها شكل سياسي وثقافي.
وفي المحصلة، هذا الكتاب يأتي في سياق تزداد فيه النقاشات في أوروبا حول مفاهيم الأمة ومصير الدولة ـ الأمة، والهويّة الوطنيّة في ظل الهجرة الواسعة لأوروبا في غياب سياسات مخططة تقودها الدولة ـ الأمة لتنظيم الاندماج الكامل للمهاجرين الجدد؛ وهالكتاب يساهم بصورة عقلانيّة هادئة في توجيه النقاش نحو أسس سليمة لبناء الدول الأوروبيّة وصيانة مستقبلها. وأهم ما في الكتاب هو دفاع المؤلف الشجاع عن الأمة كإطار ضروري للديموقراطية والتضامن الاجتماعي بين المواطنين ولتشكيل الجماعة الوطنية التي تعلو على الانقسامات التحت ـ وطنية، والفوق ـ الوطنيّة، ودفاع آخر ـ لم يكن مقنعاً ولا موفقاً فيه ـ عن نموذج من النزعة القومية السلميّة (6).
(1) Gil Delannoi « La nation contre le nationalisme » (Presses Universitaire de France, 2018).

(2) القوميات الغاضبةّ!؟ أو فرط في التعبئة الأيديولوجية القومية لغياب التحقق الخارجي للدولة القوميّة كما هو الحال في العالم العربي في النصف الثاني للقرن الفائت أو لتعرض الهويات الوطنيّة لمخاطر تأتي من أيديولوجية العولمة والمروجين لها في مؤسسات الاتحاد الأوروبي المهيمن عليها من قبل أنصار العولمة الأيديولوجية والسوق والحدود المفتوحة.
(3) إن اتفاقيّة سايكس بيكو (عام 1916) ووعد بلفور (عام 1917)، كانا من أهم الأسباب التي حولت القومية العربية من العروبة الثقافيّة إلى قوميّة غاضبة أنجبت حزب البعث والأنظمة الدكتاتورية الذي حكمت سورية والعراق حوالي نصف قرن.
(4) إن النزعة الكونية التكرارية عند ميكائيل فالزر تأخذ بعين الاعتبار خصوصية التاريخ والتجربة الخاصة لكل شعب، ولا يجب الخلط بينها وبين النزعة النسبية التي تضع كل الثقافات في مستوى واحد من الاعتبار.
(5) راجع الدستور الأوروبي الذي أُقر عام 2007 عن طريق تجاوز عدد من الاستفتاءات التي جاءت نتيجتها رفض الدستور (فرنسا، هولندا).
(6) صعوبة صوغ هذه المفاهيم الثقافية في قالب تجريدي تجعل الكثير من الكتابات لدى المفكرين المدافعين عن الأيديولوجية القومية تبدو وعرة وصعبة الفهم، كما هو الحال في مقاربات المفكر عزمي بشارة لتلك المفاهيم.
انظر عزمي بشارة والديموقراطية والمجتمع المدني، يوتيوب تاريخ 10 حزيران 2013.
ملخص لكتاب ((في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديموقراطي عربي)) (2007).
https://youtu.be/foxwfzVqDFQ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل يبرئ الأنروا، وإسرائيل تتمسك باتهامها


.. بتكلفة تصل إلى 70 ألف يورو .. الاتحاد الفرنسي لتنمية الإبل ي




.. مقتل شخص في قصف إسرائيلي استهدف سيارة جنوبي لبنان


.. اجتماع لوكسمبورغ يقرر توسيع العقوبات الأوروبية على إيران| #م




.. استخراج طفلة من رحم فلسطينية قتلت بغارة في غزة