الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مبدعاتٌ إيرانياتٌ يُحارِبْنَ شرورَ وطنٍ بصِيغة المُؤنَّثِ : أزمةُ الهُويّة

رويدة سالم

2020 / 12 / 29
الادب والفن


مبدعاتٌ إيرانياتٌ يُحارِبْنَ شرورَ وطنٍ بصِيغة المُؤنَّثِ


كتابة: كريستين شولاي عاشور

في شهر جويلية الماضي من سنة 2018، أصدرت صافورَا تورك لاداني، الكاتبة الإيرانية والأستاذة بجامعة أصفهان، كتابًا بعنوان "تاريخ العلاقات بين إيران وفرنسا" بحثت فيه، بالاعتماد على أرشيفات فارسية وفرنسية، طبيعةَ علاقة إيران بفرنسا منذ القرون الوسطى وإلى حدِّ اليوم، وما اتسمت به من تميُزٍ طالَ مجالات الثقافة والسياسة والاقتصاد، وما ظهر فيها من توترات وأزمات خلال المحطات التاريخية الكبرى لإيران وخاصة منها ثورة الملالي سنة 1979، ثم الحرب مع العراق، وما تعلق بقضية الملف النووي الإيراني ومواقف الدول العظمى منه. وفي هذا الكتاب، دعت المؤلفة إلى ضرورة إحياء علاقة إيران مع الغرب وخاصة منه فرنسا، متّكئة في دعوتها على ضرورة خلق مؤسّسات ثقافية فرنسية في إيران اليوم بعد أن تنامت الكتابات الإبداعية الإيرانية باللسان الفرنسي منذ أزيد من ثلاثين سنة.
تطوف هذه المقالة بقرّائها في رحاب النصوص الروائية الإيرانية المكتوبة من قبل مبدعات إيرانيات كنَّ قد هاجرن إلى فرنسا وبعض دول أوروبا، وأسّسن بإصداراتهن، ما يمكن أن نُسمّيه بالأدب الفرانكفوني الإيراني، وذلك للوقوف على علاقة هؤلاء المبدعات بإيران ما بعد الشاه، وتأثير التقلبات السياسية عليهن وعلى أُسَرهن، وانطباعاتهن على دول المهجر التي وجدن أنفسهن منفيات فيها. وهو الأمر الذي سعت إلى الإحاطة به الباحثة الفرنسية كريستين شولاي عاشور في مقالتها الموسومة بـ"الأصوات الإيرانية الفرانكفونية".

متاهةُ السِّيرة والتخييل

ضمن الكتب الجديرة بالمطالعة، نُلفي رواية «التائهة» للكاتبة نيغار جافادي (منشورات ليانا ليفي، باريس 2016) وهي الرواية الأولى لهذه الإعلامية الإيرانية المقيمة بباريس، وقد تُوِّجت بجائزة "الأسلوب" عام 2016، وجائزة "الرواية الجديدة" عام 2017، والمؤكَّد هو أنّ قراءة هذه التحفة الفنية تدفعنا للاهتمام بأدب القرن الحادي والعشرين الفرنكفوني الذي تكتبه أصوات نسائية إيرانية.
تدفعنا حكاية الرَّاوِيَة "كيميا"، التي تحضر في السرد بضمير المخاطِبِ "أنا"، وهي ثالثة بنات "داريوس صدر" و"سارا تادجمول"، وهما مفكران إيرانيان وسياسيان معارضان للشاه أولا ثم للخميني من بعده، إلى التساؤل عما يمكن أن يكون عليه مصير أبناء نشطاء سياسيين كرسوا أعمارهم لنضالهم السياسي معرضين في خلال ذلك حياتهم الشخصية والأسرية للخطر؟ عند قراءة هذه الرواية، نلفي أنفسنا في وسطٍ اجتماعيٍّ وثقافيّ يسود فيه أثرياء البورجوازية الإيرانية التي تدعمها أصولها العائلية الأجنبية بإسهامات متنوعة كالجدة الأرمنية من جهة الأم "إيما أصلانيان". ويمكن ملاحظة حضور هذا الجانب الأرمني في الشخصيات الإيرانية بشكل أفضل عند قراءة روايات زويا بيرزاد الروائية المشهورة التي ترجم رواياتها "كريستوف بالاي" ونشرتها دار "زولما Zulma " منذ 2007.
ومن أجل "مساعدة" القارئ على فهم بناء روايتها غير المألوف، أضافت نيغار جافادي، في نهاية النصّ، جردا توضيحيا (جينيالوجيا) ذكرت فيه الوالدَيْن والأجداد وأيضا الأختيْن الكُبْرَيَيْن للبطلة "كيميا"، وهما "لايلي" و"مينا"، إضافة إلى الأعمام الستة. وتكمن أهمية نصها، هذا الذي يرحل بنا عبر أجيال عديدة وأماكن مختلفة وأحداث هامة، في طريقة بنائه الفنيّ، حيث تدمج الكاتبة القصة الرئيسية مع قصص ثانوية وتعتمد الالتفات في السرد دون أن تتخلى، ولو للحظة، عن القارئ الذي يكون قد انسرب في المتاهة التخييلية التي نسجتها له بمهارة وذكاء. لكن هل يمكن اعتبار هذه الرواية عملا سير-ذاتيا؟ تُصرّ نيغار على نفي ذلك حيث بيّنت في حوار أُجرِيَ معها أنه إذا كانت هناك عناصر سير-ذاتية في روايتها فهي تصلح، دون شك، كما في كل نص خيالي، كخطوط كبرى لتسرد قصتها وملحمتها الأسرية وتاريخ إيران. وهكذا تُعِدُّ القارئ، منذ البداية، للأحداث الموالية قائلة: "كل ما أعرفه هو أن هذه الصفحات لا تخضع للتسلسل الزمني. فسرد الحاضر يفرض عليّ العودة إلى الماضي البعيد وأن أعبر الحدود وأن أحلق فوق الجبال وأن التحق بتلك البِرْكة الكبيرة التي نطلق عليها اسم بحر مسترشدة بما نحته الزمن في ذكرياتي من تدفّق للصور ومن تشكيلات حرة وقفزات تنظيمية وفراغات ونتوءات. الحقيقة التي تصنعها الذاكرة فريدة، أليس كذلك؟ إن الذاكرة تختار وتلغي وتبالغ وتقلص وتمجّد وتشوه، مشكّلة بذلك رؤيتها الخاصة للأحداث، ومُقدِّمة نسختها الخاصة للحقيقة: نسخة متباينة لكن متناسقة ومنقوصة لكن صادقة. مهما يكن من أمر، تحمل ذاكرتي قصصا وأكاذيب ولغات وأوهاما كثيرة والعديد من الحيوات المَوَقَّعة بإيقاعات المنافي والموت، وبالموت والمنافي، وإني لا أعرف جيدا كيف أفكّ تداخل خيوطها".

وجهان لبطلة واحدة

تعود الروائيةُ في الفصل الخامس من الجزء الأول من نصّها لربط طريقتها في الكتابة بتقليد إيراني قديم من أجل تأكيد طابعها الفارسي، مؤكدة عبر ذلك أنّ الإيراني ليس من أنصار الصمت ولا الوحدة التي سرعان ما يؤثثهما بأصوات وضجيج، ذلك أنه "لو كان روبنسون كروزوي إيرانيا فسيترك نفسه يموت حال وصوله إلى الجزيرة وبذلك ستكون القضية قد سُوِّيت". يتحدث الإيراني ويروي قصصا متشابكة مع بعضها بعضًا "مثل ماتريوشكا" وتلك هي"طريقته للتعايش مع قدر لم يعرف سوى الاحتلال والنظم الشمولية"، ولعلّ الأنموذج الأمثل لذلك هو شهرزاد ذاتها إذ أن "البقاء على قيد الحياة يتطلّب السرد والحكي والتخريف والكذب في مجتمع كل شيء فيه احتيالات وفساد. مجتمع يمكن أن يتحول فيه مجرد الخروج من أجل شراء طبق زبدة إلى كابوس [...] في حين أن الصمت، حسنا، هو غلق العينين والاستلقاء في النعش وسحب الغطاء".
تقسّم نيغار مادتها الروائية إلى قسمين تُطلِق عليهما: الوجه "أ" والوجه "ب"، مثلما نجد في تسجيلات الفاينيل القديمة حيث يتضمّن الوجه "أ" أفضل العناوين والوجه "ب" أقلها قيمة. لكن لأنها مشاغبة، تختم الهامش التوضيحي بـقولها: "قمت بهذا لأقول لكم إنه توجد وجوه "ب" ناجحة". وتدمج قصتها – هي في الواقع قصتان، قصة "كيميا" الإيرانية وقصة "كيم" بعد أن فقدت انتماءها الشرقي– ضمن تاريخ إيران في وحدة تَبرُزُ فيها التواريخ بوضوح ودقة مثل: 3 جويلية 1971 و21 أفريل 1981 و11مارس 1994. ورغم ذلك يبقى أكثر هذه التواريخ أهمية هو تاريخ الحدث الذي لن نفهم معناه إلا في آخر النص. ولئن احتلّ التاريخ مكان الصدارة في العديد من الروايات الخيالية الإيرانية على وجه الخصوص وفي غيرها أيضا، فطريقة استثماره في روايتنا هذه بالغة البراعة ولا ترهق القارئ في أية لحظة بفضل تقنيات الكتابة المختلفة التي نستمتع بها عند القراءة، وذلك عبر طرائق عديدة منها استدعاء مستمر للقارئ/للقارئة، وتقديم إشارات عديدة محيلة إلى وقائع درامية بالفعل، ولكنها لا تحتوي على مبالغة في إثارة شفقة عديمة الجدوى مثل المقارنة التي تلحُّ على عقل داريوس عندما وجد أن عليه مغادرة بلاده، رغما عنه، صوب المنفى: "كان وجهه حزينا مثل وجه حارس مرمى تلقى ضربة جزاء"، يضاف إلى تلك الطرائق عرضُ مقارنات ممتعة غالبا بين الآداب العامة الإيرانية والفرنسية والتي لا يمكننا بطبيعة الحال ذكرها كلها، أو تسجيل ملاحظات، في أسفل الصفحات، تُذكِّر القارئ، مباشرة، بعدم معرفته لتاريخ إيران وتقدم له المعلومة المناسبة، أو اللجوء إلى استدراكات، أثناء السرد، لكي تُذكّر القارئ بمسار الشخصيات. والشخصيات الثلاث التي وقع التركيز عليها، أكثر من غيرها، في هذا السياق، هي الأب والأم والعم رقم 2 "صادق صدر" الذي تعتبر البطلة كيميا الوريثة الأنسب له لأنه هو مَن علّمها أن الذاكرة هي إعادة تأليف يجمع بين الخيال والواقع، وهي مثله حكاءة، وهي، أيضا، ذاكرة العائلة إذ أن ولادتها كانت في اليوم نفسه الذي توفّت فيه الجدة من جهة الأب "نور" مما يجعل منها حلقة رئيسية في الذاكرة الأسرية.
يحضر في الرواية فنُّ البورتريه ويُسيِّر بإتقان كُلاًّ من التاريخ والقصص. وصورة ذلك، أولا، بورتريه الأبوين الذي يُرسَم على مراحل متتالية وحتى نهاية حياتهما عبر مقاطع بلاغية واضحة مثل داريوس الثائر والمختلف والمنفي، فهو "وحيد وسط الحشد". وثانيا، الفصل السابع من الوجه "أ" المخصص أساسا لتصوير مثلية العم الثاني السرية ومثلية كيميا الموجعة - عندما وصفتها "لايلي" بأنها سحاقية وصفعها "العنف المباغت للحقيقة". وهي مثلية كانت المراهقة قد أدركتها، قبل مغادرة إيران، حين دخلت إلى الغرفة السرية لعمها واكتشفت شذوذه واستنتجت:"نحن متشابهان" وتحملت مسؤوليتها، فيما بعد ضمن القصة الأساسية الحاملة لجملة الأحداث الخيالية.

غربةٌ بين ثقافتيْن

تجدر الإشارة إلى أنه على نقيض العديد من الكتب الفرنكفونية لا نجد، في هذه الرواية، تمجيدا للغة الفرنسية أو لفرنسا. بل يمكن رصد نقد لاذع جدا، أثناء القراءة، للتعلق الإيراني بكلّ ما هو فرنسي. تعلّقٌ يَصطدِم فجأة بواقع حياة المنفى، ذلك أن اللغة الأصلية تظل مرجعا مفضلا، والنطق الإيراني يظلّ علامة تَميِيز تَصِمُ الفرد بدرجات متفاوتة حسب الأماكن والأشخاص الذين يتحدّث إليهم. كما تتناثر في الرواية كلمات أو تراكيب فرنسية منطوقة بالفارسية مما يمنحها بعدا كوميديا لا يمكن إنكاره.
إن رحلة كيمياء الشخصية بين ثقافتين وبلدين ولغتين تقودها إلى التشكيك في مفهوم الاندماج الذي يكثر تداوله في الخطاب السوسيو-سياسي الحالي، وفي هذا السياق تقول الكاتبة: "هذه الندبة التي تتخلل مفرداتي هي تجّملي الوحيد، ومقاومتي الوحيدة إزاء، إن جاز القول، جهود الاندماج التي أبذلها. وأستخدم هذا التعبير، إني حتى وإن تشبعت بالثقافة الفرنسية منذ الطفولة، لا أشعر أني معنية بالمعنى الذي تحمله فعليا، وبما أننا نتحدث عن هذا الأمر، أجد أن هذا التعبير يفتقر إلى الصراحة والصدق إذ يستوجب اللاندماج في ثقافة مّا، التخلص على الأقل جزئيا من الانتماء إلى الثقافة الأصلية أي فكّ الارتباط بها والانفصال عنها ومفارقتها. لا يجرؤ كل الذين يُدْعَوْن "المهاجرين" إلى بذل "جهود للاندماج" على مواجهتهم ودعوتهم للبدء بتلك الجهود الضرورية للانفصال عن موطنهم. إنهم يطالبونهم بالوصول إلى قمة الجبل دون المرور عبر مراحل الصعود". ويُجسِّد الوجه "ب" المخصص للحياة الفرنسية لكيميا هذه الفكرة. إذ أن المنفى المنقذ في البدء ثم المربك في مرحلة موالية، يجعل البطلة تشعر باندهاش يثير الحنق بسبب جهل الفرنسيين لواقع بلادها:"في بداية تلك السنوات الثمانين، لم يكن الفرنسيون يفرقون حقيقة بيننا وبين أنصار حزب الله. كان الأساتذة والتلاميذ يطرحون علينا أسئلة فجّة وأحيانا جارحة تدلّ أساسا على جهلهم [...] في الحقيقة، اليوم أيضا، يصادف أن أواجه ذلك النوع من ردود الفعل فأجد نفسي مجبرة على تقديم شرح حول التاريخ الإيراني المعاصر لكي أبيّن إلى أي معسكر نحن ننتمي."
فضلا عن تلك المراوحة بين عالمين، يتوجّب على كيميا أن تتقبّل شذوذها الجنسي وأن تفكّ شيفرة كل العلامات التي جعلت منها امرأة مختلفة منذ ولادتها عبر تأويل رمزية الجدة إيما وثوب الرضيع الأزرق الذي اشتراه الأب وتواطؤها معه "مثل ابن"-، وهو ما جعل ثورتها تتخذ عدة قنوات ألا وهي الموسيقى والفرار ثم الإقامة خارج فرنسا: "هناك حيث لم تكن تُوجد لا إيران ولا فرنسا. وحيدة ومتمردة [...] منذ ذلك اليوم تغيرت حياتي. رسمت الموسيقى خطا فاصلا بين الماضي والحاضر وبين الطفولة والمراهقة وبين ما كان وما سيكون". وتفصيل ذلك أنه، في الفصل الأول من هذا الوجه "ب"، يُفوّض سرد قصة الهرب من إيران إلى كتاب أم كيميا، الذي عرف نجاحا باهرا في إيران ذاتها. في حين تكشف الفصول الموالية قدر كيميا وقدر والدها داريوس الذي يندرج موته ضمن اغتيال الجمهورية الإسلامية المنهجي للمعارضين في الخارج، فيما بين 1985 و1995، والذي تُوقِّعُه المخابرات الإيرانية عبر وضع القبعة على جسد القتيل. ويختتم الفصل الأخير قَدَرَ "سارة" التي لم تتمكن من تجاوز تلك التراجيديا بعد أن بذلت الكثير من الشجاعة والجرأة في نضالها السياسي. وقد ورثت كيميا من كليهما وعلى وجه الخصوص من أمها ذلك الإصرار الذي نجده في رغبتها في الحصول على طفل خارج الزواج.
------------------------------------------------------------
العنوان الأصلي لرواية نيغار جافادي هو " Désorientale" وهو لفظة منحوتة في اللغة الفرنسية ولا توجد في معاجمها، وتُحيل على وضع المرأة التي لم تعد شرقية ولم تصبح غربية في الآن ذاته. ولذلك فضّلنا ترجمتها بـ"التائهة".

الكتابة سبيلاً إلى التحرّر
لخّصت الروائية مارجان ساترابي (المولودة سنة 1969)، في خلال تقديم روايتها السيرذاتية " بارسيبوليس" محتوى النصوص الروائياتية الإيرانية الفرانكفونية بقولها: "عندما ننال حظ اختراق التاريخ لنا بهذا الشك، وإذا امتلكنا وسيلة تعبير للإخبار عنه أو لقديم شهادة حوله فعلينا القيام بذلك. لن أعمل أبدا على كتاب مثلما فعلت مع «بارسيبوليس» فهو عمل قد أنهكني كثيرا. لقد أجهدت نفسي لأتمكن من أخذ مسافة من الأحداث وأضع بعض الفكاهة في تلك القصة المنفرة". وقد لاقت روايتها «بارسيبوليس»، التي عالجت عدة قضايا تاريخية واجتماعية مثل قيام الثورة وخلع الشاه، والحرب الإيرانية العراقية وتبعاتها على المجتمع الإيراني، وقمع بعض الحريات من قبل النظام الذي جاءت به الثورة الإسلامية، والفارق الاجتماعي والفكري بين الشرق والغرب، نجاحا كبيرا في فرنسا وفي دول أخرى من أوروبا وفي الولايات المتحدة. وهي رواية تندرج ضمن سياق تحرُّريّ أكثر شمولا يضمّ آثارا أدبية إيرانية مكتوبة باللغة الفرنسية تشترك جميعها، إضافة إلى كونها إبداعا فنيا وجماليا، في كونها تمثّل شهادات على العصر، وتفتتح سياقا فرانكفونيا جديدا ينضوي كليا ضمن أدب المهجر. وتطرح هذه الرواية أسئلة حول صعوبة الاندماج في فرنسا وهو أمر طرحته "ماهناز شيرالي"، بدورها، في بحثها الموسوم " بين الإسلام والديمقراطية: مسار شباب اليوم الفرنسي (نُشِر في2007). ولقد زعزعت هذه الكتب، مدعومة من طرف السينما، الكليشيهات والقوالب التي روّجها نظام الملالي حول فرنسا. وهو موضوع كثير الحضور في كتاب "ستيفاني ماران" الموسوم بـ"إيران للاكتشاف– رصد مكانة النساء في بلاد الخميني"، حيث نُلفي فيه تعريفًا بالدراسات البحثية لعالمة الاجتماع الإيرانية "روكسانا باهراميتاش" حول وظائف النساء في إيران المعاصرة.
والظاهر أنّ الكتابة الإبداعية مثّلت بالنسبة إلى المرأة الإيرانية الوسيلة الأنسب لتبليغ صوتها وإعلان مطالبها الاجتماعية والثقافية والسياسية. وقد أجادت الروائية فاريبا هاشترودي (1951) في روايتها " إيران، ضفاف الدم" سرد قصة حياة بطلتها، طبيبة الأمراض النسائية "نرجس" التي تقول: ""في المجال النسائي، توجد ثلاث صفات يمكن أن تلخص علاقتنا بالفضاء الأكثر سرية في العالم وهي العار والفخر والسلطة. سلطة لا يطالها الشك لمَن عَرَفْنَ أن بطونَهن هي صندوق أمانات منيع في المعنَيْنِ الحرفي والمجازي: رحم النساء هو تابوت أسرار العالم منذ فجر التاريخ يحتوي التاريخ المشترك مثلما يحتوي على القصة الخاصة بكل واحدة منا. وأنا نرجس داراني تمكنت من فك شيفرته".
وقد أهدت هاشترودي روايتها هذه، ذات البنية المعقدة جدا، إلى كل الإيرانيات بشكل عام وخاصة "إلى الأمهات، وإلى آلاف المقاومات اللاتي عُذِّبن وأُعدِمن، وإلى المواطنات من الديانات الأخرى، وإلى الشابات، وإلى الجدات، وإلى النساء المرجومات، وإلى المدافعات عن الحرية، وإلى كل من قُلْنَ لا للتعصب والهمجية". والرواية إذ تحمل القارئ في دوامة من الرعب والعنف والحب والتضامن، فإنّها تتكلم نيابة عن جميع النساء المضطهدات اللائي هاجرن إلى الخارج. ينهض السرد في هذه الرواية على حكاية البطلة "فاري عشق"، الفتاة المنفية بسبب مواقفها السياسية، والتي تسعى إلى معرفة الأسباب الحقيقية لموت أمّها في طهران، وهذه الجُزَيْئة الحدثيّة مأخوذة بالفعل من السيرة الذاتية للروائية نفسها، حيث تبوح فيها بحياتها الخاصة، وتكشف عن أفكارها الشخصية، وعن مخاوفها. وقد جعلت "هاشترودي" من هذه التفصيلة رواية شذرية مدمجة ضمن أحداث الرواية العامّة، وهي عبارة عن نص مرسل إلى "تادجيك"، التحري الخاص، لكي يقوم بتحقيقاته وكشف حقائق وفاة والدتها. ولئن كان التنديد، في رواية " إيران، ضفاف الدم" جماعيا فإن صوت الـ"أنا" يطغى وسط نساء أخريات لا يمكن نسيانهن مثل السيدة "عشق الأم"، و"زهرة خانوم"، و"عذرة" ابنة هذه الأخيرة وأم تاجيك، و"مانيا"، وابنة الجنرال "فو كياني"، وابنة تاجيك المعاقة، و"نرجس" طبيبة الأمراض النسائية المحرضة على الثورة، و"غاليا" قريبتها الجميلة. وفي هذا الشأن تُسجِّل البطلة "فاري عشق" في دفتر يومياتها سؤالها التالي: "كيف نشرح عبر الكلمات أسرار نساء إيران اللائي يتقاسمن مع أخريات كثيرات شرورَ عالم بصيغة التأنيث؟".
جمهوريّة الخَيَال
بعد عامين من ظهور رواية فاريبا هاشترودي، ظهر النص الروائي الأول لكاتبة أكثر شهرة اليوم وهي شاهدورت دجافان (مولودة في عام 1967) والموسوم بـ"أنا آتية من مكان آخر" وهو عبارة عن "جملة من الشذرات المكتوبة تؤرّخ لحياة شابة إيرانية ثائرة بسبب عنف النظام الاسلامي الذي أرساه الخميني في عام 1979". وفي العام الموالي، وفي ذروة "قضية الحجاب الإسلامي" في المدارس الثانوية الفرنسية، نشرت الكاتبة شاهدورت دجافان كتيبا نقديا عنيف اللهجة مناهضا لارتداء الحجاب عنوانه "ليسقط الحجاب" وقالت حوله في تقديمه:"ارتديت الحجاب لعشر سنوات. كان أمامنا إما الحجاب أو الموت. أعرف عمّا أتحدث". وفي سنة 2006 نشرت، أيضا، كتابها : كيف يمكننا أن نكون فرنسيين"؟ وهو عبارة عن حوار طويل وممتع مع مونتاسكيو وفرنسا وأدبها ولغتها، وينقل التجربة الأليمة للمنفية المجتثة من جذورها، ولمحنة تعلم لغة شديدة البعد عن الفارسية. تفسح الصياغة السير-ذاتية في رواية أنا آتية من مكان آخر" لحضور الخطاب الهجائي، وفي الكتيب الثاني اختارت شاهدورت دجافان أسلوب السيرة الذاتية المُقنَّعَة بما أن الشخصية التي تستعمل ضمير المتكلم "أنا" تدعى روكسان خان، ويذكر اسمها الأول أثناء حوارها مع مونتسيكيو، أما لقبها العائلي فيشير بنمطيته إلى خصوصيتها الفارسية.
يتحتّم علينا، أيضا، ذكر روايات "أزار نافيسي" (المولودة سنة 1955) ضمن هذا الجرد، رغم كونها غير مكتوبة بالفرنسية بل مترجمة عن الإنجليزية، لأنها من الروايات المقروءة بصورة كبيرة في فرنسا. ومن بينها رواية "كيف تقرأ لوليتا في طهران" الصادرة سنة 2004، والتي حازت على جائزتين أدبيتين. وهي رواية تمتلك خاصيات السيرة الذاتية المتحيِّزَة أو ربما "المذكرات" إذا ما تبنينا التعريف الممنوح عادة لهذا الجنس الأدبي وطبقناه عليها باعتبارها تقدم شهادة شاهد عيان فريد حول تاريخ عصره ومجتمعه. وهذا هو، بالفعل، ما فعلته هذه الأستاذة في الأدب الأمريكي والتي بعد أن استقالت من خطة أستاذة جامعية في طهران لعدة أسباب من بينها فصل أول من الوظيفة وبقاء لعدة أشهر دون عمل، قررت عقد ندوة أدبية في منزلها مع سبعة طالبات مختارات ومتطوعات. وبذلك شكّلت جملة قراءاتهن، التي تبادلنها وردود أفعالهن إزاءها، مادة الكتاب. وقد ذكرت فيه، من بين العديد من العناوين الأخرى، الروايات التي فضّلتها المجموعة وهي "لوليتا" للكاتب نابوكوف، و"جاتسبي الرائع" لسكوت فيتزجيرالد، و"ديزي ميلر" لهنري جيمس، و"فخر وتحامل" لجين أوستن. ويكشف تحليل هذا النص أنه، إضافة إلى عدم التزام "آزار نفيسي" بالتسلسل الزمني وانتقائها للوحدات الحكائية المحمَّلة بالمعنى فقط، فهي قد اختارت منهجية مختلفة تسلط الضوء أكثر على واقع النساء والشابات وعلى طالباتها وتجربتها الخاصة. أما الموضوع الأبرز في هذه الرواية فهو قدرة الأدب على مساعدة المرء في الحفاظ على حرية التخيل رغم قيود الحكم الشمولي. وهو أيضاً المسار البطيء الذي قاد "آزار نفيسي" إلى المنفى بعد عودتها طواعية للتدريس في طهران سنة 1979. في عام 2016 ، نشرت هذه الكاتبة "جمهورية التخيل"، حيث واصلت فيه الدفاع عن قوة الأدب. ولقد أصابت فلورنس نويفيل التي قدمتها في "لوموند" في العاشر من يونيو / حزيران حين خلصت إلى أن" في العمق، ما تريد "آزار نفيسي" قوله لنا هو أنها اختارت بعد إيران والولايات المتحدة الحصول على جنسية ثالثة وهي تلك التي تمنحها "المعرفة التخيلية" والخيال. فمن منظورها، "جمهورية الخيال" هي الدولة الوحيدة الصالحة للحياة لأنها الوحيدة التي لن يحرمك فيها أحد أبدا من جنسية مشتهاة".
يستحق أثر أدبي آخر، مصنف ضمن الشهادات على العصر، الذكر، هنا، نظرا لقوة المساءلة فيه وغزارة معلوماته حول القمع في إيران. إنه كتاب "كراس عزيز" لشووارا ماكاريمي (مولودة في 1980) وهو دفتر اكتشفته الكاتبة عام 2004 ويحتوي ذكريات جدها، "عزيز زاري"، المختفي قبل ذلك بعشر سنوات. ظهر هذا الأثر الأدبي سنة 2011 وقد كرَّمت عبرَه هذه الكاتبة جدَّها المناضلَ الذي تعذب بسبب اعتقال ابنتيه وزوجته وخالتها. وشووارا هي ابنة فاطمة التي أعدمت في عام 1988. ويضم الكراس رسائل كتبتها السجينتان وتتخلله عدة تفاصيل تأريخية. عبر إعادة تأليف كل تلك العناصر المتفرقة، تجاوز هذا الكتاب بكثير صفة كونه مجرد شهادة توثيقية.
يجب، أيضًا، ذكر العمل الذي أنجزته "ناحال تاجادود (المولودة عام 1960) حول الثقافة الفارسية ، مواصلة بذلك عمل أسرتها التوثيقي، وفي ما يتعلق بموضوعنا هنا، يجب الاشارة إلى رواياتها الأربعة، التي صدرت آخرها بعنوان "الذرائع البسيطة للسعادة"، عند جان-كلود لاتيس في 2016. وقد فازت بالميدالية الكبرى للفرانكفونية في عام 2007.
بعيدا عن وطنهن إيران، و"مندمجات" على الأقل في المشهد الأدبي والاجتماعي الفرنسي، تشارك الكاتبات اللاتي وقع الحديث عنهن في هذا المقال، إضافة إلى غيرهن ممن لم يتسع المجال لذكرهن، في الملحمة الأدبية الفرنسية المعاصرة نظرا لثراء ثقافتهن وبسبب ما في تجاربهن الشخصية والاجتماعية من سعادة وبؤس وعنف، كما قدّمن للقارئ روايات تَعتبِر الأدب فضاء لرفض الانمحاء ولإثبات الذات ومكانا للعبة البناء اللغوي لأنهن، بكل بساطة، قد تبنين تلك "المواطنة الثالثة" الأثيرة لدى "آزار نفيسي" وحوَّلن تاريخهن وتاريخ بلادهن الفريدين إلى خامات إنسانية وجمالية يشترك فيها البشر جميعا.

دمتم بخير








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا