الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جمالية ورَمزية زَوايا النَظر رقشٌ ب» ذاكرة الأسامي « للقاص محمد الفشتالي

وديع بكيطة
كاتب وباحث

(Bekkita Ouadie)

2020 / 12 / 31
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


تُعتبر ذاكرة القص على مر التَاريخ مَصدر تَرميز وإيحاء، يَعتمد أسلوبه على الصَّفاقة، قوة النسج وتكثيفه، وهو فن يرتبط قديما وحديثا بالحِكمة، لا يَسْبِرُه إلا نَبْرٌ خَبِرَ الحياة وتمَقَلها، فنٌ يَصعبُ إيجادهُ، نصوصه من النُدرة، وكُتابها أغلبهم بعيدون عن أضواء البَواري؛ وتُعدُ تجربة القاص محمد الفشتالي من التجارب التي اختصت بالقصة دون سواها، وأعطت فيها الكثير، وهو مُلَمِقُ قطار المدينة، وذاكرة الأسامي، وهي حقلُ هذه المقاربة.
تحتوي المجموعة القصصية على العناوين الآتية: مترجم أعمى، تلفريك المدينة، ذاكرة الأسامي، الرجل الأفقي، الرفع والنصب والخفض، البطاقة، مدينة النحاس، مأتم سيار، المايسترو، لاحلم، مقامة طارئة، رواية رأس الغول، الرقم العرقوبي. وهي بوابات أدغال السرد، الذي سنتبيّن من خلال مقاربته حدود العين وتراميها وأبعادها، وأهم الأطر المرجعية التي يستند إليها القاص عند الكتابة.
شِعْرِية زَوايا النَظر
تُشكلُ العَيْنُ مَصدرَ خِبرَةٍ بالعالم، فالإنسان كائن بصري، يَعِي ويَصُوغُ عَوالمهُ من خلالها، وهي أرهف إحساسا بعالم الأشياء، وتَتسق مع أعظم النصوص المؤثرة في التاريخ ، وهي الخالقة للاستعارة والجَميل؛ ويَتمحورُ نصُ ذاكرة الأسامي حول هذه البؤرة، العين، بِبُعدها الحِسي والمُدرك:
»اليد كالعين حركتها لا تهدأ؛ ترى أشياء العالم الخَشنة والناعمة، لما أقول ترى؛ أعني أن الاكتشاف يَكون أدق من البصر، لأن العين ليست دقيقة... « .
تُؤطر هذه العبارات، ما يَزخمُ به النص من كيفيةِ وهيآت النظَر، التي تُمثل اكتشافاً وتَبَصُر يتجاوز حس البصر، ينتقل القاص فيها من حالة الحسي الملموس إلى حالة التَجريد والمُدرك منطقيا، يتصورُ الأشياء ويُراعي الكَائِن والمُمْكِن في ظل شِعرية لُغوية تُوازي حالات السارد؛ السُخرية، التهكم، السُخط...الخ.
تَعْرِفُ العَيْنُ فعل إثراء، تَصيغُ المعنى بحَكَمِيَة، وتَنقلُ وتتمقل المُدرك، تتَوزع داخل صفَّاقة القص وتَزيدهُ إخصاباً، وتُوحي هيآتها بالقصد، ويكشف اختلاف المُفردة من مقطع لآخر، اختلافا في الدلالة والتصور، ويتأنَّى المعنى استناد لوضعتها، فهي النانو المُحرك للنسيج، تُغير لون حالاته، وتَهزُ أرباضَهُ، وتَترك للمُتلقي البَيَاض المُطوِح .
»أتَلفت، تَلفتَ، ألتفِت، يَلتفِت؛ لراء، سترى، أرى، رأى، رأيته، فرأى، أراها، نراها، أراني، يرني، رأيت، ير، رأيتني، ترى، يُرى، يرى؛ النظر، ناظري؛ أُقَلب؛ بصري، الأبصار؛ يرمقني، نرمقهم؛ فحصها؛ أطل، يطل؛ استرقت؛ مرمى نَّظرك؛ ترنوا، رجمته؛ الناهبة، انسابت، تتملى، خلسة، قلق، فتح، تلتم، تذرف، يضع، حل، جحظت استدرت، تلتقط، النشيج(أنظر ما ورد لدى الثعالبي من دلالات )«.
يتكوثُ العنوان ـ ذاكرة الأسامي ـ مع هذه الرؤى المُتجددة والمتنوعة للنَظر عبر النص، ويَتَوافق الكثُ الذهني مع تَعددُ الأسامي، فالذاكرة حُمولة وشُجون من الأسماء والأهواء والفضاءات، والاسم نَفسُهُ هُوية وكِناية عندَ تغييره عن تناسُخ وتَجدُد وخلْق؛ إنه سرد عن الهويات المتعددة بمِنظار الكشف، الذي يتبع أدق التفاصيل عن شخوصه، ويُبَئِرُ اللحظات لتصير كثاً دلاليا ورمزياً؛ جداول صور، وجنائن استعارة، وحدائق إشارات، يُفصح من خلالها عن خبرته ورؤيته للعالم؛ يَرقُصُ النص، تَهتز خَلاخيله وسَط دائرة الفُرجة، ويَصِيرُ بدل المُضْحِك هُو الضاحِكُ، تَقريره إيحاء، وإيحاءهُ تَقرير عن فضاعات الوجود والحياة الفَسولة، تؤطره نظرة متصوف بعينِ القُطبِ.
وترد هذه الأفعال بمعنى التأمَّل والتروَّى أي الإدراك العقلي، وبمعنى النَظر الحسي، وتؤشر الصيغ المتعددة للفعل نفسه، عن لعب اللغوي، تُستدعى فيه جميع الشخوص لتَتَحَدث الدلالة برمزيتها. يظهر السارد في النص بعين الفوتوغرافي؛ يلتقط دقة الإيماءات، يُجمل زوايا النظر، ويَسِّحُ مفرادته، ويُلمِح إلى هذه الخسارة التي تعرفها عوالمه القلقة، تَغيب أسماء الشخوص لديه، وتَظهرُ الملامح والفضاءات؛ يُجيد تَكليمَها، ويتَفَنَنُ في السخرية منها.
سُخْرُ العَوالِم
تدلُ السُخرية على فعل يَسبق من المسخور منه ، وهي إحدى الأساليب المُمَوِهَة، تشتغل على تقريرية اللغة وتُوحي بالمضمر، المسكوت عنه، وتكشفُ زيفَ طيف من المسكوكات والقوالب، التي تُجمل الحياة الاجتماعية. ويبدو دالُّ السُخر أنه يدلّ على شيء، ونعلم من دالٍّ آخر أنه يدلّ على شيء آخر ، فهو نقيض ما يقررهُ السارد، مبَايّن لأفكاره ومشاعره، ومُنافٍ للواقع الخارجي.
" » هنيئا لنا ولكم بهذا الإنجاز التاريخي. صدقوني: إن أحد المتنفدين في مدينتكم قال لي بالحرف: هذا إنجاز القرن. لقد صدق فعلا. إن مدينتكم انتقلت إلى مصاف المدن العالمية ذات التراث الإنساني. يا له من إنجاز عال في فضائه وإبهاجه !
فهنيئا لنا بأراجيحنا العالية «.
» إن مدينتنا العزيزة ـ أيها الكريم ـ هي مدينة النحاس. نعم مدينة النحاس، وهذه حقيقة عارية لم يعد عليها غبار ».
»تُحيون المدينة من علٍ في طواف يستجلي أملاك معالمها: باب الجمعة بسلمها الحجري، سلسلة أسوار باب الريح، أين تتوالد دورات الرياح والعواصف، الجامع العتيق بأبوابه التسعة، باب الزيتونة اسم لذاكرة الأشجار، المشور الفسيح ببواباته القديمة، باب الشريعة حيث ساد تاريخ العدول، ثكنة البستيون تاريخ للمدافع، بوابات، أسوار، حصون، قلاع، أبراج، مراصد، أضرحة، حمامات، فنادق، أفران، مداخن، أزقة ضيقة، دروب متعرجة، سقيفات...تجيبكم أزقتها زقاقا زقاقا عما تنتجونه من سؤال حولها، فهي من عل جلية عارية لا تكتم سراً ».
» فالمرجو منك، أو ممن عثر على أي شيء يمكن أن يسعف به هذه الأبحاث، أن يتفضل بإرساله على العنوان التالي: عبد الله الباحث عن المدينة الضائعة ـ ص ب: ألف وواحد ـ البريد المركزي ـ مدينة النحاس الجديدة ـ الشمال الشرقي. وسيكافأ كل مساهم بما يعادل كيلوغرام نحاس أصفر خالص عن كل إسهام، مع كامل الامتنان والعرفان والسلام. وحرر يومه السعد بخطه وإمضائه ».
تروحُ عوالم القاص بفضاءات المدينة العتيقة تازا، يخاطبها بتَرَوٍ مثلما يُخاطب أمه، يُنصتُ إلى أوجاعها وتَرَهلاتها وهَنِينِها، وهي تحتَ مطارقِ البغثاء، ويُذكر مُتلقيه بتاريخها واسمها والمَحكي من الأساطير عنها، فهي كون رمزي للأم الكبرى، حضارياً وثقافياً، يُشطب أزقتها وحراتها وبنيانها حِبْراً، لأنها عوالم افتقدت، تَعودُ به إلى بدايات الطفولة المرتبطة بها، ولأنه هُو هُو نسي أن يكون شيئا آخر دون هوية، فكان هذا الفضاء الحميمي هُويته.
وللهوية حظ الارتباط بالأفضية العتيقة كما لدى كتاب عالميين؛ يَترك الشاعر الإيبيري الأمريكي لويس لورنس تورس لخياله أن ينهل من ذلك العالم الرحب الذي شكلته الأندلس، لتكونَ ثمرتُه قصيدة "الحمراء". ويقول غارثيا لوركا عن العجائب المعمارية بالأندلس، إنها "جدرانُ الشِعر الشهيرة"، ويُشير الشاعر النيكاراغوي روبن داريو في كتابه "الأرض المشمسة" إلى مَالَقَة باعتبارها جزءا من ماض عربي: "إنْ الموروث العربي موجود في كل مكان: في وجوه النساء، في صور الشعب، في شبك النوافذ وفي صياح الباعة الجوالين الحلقّي"، "يسكن البيوت القديمة نفسها، الضيقة وذات الأدراج والمتدرجة، يطّل أناسٌ من أعلاها على الميناء العريض"، ويصف مسقط رأسه، قرية ليون، كمدينة ريفية أندلسية، "يغطّي القرميدُ العربيُ الثقيل الأسطح "... ويبدو أنّ تحويل التجربة إلى مَرويات، سمة أساسيّة في سَعي الإنسان إلى صناعة المعنى .
ويستقر الإيحاء لدى القاص على إثارة انتباه المتلقي، يشرِكهُ في العملية رغماً عنه، لأنه مقصود كذلك بهذه التفاعلات، التي تجري وتمسخُ ما تبقى من الذات، فالمدينة العتيقة بالحالة الموصوفة، هي كناية عن الضياع والتشرد وموت الإنسان وانقلاب القيم.
انقلاب القيم
يوازي نظام القيم الاجتماعية والثقافية باقي الأنظمَة الأخرى من لَبَّس وأطعمة وأشكال معمارية... ويُخلف اندثار أحدها زوال قيمة ما، والقيمة هي مجموع الرمزية التي يحملها الشيء في ذاته، والمُعطاة له عبر سيرورته زمنية. يسترجع السارد فضاء المدينة العتيقة تازا، ليس باعتباره مادة، بل للقيم التي تُمثله؛ المحبة، التآخي، الحميمية... وهي قيم نادرة، ويعد الاشتغال على فضاء تاريخي عملا في الوقت نفسه على القيم الكونية.
» برهن مستدلا بالشواهد ومستعملا الموضوعات المناسبة: أن العلاقات البينية هي "مأرب لاحفاوة"، وأن "الأفقي هو نسيج وحده" ».
يشتغل السؤال البرهاني داخل الفص باعتباره محركاً مُجددا في البنية، وهو تقنية غير معتادة، من شأنها إرباك المتلقي وإشراكه في الموضوع، يُطرح من أجل البرهنة على مسلمة، كون العلاقات البينية؛ هي تَوازن سيكولوجي بين الأفراد، وتقرب من أجل المصالح، وليس محبة، وتُزجُ خبرة المتلقي لاستكمال البرهنة بما تراه مناسبا من تجاربها.
» إن الإنسان هو أحدث ما أنجبته الأرض. فكيف وصلتم إلى كل هذا الدمار في زمن قياسي؟ ».
» المواعد في هذا الزمن البذيء غير ملزمة ».
تكشف هذه العبارات حجم تذمر القاص من الإنسان، الذي يُعرف بحسب قاموسه، بكونه: حيوان مُدمر، حيوان غير ملتزم بالمواعيد... تنسجم هذه التعريفات مع هذا الانقلاب الذي عرفته عوالمه، فالناس جزر معزولة في أرخبيل، ومعابر المدينة الموحشة، غابات الاسمنت... إنه تصحر قيمي، يرفض الكاتب أي تماسٍ معه.
محاورة التراث
تُستمد صفَّاقة الفصوص لدى القاص من هذا الحوار المتأنّي والجذري للتراث العربي، خاصة الآداب والتاريخ... ويصعب دون فهم المرجعيات التعامل مع مثل هذه النصوص، نظرا للشجون الذي تعرفه معها، فالنص في الكثير من المواقع هو حوار وجدل مع حكماء الماضي، رمزا، ويوضح الفص المستهل به ذلك:
جئت للدنيا أعمى، هكذا شاء القدر، أحببت منذ ولعي الأول بالمدرسة ابرايل، ثم أبا العلاء فيما بعد، فهما صنواي .
جاء في فص آخر:
كان القاضي شمس الدين بن شهاب الدين؛ مانفك يضبضبني بالأسماء، مذ أفضت يد فضول جارف إلى وفيات الأعيان .
يشكل هذا الاحتفاء بالأسماء والنصوص التراثية؛ ابو الفرج بن محمد بن اسحاق الوراق، المعروف بأبي يعقوب النديم البغدادي مؤلف الفهرست، ومقامات الحريري، والمؤرخ أبو الحسن المسعودي صاحب مروج الذهب ومعادن الجواهر...الخ، أحد أعمدة هذه التجربة، التي تنفلت لدقة مرجعياتها من الرؤية الأرسطية، بِداية وعُقدة ونِهاية، وتفتح آفاق السرد القصصي على بُنى أخرى، تُغيبُ الشخوص، توحي وتُرمز، وتستدعي ذخيرة المتلقي.
تعمل جل هذه التقنيات على تطوير البنية السردية، وتُجيب عن سؤال التجريب في علاقته بالتراث، وتؤكد على أن فعل الإبداع، ينطلق من الماضي، الذي يحوي إجابات عن أسئلة الحاضر والمستقبل، فأزمة الهوية، هي أزمة منهج في تعاملنا مع جذورنا التراثية والإنسانية.
إن ذاكرة الأسامي، هي رفض لهذه العشوائية التي نعيشها، مُراجعة للأسماء والمسميات، رؤية ضمنية مغايرة للحياة باعتبارها فن، زَوايا نَظر جمالية ورَمزية، تمرد إبداعي على كِلسِ الكتابات وهَترها، إقامة تخص القاص خارج أسوار المدارس والأنسقة الأكاديمية، مما يجعل العمل ينفتح على مقاربات أشد حداثة ودقة.
مرفق بالمصادر والمراجع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكونغرس الأمريكي يقر مشروع قانون مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا


.. لازاريني: آمل أن تحصل المجموعة الأخيرة من المانحين على الثقة




.. المبعوث الأمريكي للقضايا الإنسانية في الشرق الأوسط: على إسرا


.. آرسنال يطارد لقب الدوري الإنجليزي الممتاز الذي غاب عن خزائنه




.. استمرار أعمال الإنقاذ والإجلاء في -غوانغدونغ- الصينية