الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سحر البلاغة وعذب الكلام في قصيدة - خرف- للشاعر كامل حسن الدليمي

غانم عمران المعموري

2021 / 1 / 1
الادب والفن


تلك قصيدة ألقاها في مهرجان سقراط المنصورة. بقلبٍ يُقطر دماً وألم قابع بين الأحشاء فهي فيض معرفي وفكري نابع من وجدان حيّ عاش المرارة والظلم والجور بين دكتاتوريات مقيته وديمقراطية مُحرفة ومتسترة بلباس التدين.. قبل الولوج إلى روح وجسد القصيدة لا بد من معرفة من سمع وشاهد والتقط كل صغيرة وكبيرة بعين صقر شامخ في مجتمع مليء بالتناقضات والتضادات والغرائب والنوادر والطرفة المضحكة المُبكية، حيث يكون فيه العاقل والشريف فقير ومجنون وخرف، بينما المعتوه والزاني والسارق والقاتل والمرتشي والمحتال هو العاقل عند التافهين, فعند الاستمتاع في كلمات ومعاني تستهوي القلب فلا بد من معرفة الأسباب الكامنة الّتي وَلّدت ذلك الشعور لدى الشاعر وما كان يُعانيه من ظروف نفسية واجتماعية ومن هموم خاصة تحيط به وعامة تخص المجتمع الّذي عاش وترعرع فيه فهي ليس كلمات سُطّرت على ورقة وإنما نزف روحه على بياضها فيخرج من المألوف إلى اللامألوف ومن مرحلة اللاوعي إلى مرحلة الوعي ...
أدهشتني عنونة القصيدة "خرف" باعتبارها الوهّج البصري الأول الّذي يستثير مُخيّلة القارىء ويوقظ شعوره من السبات إلى الحيّوية المفعمة بالتفكير والتأويل والتحليل ليّكون انطباعه الأولي على ما يُّمكن أن ترد عليه تفاصيل القصيدة وما تتضمنه من دلالات ومعاني واستعارات وانزياحات وتضادات... (... في حين نجد عنونة النصوص الشعرية الأفقية غير المشطرة الواقفة متقنة بحرفية شاعر مبدع يحيل الأرض اليباب إلى حدائق غنّاء لا سيما ما كان منها مختزَل الجمل والكلمات المرصوفة في متن كتلوي متسق البناء تصاعدياً باختزالهِ وسيميائية رمزيته غير المبعثرة بل تتصف بنسق منتظم متزن القدرة بمثيرات طالما تستهوي القارىء وكثيراً نراه يبحث عن مثلها ما يفسح مجالاً أكثر للناقد في التحليل1
. "خرف" يُريد بها الناص بُعْد فلسفي ونفسي واجتماعي غير ما تم حصره من تعريف في ويكيبيديا من أنَّ الخَرَف أو التدهور العقلي أو العتاه وهو تدهور مستمر في وظائف الدماغ ينتج عنه اضطراب في القدرات الإدراكية أو بمعنى معجمي كما في معجم الغني الّذي يبين " خَرَفٌ خَرِفَ الرَّجُلُ : أتَى بِكَلامٍ بلا معْنىً بسَببِ كِبَرِ سِنِّه أوْ فَسَادِ عَقْلِهِ ... وقد يصيب الشباب من زهايمر وغيرها من فقدان العقل وإنما جاء اختيار العنوان بنسق وانسجام مع ما يتضمنه النص وما جالت به مخيلته الّتي بُنيت على ارهاصات نفسية واجتماعية داخلية وخارجية وتأمل ... " العنونة جزء من المثيرات البصرية غير آثارها الدلالية .. فالعين هنا تندهش بإثارة العنوان لها قبل الدخول بالتفاصيل اللاحقة في المسافة التي ستمتلئ بالمعاني والرموز السيميائية ومختلف الدرجات النصية"2. وكذلك يرى جميل حمداوي إن العنوان ( مفتاح تقني يجس به السيمولوجي نبض وتجاعيده وترسانته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي)3. وبذلك فلا بد من عدم التقييد بما سارت عليه المناهج البنيوية في تحليل النص حيث أن البنيوية ترى النص عبارة عن شبكة من العلاقات اللغوية بين فعل وفاعل والجمل الأسمية وبنية الكلمة والمعاني المعجمية والتي تعترف بالنص فقط ولا تعترف حتى بالكاتب الذي عانى في كتابته الابداعية وتُقْصي الإنسان فكيف لنا أن نهمل الشاعر فمثلاً كيف لنا أن نُقْصي الشاعر بدر شاكر السياب عندما كتب قصيدته " لك الحمد" وكان يتألم من شدة المرض والمعاناة التي استمرت معه فترة طويلة وأن تلك المُعاناة هي الّتي أنتجت كلمات القصيدة بروحية نابعة من قلبه ومزقة أحشاءه حتى خرجت إلى أرض الوجود في حين يرى الباحث سعد الساعدي في كتابه نظرية التحليل والارتقاء "أنَّ المؤلف هو موظف عام يعمل لدى الإنسانية بما ينتجه من انبعاث ابداعي مستمر طالما يشتغل بوظيفته لحين احالته على التقاعد أو لأسباب ظاهرة تخرجه عن تلك الوظيفة كالمرض العضال أو الموت المفاجئ لكنه يبقى ذا أثر فعال بما ترك وراءه من أعمال لا يمكن نسيانه وبذا فهو حيّ لن يموت عبر المسيرة الزمنية". وبذلك فأن الشاعر الدليمي ينطلق من الذات الخاصة إلى العموم لإصراره على التحرّر من قيّود العبودية المقيتة الّتي تجعل من الأعراف والتقاليد والأفكار الغير مُسندة حجر عثرة أما مبادئ الإنسانية التي أرادها الله سبحانه وتعالى وليس ما يدعيه من يجعل من الدين مطية لتحقيق مآرب ومنافع شخصية بغية سرقة قوت الشعب والتلاعب في مشاعرهم عن طريق زَّج سموم الأوهام والخرافة بين المغفلين والسُذّج وهذا أشار إليه بقوله ( صدقت أكاذيب السفهاء الأمة من فجر التاريخ جهالة طفل ومزاعم حمقى) بالإضافة إلى استخدم انزياحات لغوية لها دالات ومعاني بأسلوب يدل على نمطية وطريقة وحرفية الشاعر كما في ( وسرير أعرج, يغزل للكذب عباءة, كوني مشنقة غرورك , أو مدية حانق, أن الشرف جواري تحت السلطان,) فمن خلال اللغة الشعرية الّتي يتمتع بها الشاعر من خلال امتلاكه لإنزياحات ودلالات واسعة المعنى داخل فضاءاته المعرفية والثقافية الرحبة وابتعاده عن نمطيات القصائد الكلاسيكية التقليدية وإنما الانفتاح عبر مجساته الفكرية ليشق لنفسه طريق خاص وبصمه تفرد بها من خلال تمرده على الواقع السوداوي ويرفض كل أشكال الاستعباد والعبودية الفكرية والسياسية وغيرها من قيود كما في : آه .. أيتها الأمارة
كوني مشنقة غرورك
أو مدية حانق
حيث أنه يمتلك من الشجاعة والجرأة عبر مسيرته الابداعية وفي قصائده الأخرى حيث أن المتتبع لها يجد طابع الألم والثورية ضد الظلم والطغيان وجلد كل مظاهر الفساد حاضرة بصورة جليّة ومتربعة بين ثنايا حروفه وخروجه من المألوف والمُعتاد فهو عن طريق الانزياحات اللغوية الّتي يستعملها في قصيدته يعطي النص حيوية وحركة ديناميكية وموسيقى بنغمات هامسة رقيقة ذات الطابع الصويري الرائع... كما أن الشاعر لجأ إلى التضاد الشعري البلاغي في
" هو يخطئ وأنا أستغفر
هو يثمل وأنا أترنح تحت جهنم
هو تطوى له الأرض ليواقع حواء" ..
عليه فإن هذا النص قد تكامل في غاياته من حيث اللغة والمعنى والجمال وفي رسالته الابداعية الّتي يبغي الناص إيصالها للمتلقي من خلال المجاز اللغوي والايحاء بأسلوب سهل يُحاكي الواقع وأترك للمتلقي مساحة للتأويل وتأمل المعاني من خلال النص الكامل للقصيدة وأتمنى للشاعر كامل الدليمي المزيد من التقدم والابداع في مسيرته الأدبية
"خرف"
أني آمنت بما أقرأ
وشكوك توشك أن تخلع رأسي
صدقت أكاذيب السفهاء
الأمة من فجر التاريخ
جهالة طفل ومزاعم حمقى
والحكمة كانت جوفاء
لا تعلو فوق نخيل الجدب
ولا تعتد بنمل الأرْض
قالوا لي :
وأنا أطرق باب الريح
يوماً ستصير بساط
وعلى زنديك تنام الحور
ويهز نسيج بياضك حلاج
وحولك شرنقة حرير
وسرير أعرج
ويدس التيه بعقلك شاعر
وبأصابعه يغزل للكذب عباءة
فتقمصت الدور المزعوم
لبست قناع العارف
وتجببت بتقوى الورعين
جلست افرق خمرا للفقراء
لكني عدت بلا نشوى
في أذني أغنية مومس
واقعها سمع الغرباء
كانت ثيب من غير بكارة
آه .. أيتها الأمارة
كوني مشنقة غرورك
أو مدية حانق
يوعدني بالفرج الناضج
بعد الخمسين
وبالفرح الغامر
تحت وسائد موتي
يوعدني...
مغفرة لخطايا جدي المعتوه
هو يخطئ وأنا أستغفر
هو يثمل وأنا أترنح تحت جهنم
أحترق كقش كي يسلم
هوتطوى له الأرض ليواقع حواء
وأنا تهرب من وجهي
متردية ونطيحة
خرف كنت وما أدري
أن الشرف جواري تحت السلطان
والشرف
عصارة سفه في كأس مثقوب
ومضغة قات بفم الكسلى
وروايات مسندة لمسيلمة
الحالم بنبوءة.

المصادر
1.سعد الساعدي – نظرية التحليل والارتقاء – مدرسة النقد التجديدية -تنفيذ الانجاز طباعة وتصميم (المتن) العراق – بغداد -2020 ,ص 163.
2. مالك المسلماوي، البياض في شعر عصام عيّاد تقديم باقر جاسم محمد / منشورات قرة العين, بغداد/ 2014/ ص32.
3. السيمولوجيا والعنونة ، د. جميل حمداوي ، مجلة عالم الفكر, م25, ع3, 1997:96,ص96.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81