الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيروس كورونا والبعد الطبقي!

منذر علي

2021 / 1 / 1
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


منذ زمن الأنفلونزا الإسبانية سنة 1918 التي أودت بحياة 50 مليون نسمة، راجت فكرة مغلوطة لسنوات طويلة، وتغلغلت في الذاكرة العامة، مفادها إنَّ الجائحة محايدة، Neutral، وهي تشمل الناس عشوائياً، دون تفريق، Indiscriminately، فتصيب الكبار والصغار، سكان الحضر وسكان الريف، المرضى والأصحاء، الأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، السود والبيض.

أ‌) هل جائحة كورونا حقًا محايدة تجاه البشر؟

والسؤال هو: هل جائحة كورونا محايدة تجاه الشر، وهل هذه الفكرة الرائجة التي تعرضَّنا لها للتو صحيحة، أم أنها هي الأخرى جائحة فكرية تهدف إلى اغتيال الوعي؟ لنتفق أنَّ الجائحة بحد ذاتها لا تفرق بين البشر، ولكن النظام الرأسمالي يفرق بينهم، ويجعل البعض أقل عرضة للإصابة بالوباء، ويجعل البعض الآخر أكثر عرضة للإصابة بالموت، ثم يروج للأكاذيب القاتلة عن الحيادية والبراءة الزائفة. وأعني أنَّ المرض ينتشر على نطاق واسع، ويفترض أنْ يصيبَ كل الفئات الاجتماعية في المجتمع الإنساني، ولكنه يصيب، بدرجة أساسية، الفئات الاجتماعية المُعرَّضة للخطر أكثر من غيرها.
***
والآن للنظر للفئات الأقل عرضة للإصابة، ثم نناقش الفئات الأكثر عرضة للإصابة:
1) الطبقة الرأسمالية أقل عرضة للإصابة بالفيروس.
إذا تجاهلنا حالة دونالد ترامب، العبيط والمستهتر، وأمثاله التي لا يقاس عليها، فإنَّ المنتسبين لطبقة الأغنياء، في ظل الجائحة القاتلة التي تعصف بالعالم، غالبًا لا يعملون ، وينعمون بعطالة مريحة، وهم يقطنون آمنين في منازلهم، أو أنهم يعملون آمنين عن بُعد، من منازلهم الفسيحة، والكثيرة، وتفصل بين بعضهم البعض مئات الأمتار، وتفصلهم عن بقية أبناء الشعب عشرات، أو مئات الكيلومترات، و تصل إليهم حاجاتهم من المواد الغذائية الطازجة والصحيِّة، بشكل منتظم إلى منازلهم، دون أن يضطروا إلى التسوُّق بأنفسهم، والاختلاط بعامة الناس ، أو التعرض للجوائح. والأغنياء يقضون أوقاتهم في منتجعاتهم الجميلة، يمارسون السباحة على أنغام الموسيقى، ويتجولون مع كلابهم في حدائقهم الفسيحة المُسوَّرة، ويمارسون رياضة الجولف و اليوجا، ويأكلون الفواكه والخضروات الطازجة، والكافيار، Caviar، ويشربون النبيذ المعتق لعقود طويلة. وعندما يمرضون، أو يصابون بوعكة بسيطة، يتم الاعتناء بهم، بشكل استثنائي فائق، كما جرتِ الأمور مع ترامب قبل ثلاث أسابيع، في المستشفيات العسكرية أو الخاصة، المُجهزة دائماً بكل الوسائل الطبية، فتكون النتيجة أنهم ينعمون بالصحة، ويعيشون حياة سعيدة وعمراً مديدا.

2) الطبقة العاملة أكثر عرضة للإصابة بالفيروس.

وبالمقابل فأنَّ ملايين العمال، من مختلف المهن، ومن الجنسين، كالأطباء والممرضات، والمُنظِّفين، والمُهندسين، والعُلماء، والمزارعين، والعاملين في صناعات الغذاء، وفي صناعة التوابيت، وفي قطاع المواصلات، وفي قطاع النقل، وفي تدوير الزبالة، وغير ذلك من المرافق الاقتصادية والخدمية، يُجبرون على العمل من خارج منازلهم، وإلاَّ فأنَّ رواتبهم ستتعرض للتوقف. إذن خياراتهم محدودة للغاية: الموت من المرض، أو الموت من الجوع، أو الموت من الاثنين معاً، فيختارون الذهاب للعمل وقضاء حاجياتهم المختلفة، ثم الموت من المرض. وهؤلاء حتى عندما يبقى جزءٌ ضئيل منهم في البيوت، وخاصة المتقاعدين والعاطلين عن العمل أو غيرهم، لاعتبارات معينة، فأنهم يضطرون إلى التسوق بأنفسهم لتلبية احتياجاتهم من الغذاء، ويتعاركون مع غيرهم على أوراق المراحيض، وبعض المواد الغذائية. كما أنَّ كثيراً منهم يستخدمون المواصلات العامة، وبالتالي يدخلون في حومة الازدحام في الأسواق وفي وسائل المواصلات، فضلاً عن الازدحام الذي يعانون منه في منازلهم الصغيرة والقذرة، في المطبخ وغُرف النوم، والحمامات، وبالتالي يصبحون عرضة للإصابة بالوباء. ولذلك تكون النتيجة أنهم يصابون بالأمراض بنسب كبيرة، ويعيشون حياة بائسة وعمراً قصيراً إذا حالفهم الحظ.

***
وبعد هذا العرض الموجز للوضع الطبقي للأغنياء والفقراء وتفاوت المخاطر التي يتعرضون لها؛ وأعني تعرض كل فئة، بشكل مختلف عن الأخرى، لننتقل الآن إلى الوقائع والمقاربات العلمية، بعيداً عن الفرضيات غير المحققة أو نظريات المؤامرة.

ب) حقائق لا تقبل الدحض

لا يوجد شيء مثل تفشي فيروسي محايد اجتماعيا، يصيب الناس جميعاً دون تفريق. فهذه أكذوبة كبرى. إذْ إنَّ الدراسات الحديثة أظهرت أنَّ عوامل مثل العمر والجنس والحالة الزوجية، Marital status، وحجم السكن والوضع الاجتماعي، لها تأثير كبير على معدل الوفيات في المدن التي يقطنون فيها. فإذا كنت تعيش في منطقة الطبقة العاملة، فمن المرجح أن تموت بسبب المرض. وهذه الخلاصة كانت ناتجة عن دراسات مُفصَّلة أُجرِيتْ في شيكاغو مع الأميين والعاطلين عن العمل، وأولئك الذين يعانون من ظروف معيشية ضيقة للغاية، حيث وَجدتْ أنَّ نسبة الوفيات بينهم، أعلى من أولئك الذين يقطنون أحياء الطبقة الغنية.
ففي جائحة الأنفلونزا لعام 2009، التي يُعتقد أنَّها قتلت ما بين 150،000 و575،000 شخصًا، كان معدل الوفيات أعلى 20 مرة في بعض بلدان أمريكا الجنوبية الفقيرة، وثلاث مرات في الأجزاء الأكثر فقراً في إنجلترا، مقارنة بالأجزاء الأكثر ثراءً. ومع انتشار الفيروس التاجي الجديد، كورونا، في أنحاء العالم، نعلم أنَّ الأشخاص الأكثر تعرضًا لأسوأ آثار المرض هم كبار السن، وتشمل الفقراء، وذوي الدخل المحدود، والذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، وأولئك الذين هم عرضة للإصابة بالعدوى بسبب طبيعة عملهم. هذه حقائق علمية لا تقبل الدحض.

إنَّ العمال، بمختلف شرائحهم، وبشكل خاص الأقليات العرقية، هم أكثر الناس تضرراً من جائحة كورونا. وهذه الفرضية ليست قائمة على نظرية المؤامرة، كما يزعم الجهلة والحمقى، ولكنها تستند على وقائع علمية صلبة.
في الولايات المتحدة الأمريكية، وتحديداً في مدينة شيكاغو، كشفت الدراسات أنَّ 70% من ضحايا الفيروس التاجي كانوا من السود، على الرغم من أنهم لا يمثلون سوى 30% من السكان. وقد ظهرت تقارير مماثلة في نيويورك وديترويت ونيو أورليانز، وغيرها من المدن الأمريكية.
وفي بريطانيا تشير البيانات الصادرة عن المركز الوطني للتدقيق والبحوث في العناية المركزة، ICNARC، إلى أنَّ 35% من مرضى الفيروس التاجي، المصابين بأمراض خطيرة هم من خلفيات سوداء أو أقليات عرقية، على الرغم من أنَّ نسبة هذه الأقليات لا تزيد عن 14% من مجموع سكان بريطانيا.
***
ج) الفقراء والمصير البائس

الفقراء عند اشتداد الجائحة في موجتها الأولى، كانوا حينما يمرضون، يبقون في منازلهم حتى يفارقون الحياة، ولا يتاح لهم العلاج في المرافق الصحية العامة، بسبب الازدحام في المستشفيات، ونقص الخدمات الطبية فيها. وفي أحيان أخرى وحينما كانت تدهورت حالتهم الصحية، و يحالفهم الحظ، ويتم نقلهم إلى المستشفيات، تجري المفاضلة بينهم وبين غيرهم على أساس العمر والأهمية، وغير ذلك من الاعتبارات الاجتماعية والطبقية، بسبب نقص الكادر الطبي، ونقص وسائل الوقاية، والإمكانيات الطبية، فيترك كبار السن، والأقل أهمية، من وجهة نظرهم، غير الأخلاقية، نهباً للموت، وتتم غالبًا معالجة الأصغر سناً، والأكثر أهمية. لذلك فأنَّ الفقراء يعيشون حياة عسيرة وقصيرة.
هذه الفوارق الطبقية القاتلة، بكل ما يترتب عليها من نتائج، ليست قائمة، بنفس القدر، في البلدان الاشتراكية، مثل الصين، أو كوبا، أو فيتنام أو البلدان الأقرب إلى الاشتراكية، التي لديها نظام صحي متطور، مثل الدول الاسكندنافية وألمانيا. ومجموع هذه الدول، وبشكل خاص الصين التي تكاد تتجاوز محنة الجائحة، وتعمل، دون كلل، من أجل إنقاذ البشرية من كورونا، عبر تصنيع أجهزة التنفس وغير ذلك من المعدات الطبية، فضلا عن السعي الحثيث لإنتاج لقاح مضاد للجائحة ، وقد أفلحت في ذلك وبدأت في تصدير اللقاح إلى الدول الفقيرة . ولكن الأزمة التي اوضحتها في هذه المقالة، تتجلى بوضوح مأساوي في البلدان الرأسمالية المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، فضلًا عن البلدان الرأسمالية الأقل تطورًا، مثل الهند والبرازيل والمكسيك.
لقد تمكنت الدول الرأسمالية الصناعية الأكثر تقدمًا في العالم ، بعد جهد بحثي كبير، من إنتاج لقاح طبي لمواجهة الجائحة. هذه الدول هي روسيا، وأمريكا وألمانيا، وبريطانيا، ، ويعتقد المتفائلون أنْ تتمكن الدول الصناعية من تعميم اللقاح في البلدان الرأسمالية خلال عام 2021، ولكن حتى لو أفلحت هذه الدول في توفير وتعميم اللقاح اللازم فأنَّ الاستفادة منه ستكون قائمة على أساس المفاضلة بين البشر، وليس على أساس المساواة بينهم. إذْ سيستفيد من اللقاح في البدء الأغنياء في البلدان الغنية ذاتها، ثم ستتسع العناية لتشمل الفئات الأخرى، وخاصة في البلدان التي تحظى بأنظمة صحية متطورة. بعد ذلك سيصل اللقاح إلى الأغنياء في البلدان الأقل تطورًا، ثم الأغنياء في البلدان الفقيرة، وأخيراً إلى الفقراء. وهذه الفئة الأخيرة ، وتشكل الأغلبية البشرية، ستحصل على اللقاح في وقتٍ متأخر جدًا مقارنة بالفئات الأخرى، وقد لا تتمكن من الحصول على اللقاح النوعي بيسر، بسبب أوضاعها الاقتصادية، وبالنتيجة يمكن أن يفنى جزء كبير من الجنس البشري، دون ضجيج، كما هو الحال دئمًا مع موت الفقراء عبر التاريخ.
وهكذا ففي العالم الرأسمالي، القائم على التفاوت الطبقي، وتحقيق المزيد من الربح، على حساب الإنسان، يبقى الأغنياء على قيد الحياة ويفنى الفقراء. يا له من عار يتوج الرأسمالية في عصرها الوبائي.

د) خاتمة:

ما قلته للتو ليس ناتجاً عن خيال مريض لرجل متحامل على الرأسمالية، ولكنه تعبير عن الوقائع والمعطيات الإحصائية الصادرة عن عشرات المواقع العلمية.

وكاشتراكي، لا أضع الأيدلوجية فوق العلم، أنني لا أسعى إلى موت الأغنياء لكي يتساووا مع الفقراء في نعمة الموت السريع، ولكن ما حاولتُ أنْ الفت الانتباه إليه هنا هو ضرورة إقامة نظامٍ إنساني عادل، في بلادنا وفي العالم العربي الذي يهرول اليوم صوب إسرائيل ، تحت وهم أنها ستحميه من إيران ، وستنقضه من المجاعة ، وستحقق له الازدهار، كما عملت حكومة السودان شهرين ، وطوحت بكل منجزات الثورة الشعبية السودانية العظيمة، وتلتها المغرب.
أقول أنَّ ما نسعى إليه، كاشتراكيين، في بلادنا وفي العالم العربي والعالم قاطبة، هو إقامة نظام عادل، يحمي الجميع، ويسعى لإنقاذ شعبنا وكل البشرية، ليس من الموت الطبيعي الذي لا مفر منه، ولكن من الموت غير الطبيعي الذي ينجم عن استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، و من التفاوت الطبقي الهائل بين الأغنياء والفقراء، على صعيد كل بلد، وعلى صعيد العالم. بتعبير آخر، فأننا نسعى إلى ضرورة إقامة نظامٍ عادل لا يهدف إلى تحقيق الربح وحماية الأغنياء، وقتل الفقراء، وتدمير البيئة، ثم تدمير المقومات الطبيعية للحياة، وبالتالي القضاء على جزء كبير من الجنس البشري برمته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غرقُ مطارِ -دبي- بمياهِ الأمطارِ يتصدرُ الترند • فرانس 24 /


.. واقعة تفوق الخيال.. برازيلية تصطحب جثة عمها المتوفى إلى مصرف




.. حكايات ناجين من -مقبرة المتوسط-


.. نتنياهو يرفض الدعوات الغربية للتهدئة مع إيران.. وواشنطن مستع




.. مصادر يمنية: الحوثيون يستحدثون 20 معسكرا لتجنيد مقاتلين جدد